تعد الأسرة المؤسسة الاجتماعية التي نجدها في كل المجتمعات البشرية وهي تتأثر بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع. ومن أهم الجماعات وأعظمها تأثيراً في حياة الأفراد والجماعات فهي تقوم بالدور الرئيسي في بناء المجتمع وتدعيم وحداته وتنظيم سلوك أفراده بما يتناسب مع الأدوار الاجتماعية المحددة وفقاً للتشكل الحضاري العام (العزة،2000: 18).
لذا فهي تقوم بالعديد من الأدوار الهامة والضرورية في حياة أفرادها فهي المسؤولة عن وجودهم وهي القائمة على تربيتهم بدنياً ونفسياً واجتماعياً وأخلاقياً ودينياً واقتصادياً وتكاد الأسرة هي المؤسسة الوحيدة التي تقوم بدورها طواعية واختيارياً (حافظ وآخرون،2000: 107).
وللوالدين عادة أساليب خاصة من السلوك اتجاه أولادهما في المناسبات المختلفة سواء داخل المنزل أو خارجه وهي الأساليب التي نجملها في كلمة المعاملة الوالدية (الرفاعي، 1972: 382).
وإن إدراك الطفل لهذه المعاملة فهو إحساس الطفل بسلوك والديه معه وتفسيره لاتجاهاتهما في مواقف التنشئة الاجتماعية وهي عملية معقدة تتضمن تفاعل الطفل مع الموقف وتفسيره لاتجاه والديه نحوه بحسب خبراته السابقة معهما واتجاهاته نحوهما وحكمه عليهما وفهمه لعلاقته بهما (مرسي،1986: 105).
فإذا كانت المعاملة السائدة هي النبذ مثلاً فقد يفسر الطفل ذلك على أنه غير مقبول من أفراد أسرته وبالتالي فسوف يرجح هذا الاعتقاد في فكرته عن نفسه، أما إذا كانت المحبة هي الجو السائد فإنها توحي للطفل بأنه متقبل وسوف يرجح هذا الاعتقاد في فكرته عن نفسه وان الاتجاهات التي تتكون في الفترة المبكرة من حياة الطفل لها من الأهمية الكبيرة لأنها متى ما تكونت وتأصلت سيكون من الصعب تغييرها (Hoffmen, et. al,1988:218).
ويرى (سوليفان) أن شخصية الفرد تتكون من خلال تفاعل الفرد مع الآخرين في مجتمعه (الجبوري،1990: 46) في حين ترى دافيدوف أن شخصية الفرد تنمو وتنصقل من خلال التنشئة الأسرية فيتولد شعوره الإيجابي نحو ذاته (دافيدوف،1983: 589) وأن الفرد يتعلم الخبرات والمهارات والمعايير الضرورية التي تمكنه من أن يصبح عضواً مؤثراً في المجتمع عن طريق الأساليب المختلفة في التنشئة الاجتماعية (تركي،1974: 6) وأن أثر الوالدين في نمو شخصيات أبنائهم يتمثل في آثار أساليب تعاملهم في شعور الأبناء بالآمن أو عدمه وفي توافقهم النفسي والاجتماعي (الريحاني، 1985: 219) وأن إدراك الأبناء لهذه الأساليب ليس مجرد إحساس بسلوك الوالدين كما يحدث فعلاً ولكنها عملية معقدة تتضمن تفاعل الفرد مع الموقف وتفسيره لاتجاه والديه نحوه بحسب خبراته السابقة وفهمه للعلاقة بينهما (جوانة،1992: 4).
ولأهمية تلك الأساليب في المعاملة الوالدية التي يتبعها الآباء والأمهات في تنشئة أبنائهم والتي لها الأثر الأكبر في تكوين شخصية أبنائهم أجريت دراسات متعددة لتحديدها حيث أشارت دراسة “شايفر” Shaefer 1959 إلى أن أساليب المعاملة الوالدية تتحدد ببعدين رئيسين هما: الاستقلال – السيطرة الحب-العداء (Shaefer,1959:103) وتوصلت دراسة “بوميرند” 1967 Baumrind إلى ثلاثة أساليب للمعاملة الوالدية وهي التسلطي، الحازم، التسامح. (Baumrind,1967:493-496) وتوصلت نتائج دراسة “تركي” 1974 إلى ست أساليب للمعاملة الوالدية وهي: التقبل، النبذ، الاستقلال، التحكم السيكولوجي، مطالب الإنجاز (تركي، 1974: 132-135).
وفي الثمانينات ميزت دراسة “سعيد” (1981) ست أساليب للمعاملة الوالدية وهي: التشجيع، النصح والإرشاد، التسامح والتساهل، الحرمان والنبذ، العقاب البدني، والتذبذب في المعاملة (سعيد،1981: 12) وتوصلت دراسة محمود وعيسى (1987) إلى خمسة أساليب للمعاملة الوالدية هي: الديمقراطي، التسلطي، الحماية الزائدة، الإهمال، التذبذب (محمود وعيسى،1987: 24) وفي التسعينات أظهرت دراسة الكيكي (1991) أن هناك أربع أساليب للمعاملة الوالدية هي الحزم، التسلط، التسامح، الإهمال (الكيكي،1991: 8).
وتوصلت دراسة ديوان 1996 إلى خمسة أساليب للمعاملة الوالدية هي: الديمقراطية، التسلطي، المتذبذب، الإهمال، الحماية الزائدة (ديوان،1996: 17-18) وتوصلت دراسة العتابي (2001) إلى خمسة أساليب للمعاملة الوالدية هي الحزم، التسلط، التسامح، الإهمال، التذبذب (العتابي،2001: 24) ويشير كل من مسن وكونجر وكاجان إلى أن نمط شخصية الطفل تتحدد بنوع العلاقة بين الطفل ووالديه في ضوء بعدين أساسين من أساليب المعاملة الوالدية وهما (الدفء-العداء) (الصرامة-التسامح) (Mussen,Conger, Kagan,1980:272-274).
وفيما يأتي توضيح لهذين البعدين وتأثيرهما على شخصية الأبناء:
1- (الدفء – العداء) Warmth – Hostility
إن سلوك الوالدين اللذان يتصفان بالدفء في أسلوب معاملتهما لأبنائهما يتسم بالقبول والاستحسان والرعاية والاهتمام بالطفل واستخدام التفسيرات عند التهذيب والاستخدام القليل للعقاب البدني واستخدام المدح والثناء عند التهذيب (Mussen et. al,1980:274) ويشير سارفينو (Sarfino 1980) أن تربية الأطفال في ظل جو يتسم بالدفء والتسامح، والتقبل وتشجيع الاستقلال، وخلق بيئة ديمقراطية يعامل فيها كفرد وله قيمة لذاته فإن الأطفال إذا ما تربوا في مثل هذا الجو تتاح لهم حرية الاكتشاف والاستكشاف لاختيار مهاراتهم في مهمات واسعة ومتنوعة لذلك فهم مع الآخرين يكونون أكثر فاعلية ونشاطاً انبساطيين، مستقلين ميالين إلى الحزم في تعاملهم مع الآخرين (Sarfino,1980:304).
وإذا ما ارتكبوا خطأً تعرضوا إلى العقوبة فإن ذلك يتناسب مع حجم تصرفهم ويكون مقتنعاً بما حدث (Hurlock,1983:134-139) حيث أن خلق أجواء ديمقراطية في التفاعل بين الآباء وأبنائهم للتعبير عن الذات والمشاركة بمناقشة الأمور التي تتعلق بحياتهم بطريقة صريحة بعد أخذ رأي الوالدين وهذا يوفر لهم بيئة نفسية متسمة بالهدوء والآمن والاستقرار (الرحو،1994: 104) وتشير دراسة رادكه Radka 1965 أن الأطفال الذين ينتمون إلى هذه الأسر كانوا أقل ميلاً للمشاجرة والمشاحنات مع أقرانهم وأكثر مراعاة لمشاعر الآخرين وأكثر نجاحاً في علاقاتهم الاجتماعية (كونجر وآخرون،1970: 379) وهم حسب ما تراه هارلوك Hurlock 1983 ذو شخصيات جيدة ولديهم تكيف اجتماعي سليم مع الآخرين ويعطون أهمية إلى حقوق الآخرين (Hurlock,1983:133) بينما يظهر سلوك الوالدان اللذان يتصفان بالعداء العكس من ذلك بحيث يسود هذا الأسلوب التحكم الزائد والسيطرة ونقص العاطفة والحب والدفء ويتسم بالطاعة العمياء والثورية والتأكيد بصورة مستمرة على السلطة مع الابتعاد عن جو التفاهم بين الأبناء والوالدين (المهداوي،1998: 45) وأن العقاب والقسوة قد يكون له أثر معوق لانجذاب الأبناء نحو آبائهم ومن ثم سوف يتولد لديهم شعور بكره السلطة الوالدية وتجنبها بسبب ما يتوقعونه منها من إهانة والآلام (عبدالقادر،1970: 142).
ويتضح من دراسة مسن وآخرون 1963 أن الأطفال الذين لم يحصلوا على عطف أبوي كاف كانوا أقل أمناً نفسياً وأقل ثقة وأقل توافقاً في علاقاتهم الاجتماعية وأقل اندماجاً مع الآخرين (Mussen, et. al,1963:16) ويميلون إلى الامتعاض من أولئك الذين هم في السلطة لهم علاقات عدوانية مع والديهم وأنهم سلبيون بائسون ويعانون من سوء التكيف الاجتماعي مع الآخرين (Hurlock,1983:133).
2-(الصرامة – التسامح) Restrictive – Permissive
يتضمن هذا البعد من سلوك الوالدين استخدام قدر كبير من التشدد والضبط والسيطرة، فهم يتبنون الفلسفة القائمة على اتباع الصرامة والقسوة في التنشئة والمتضمنة فرض الأوامر الرتيبة والخضوع المطلق دون مناقشة والتي تحد من حرية الطفل (كونجر وآخرون،1970: 490) والآباء الميالون إلى شدة التقييد يهتمون كثيراً بالتزام النظافة والترتيب والمحافظة على أثاث المنزل وصرامة تنفيذ المطالب على الآبناء (Mussen, et. al,1980:272) والتشدد على الطاعة العمياء والتأكيد على احترام السلطة مع قليل من التفاهم بين الطفل ووالديه (Mecondless,1973:91) وإظهار الوالدين للغضب وعدم الرضا وعدم الأخذ برغبات الطفل ورأيه (Hetherighton & Park,1986:494) وتأكيد الوالدين على قيمة الحصول على طاعة فورية طويلة المدى من أطفالهم من خلال العقوبة الجسدية (Binger,1979:39) ونقد الطفل وتخويفه دون ضرورة وغالباً ما يكون هؤلاء الآباء قد تعرضوا لأسلوب التحكم الزائد من خلال طفولتهم مما جعلهم يعكسون هذا الأسلوب في تربية أطفالهم (كونجر وآخرون،1970: 490).
وإن أبناء هذا الأسلوب نجدهم من الأطفال العصابيين نظراً لسلوك الوالدين المتبع معهم بحيث، لا يسمح للطفل بكثير من الحرية ويعاقب على المخالفات التافهة ولا يسمح له بالتعبير عن هذه العداوة من خلال السلوك لذا فإن الطفل يستدخل هذه العداوة في نفسه أو تتحول باتجاه الذات وتسبب بعضها في إحداث الاضطراب والصراع الداخلي وقد يؤدي ذلك إلى عقاب الذات والميول الانتحارية والاستهداف للحوادث فضلاً عن ذلك يكون الطفل خجولاً قليل الثقة لا يستطيع أن يؤدي دور الكبار الراشدين أو قليل الرغبة والدافع إلى ذلك (Mussen, et. al,1980:277) أما الوالدان اللذان يتصفان بالتسامح فيظهران على العكس من هذه الصفات فهم يسمحون للطفل بدرجة كبيرة من الحرية، ويسايروا حاجاته ورغباته ويتسامحون معه ولا يستطيعون رفض طلباته ولا يزودونه بالتدريب السليم ليعتمد على نفسه بدرجة كبيرة (كونجر وآخرون،1970: 491) وعدم محاسبة الأبناء عند قيامهم بأعمال غير مألوفة أو مقبولة وترك الطفل على حريته من دون توجيه أو إرشاد حتى وإن كان الخطأ بحق الوالدين نفسيهما (صالح،1988: 99) وإن بعض الأسر عندها قوانين وضبط سلوكات أطفالها فتسرف في التسامح معهم إزاء سلوكاتهم الخاطئة لذلك ينشأ الأطفال لا يقيمون وزناً للنجاح معهم وغالباً ما يكونوا غير مهتمين (العزة،2000: 47) ولا يشعرون ولا يقدرون المسؤولية ويكونوا اتكاليين وأنهم يعجزون من أداء واجباتهم المدرسية إلا بمساعدة آبائهم لهم (الكيكي1991: 22).
وفيما يتعلق بتأثير أي من الوالدين على شخصية الطفل فقد أشارت عقراوي (1992) أن العالم الاجتماعي للطفل هو أكثر تعقيد وأوسع مما يعتقد وأن الطفل يتأثر ويؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر بكلا الوالدين وإنه ليس متسلماً أو مستقبلاً فقط وبإمكانه أن يكّون ارتباطاً مع أكثر من شخص واحد (عقراوي،1992: 73).
ويشير “أوزبل” Ausbul 1954 أن قياس سلوك الوالدين كما يدركه الأبناء هو أكثر ارتباطاً بنمو وارتقاء شخصياتهم وأكثر صدقاً من قياس سلوك الوالدين في معاملة أبنائهم (Ausbel,1954:173-183) وهذا ما تؤيده نتائج دراسات “كاجان” (Kagan,1958:311-320) و “شايفر” (Shaefer,1965:413-424) و سيكلمان (Siegelman:1965:413-424) و “تركي” (تركي،1974: 160-163) و “الزبيدي” (الزبيدي،1989: 16) و”الرحو” (الرحو،1994: 18) و “ديوان” (ديوان،1996: 20)، و “المعماري” (المعماري،2000: 18) و”العتابي” (العتابي،2001: 22).
ويتضح مما سبق هناك أساليب مختلفة يتبعها الأباء في التعامل مع أبنائهم والتي تترك أثار مختلفة في شخصياتهم وتفاوت في نمط شخصياتهم وتشكيل سلوكهم مستقبلاً ولهذا فقد اعتمد الباحث أساليب المعاملة الوالدية لكلا الوالدين في البحث الحالي وكما يدركها الأبناء لقياس سلوك الوالدين وتأثيرهما على شخصية الأبناء والتي تكون أكثر ارتباطاً بتشكيل وتنظيم شخصية الأبناء في الحاضر والمستقبل.
أساليب المعاملة الوالدية وتأثيرها على شخصية الأبناء مصدر المقالة
لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :