“معاشر الشيعة كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول، وقبح القول” (أمالي الصدوق: الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي ابن بابويه القمي : تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية – مؤسسة البعثة – قم ، ط 1 : ١٤١٧ : ص 240).
يستقطب الملفوظ الخطابي في هذا النص ثلاثية متداخلة تتمحور في (الهوية والثقافة والقيم) لتشكل مستوى من الانساق الحاكمة المؤدية الى الوصف والتنظيم والتميز، كمحددات تتفاوت فيها المجتمعات عند التمثل بتلك التصورات.
ولعل الخطاب المغاير في صناعة الهويات عند الامام الصادق “ع” في هذا التشكيل نابع من عمق آصرة العلاقة بينه وبين مواليه، حيث استدعى خلق شعور وجداني لديهم لا ينفك عن الصلة العقائدية والاجتماعية والفكرية المرتبط بالنموذج المثال (الامام المعصوم). في إطار المحافظة على الرمزية الكبرى المتمثلة بالانتماء الى خط العصمة وما تفرضه من قيود وصفات ودلالات مختلفة على الاتباع.
والخطاب في هذا النص هو نظام من العلامات الدالة ذات الإيحاء المفتوح في عملية التأويل لمفهوم (الشيعة) بوصفه رمزا له حمولته الدلالية في الإنتاج الثقافي والديني والاجتماعي والسياسي، وإطارا يفضي الى محددات البنية الخاصة بتلك الهوية، سياسيا واجتماعيا واخلاقيا.
فالشيعة قد تكون نتاجا لمنظور سياسي تشكل على وفق عقيدة تؤمن بما لا يؤمن به غيرها، واولها الاعتقاد بالأئمة” انهم معصومون من الله ولهم السلطة في إدارة شؤون الناس بالحق والدليل ومن الناس التفويض والطاعة ، او نموذجا لطائفة مجتمعية تشكلت وسط محيط من ثقافة الانتماء لأهل البيت “ع” وحاولت السير على طريقتهم في السلوك والأخلاق والايمان، وقد تكون صنفا له محدداته المعرفية في تشكيل ثقافة مغايرة عن المألوف في النظر والحوار والاعتقاد تبرره انساق التعايش مع الاخر المختلف او المؤتلف هدفه تنمية آرائه الناشئة في المواقف والاحداث المختلفة ، فتكون لهم الهوية المغايرة والتحول في الجغرافية الثقافية ذات الامتدادات التاريخية المعبرة عن حقائق في الوعي الجمعي ، والتي من أهمها :
التحول من الفضاء السياسي الى الديني : ولعل هذا التحول جاء نتيجة متغيرات كثيرة فرضها الواقع السياسي والاجتماعي والفكري ، حاول الامام “ع” من خلالها صناعة نموذج من نوع جديد لايتقاطع مع شرعية الاعتقاد والايمان باحقية السلطة لاهل البيت “ع” في اذهان العامة من الناس ، ولايتخلى عن مركزية القيم في تشكيل الكتلة الصلبة ذات الثوابت المتينة.
التحول من قيم الفرد الى الجماعة: وأساس هذا التحول تفرضه صيغة الخطاب الدال على العموم لمتبنيات انصب الاهتمام فيها بالتركيز على موضوع التقييم الجماعي بالتأكيد على الخصائص المقبولة في المجتمع وليس بوصفها نمطا من القيم الجماعية، لتحقيق الاحتياج المستهدف من الخطاب الكامن في تأطير سمات الشيعة بسياق تفاضلي فعال.
التحول من الخبر الى التوصيف: فالآلية التي اعتمدها الامام “ع” في خلق هذا التحول هي الإشارة الى تأسيس قواعدي لا ينظر اليه في شكله البسيط انه مسار لجماعة ذات منظومة قيمية فحسب بل له هو رؤية لرسم موقع قيادة له القدرة في تشييد النموذج الأمثل (القدوة) في إدارة أمور الناس، لان اهم المؤهلات في تلك الزعامة هو احتضان الملكات والخصائص النفسية العالية.
التحول من (الانا) الى (نحن) : وهذا التحول اختزن في الخطاب المذكور حاملا شحنة ثقافية عالية الكثافة تتمثل بالرمزية المعنوية الدالة على انتساب الجماعة المحددة في الخطاب (معاشر الشيعة) الى أئمة اهل البيت “ع” فقول الامام”ع” “كونوا لنا زينا ولاتكونوا علينا شينا “، يمثل أنوية انتسابية غايتها ابراز فرز طبقي تصبح فيه هذه الجماعة مثالا لهوية متفردة ذات معنى عميق.
واذا كان الفضاء القيمي بوصفه أطروحة لاتقع في الأيديولوجيا، فان له ضروراته الدافعة في ان يكون مائزا عن غيره لذلك فان هذا التعزيز في صناعة الخطاب التحفيزي لهوية مغايرة كبعد أساسي في التغيير الاجتماعي والثقافي والفكري، وهو لحظة تطهير تنتقل بالمخاطبين الى بنية فوقية في وجدان الناس ، ليكون التمايز هو بلورة لتحولات دافعة نحو انضاج الوعي وفق منظور يرتبط بالذات الفاعلة عند التلبس بمساحات من القيم، كونها الواقع العيني الذي ترتبط به تلك الجماعات وتعكس الواقع الفعلي لسلوكياتها ورؤاها واخلاقها فتكون فاعلة في حقيقتها او واهية في وظيفتها عند ممارسة تأثيرها في المجتمع.
وهناك مدى آخر يستهدفه خطاب الامام “ع” في اطار تحديد الهويات زمانا ومكانا من اجل تغيير المحتوى الضمني لتلك الفئة واضافة نوع من السمات الدالة يفرزها السلوك القيمي دون غيره كمحددات ثابتة :منها :
مركزية التقوى : فالمحرك الأساس لامتلاك الثقافة المثالية في الدين الإسلامي هو حضور تلك المركزية الدينية في السلوك الإنساني ، فالتواصل المؤثر” قولوا للناس حسنا” ، والصمت عن اللغو والسيء من القول ، ” واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول، وقبح القول” هي مؤسسات لنظام أخلاقي واجتماعي راق تتصف به الشعوب المتقدمة.
صياغة التعارف : التعارف شرط ضروري للتواصل بين الشعوب ، جاءت الإشارة اليه في سياق من انفتاح المعنى على قبول تلك القيم المشتركة بين البشر ، فجنس الناس خطاب عام يتساوق مع المكونات البشرية كافة ،لان الاستحقاق المتيقن هو منطق المحبة المقرون بالاحسن من القول تحية وتواصلا .
ديمومة البقاء الإنساني : لعل من شروط البقاء والأمان النفسي هو شيوع تلك القيم ، فالمفاضلة بين الشعوب في رقيها الحضاري وانحطاطها هو امتلاك القيم العليا من عدمه ، فالتآلف في التواصل هو مشروع حماية وتأسيس بقاء لتوالد القيم الحقيقية النافعة .
التسامي المطلق : من النوازع الثابتة في المجتمعات البشرية غياب السيطرة على المشاعر والانفعالات ، فتكون سمة الشرور حاضرة في السلوكيات الإنسانية بفوارق مختلفة ، فالقول غير المتزن والحديث عن الاخرين بسوء واللاجدوى في الكلام احيانا من السمات المشتركة في المجتمعات البشرية ، لذلك غدت المعرفة لصناعة النموذج نمطا رئيسا لتلافي تلك الرواسب بالتوجيه تارة او ذكر القدوة تارة أخرى .
وبتلك الحزمة من الصفات المتماثلة تولد الهويات المتغايرة في النمط والرؤية والثقافة من خلال استدعاء ثقافة الاخلاق الفاضلة والتعامل الحسن مع الاخر بالإحسان والأسلوب الجميل وتقدير العواطف مع الابتعاد عن كلام الباطل والبذيء من القول والدقة في حفظ اللسان والكف عن الفضول بترك التدخل في شؤون الناس والبعد عن الكلام الجارح والبذيء، والتحلي بعفة اللسان، والتزين بطيب الكلام وأحسنه. هي علامات ثقافية تجنح الى الانفراد والتميز في صناعة الهوية الخاصة بالشيعة في منظور الامام “ع”.