الموروث الحضاري لمراكز المدن العراقية :

أسباب التداعي وسبل الحفاظ  

الموروث الحضاري لمراكز المدن العراقية :
أسباب التداعي وسبل الحفاظ  
م. د. نهى نعمة محمد الموسوي
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم الجغرافية التطبيقية.
المقدمة : 
      تميزت المدن العراقية القديمة لا سيما المدن الدينية المقدسة (النجف الاشرف ، مدينة الكوفة، كربلاء المقدسة، الكاظمية وسامراء) بطابعها العمراني الفريد، فقد كانت انعكاس لتفاعل مجموعة من المؤثرات الدينية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية من حيث طرق وانماط مواد البناء المحلية المتوفرة فيها إلى شكل شوارعها وطرق تصريف المياه ، فضلا عن العديد من الملامح العمرانية المختلفة التي تعكس قيم ومبادئ العمارة الاسلامية ، إلا إننا نرى هذا الموروث بدأ  يتلاشى أمام التطور العمراني في نمط ومواد البناء ، لذا لابد من التأكيد على دراسة الاحياء في المدن القديمة ولاسيما مدننا العراقية التي تعد أحد النماذج  لهذا التدهور في موروثها العمراني الإسلامي  .إذ تشترك مجموعة من العوامل التي تعمل على تداعي الموروث العمراني في مراكز المدن القديمة بصورة عامة ومنطقة الدراسة بصورة خاصة . واتخذت عملية الحفاظ على الموروث الحضاري اتجاهين الأول : يعرف باسم الحداثة والتحرر من القديم وما يترتب عليه من تغيير في العديد من الملامح التراثية الموروثة ، أما الاتجاه الثاني فيدعو إلى الحفاظ على التراث العمراني الإسلامي القديم . ومن هنا جاء هدف المقال .
الموروث الحضاري :
المقصود بالموروث الحضاري للمدينة : كل ما يتضمنه نسيج المدينة الإسلامية التقليدية من فضاءات مبنية وأخرى مفتوحة تحتل جزءا معينا ضمن هذا النسيج إذ لا يحبذ إزالتها أو نقلها من أماكنها ،شاملا بذلك كل العناصر الحضرية المكونة للنسيج الحضري للمدينة القديمة كالمساجد والمساكن وغيرها من المنشآت الخدمية .وعند الحديث عن الموروث الحضاري  في مراكز المدن لا بد من الإشارة إلى أن المدينة ذاتها تمر بمراحل وأطوار تبدأ بنشأتها أو صيرورتها حتى مرحلة الشباب والذروة لتنضج فيما بعد ومن ثم قد تشيخ وتضمحل ، أو قد تقوم على أعتابها مدينة بمواصفات حضارية تتماشى مع التطور الحاصل . إن مرور المدينة بهذه الأطوار على مر الزمن يجعل من المنطقة المبنية خلال مرحلة النشأة ذات عمر تاريخي طويل مقارنة بالمناطق التي جاءت تالياً ، ويعطي لهذه المنطقة عمقاً تاريخياً من حيث طبيعة الطراز البنائي المعتمد آنذاك ونوعية مادته ، مما أفرز ما يعرف بالمنطقة التقليدية أو منطقة الموروث الحضاري التي تحمل في طياتها القيم الروحية والجمالية مسجلةً في ذلك ثقافة المجتمع وملامح شخصيته .
ويتمثل الموروث الحضاري للمدينة القديمة بنسيجها العضوي المتضام (المتراص) المتسم بالتكامل والتماسك والوحدة وخاصية الانفتاح نحو الداخل ، اذ تظهر المدينة كبنية متلاحمة الاجزاء مكونة من مجاميع عمرانية متراصة مستمرة غير متقطعة وارتفاعات متقاربة تكاد تكون بمستوى واحد عدا تفرد المسجد التي يتميز بارتفاع مآذنه المميزة ، وقد ساهم هذا النوع من التخطيط في توفير اواصر المحبة والالفة بين السكان ، كما كان له الاثر الكبير من الناحية الاجتماعية والامنية الى جانب الحماية المناخية(1).ومن اهم الخصائص والصفات التي اتسم بها النسيج الحضري للمدينة القديمة يمكن تمثيلها بالمؤشرات الاتية : –
  1. المقياس الإنساني : يتعرض المرء في تلك الازقة إلى تنويع متدرج في كل خطوة يخطوها, و قد اقترن ذلك في جمالية الوحدات السكنية بتكويناتها المعمارية من خلال مداخلها, والشناشيل و البروزات, و الانطقة و الاقواس, و مواد البناء (الطابوق والآجر) المحلية و طرز بناءها وزخرفتها و نقوشها.
  2. العضوية:  تتحقق العضوية في المدينة العربية الإسلامية في الانسجام مع المناخ لينعكس على الهيكل التنظيمي للنسيج الحضري(2).
  3. الاحتواء enclosure : إنَّ الخصائص التقليدية التي اتسمت بالانغلاق نحو الداخل انعكست على المدينة التقليدية ككل ابتداءا من البيت فالزقاق ثم المدينة بصورتها النهائية .
  4. الهرمية: تمثل بالتدرج في مستويات الطرق الحضرية من حيث كثافة الاستخدام ومستوى الخصوصية الذي تقدمه للمباني المطلة عليها.
أسباب التداعي : 
ومما لا شك فيه فإن الموروث الحضاري في معظم مدننا العربية ومنها العراقية  يتعرض للتداعي بشكل مستمر وبتأثير عوامل متعددة ، والتداعي الحضاري  هو اضطراب شكلي يصيب هياكل المباني يحدث بفعل مسببات طبيعية وبشرية مقرونة بالإهمال المستمر وغياب إستراتيجيات المعالجة الفنية اللذان يقودان بالتالي إلى تهدم وانهيار المباني وفقدان مميزاتها الأساسية (3). ويمكن تمييز مشكلة التداعي التي تشهدها المباني من خلال واقعها العمراني الرديء ، كأن يظهر عليها مؤشرات التلف والتآكل والتساقط لبعض أو مجموعة من أجزاء تركيبها المعماري وحسب درجة وشدة التداعي (4). إن من أهم الأسباب التي تقف وراء التداعي للمنطقة التقليدية من المدينة هي المنافسة الوظيفية التي يتعرض لها الاستعمال السكني من قبل بقية الاستعمالات وعلى رأسها الاستعمال التجاري ، إذ أدى إلى رفع قيمة الأرض بشكل كبير يمنع الاستعمال السكني من مجاراته وتحمله(5)، مما دفعه إلى مناطق أخرى خارج المنطقة التقليدية ، كما يلعب عامل الزمن دوراً أساسياً في عملية التداعي الذي يشهده الموروث العمراني للمدينة وذلك للبعد التاريخي للبناء، ونظراً لغياب التوعية الفكرية الثقافية لسكان مناطق الموروث العمراني فهم يجهلون القيمة الفعلية لها بحكم الاحتكاك الحضاري والانفتاح على العالم ، أمر في غاية الأهمية والخطورة على المخزون العمراني التقليدي، إذ أن عملية الغزو المبرمج لمنطقة الموروث الحضاري وتحوير المساكن التقليدية إلى مساكن بطرز معمارية غربية حديثة ستعمل على طمس هوية الموروث وفقدانه شخصيته التاريخية وبالتالي تداعي الموروث شكلياً وجوهرياً ، إذ أن لقرارات المجلس البلدي دور حاسم في تغيير خارطة الأجزاء القديمة من المدينة، وبهذا فإنها قد تنقل بعضها إلى استعمال آخر و إلى آفاق لم تكن في الحسبان ، وتعجل في تداعي أجزاء أخرى ، وتبقى أجزاء ثالثة على حالها ، كما ينبغي الإشارة إلى أن هناك توجهين على مستوى تخطيط وتنظيم المدينة ؛ أولهما يرى بأن الموروث العمراني ما هو إلا مجرد بقايا من الماضي وليس من الواجب علينا الإبقاء علية وتقديسه، والتوجه الثاني يرى بأن التراث العمراني يشكل ثروة إنسانية لا يمكن التفريط بها بأي حال من الأحوال كونه يمثل الرصيد القيمي والحضاري للمجتمع(6). وفي الحقيقة تبين أن القوانين البلدية في العراق تبيح للسكان والمؤسسات عملية تحويل الاستعمال السكني ضمن المنطقة التقليدية إلى استعمال تجاري أو غيره من الاستعمالات الأخرى ، إذ لا يوجد قانون صريح يحمي الموروث العمراني فيها.
الحفاظ على الموروث الحضاري :
ونظراً لأهمية الموروث الحضاري لمراكز المدن القديمة  التي تم الحديث عنها آنفاً ، ينبغي أن تعتمد سياسات معينة تهدف لإحياء الموروث وحمايته من التلف والدمار والتآكل ، إذ أدى إلى إحداث تشوه في شكل الموروث ومضمونه ( مظهرياً وجوهرياً) ، وبغض النظر عن درجة التشوه الحاصل. تتعدد مستويات الحفاظ تبعا لحجم و نوع التراث الحضاري وأهميته. و يمكن تصنيفها كما يلي:
    1. إعادة البناء : يتضمن هذا الأسلوب بناء الأجزاء المندثرة للمباني التي لا يمكن ترميمها ، على أن تحافظ عملية إعادة  بناء المباني على سابق شكلها .
    2. الترميم : هو الحفاظ على الحالة العمرانية للمبنى ، ويهدف إلى تجسيد القيمة الشكلية وطراز المبنى من حيث التقنية ومواد البناء عبر الزمن (7).
    3. التجديد   : يتضمن التجديد استعمال مواد حديثة و محاولة توصيل الأثر إلى حالة قريبة من حالته وقت إنشائه.
    4. الإحياء   : و هو إحياء المنطقة التراثية ككل إلى ما كانت عليه من قبل بإضافة أنشطة و مرافق كانت موجودة من قبل.
  • الصيانة : وتقتضي إيقاف حالة التهرؤ ومعالجة المواقع التراثية في المنطقة ، من خلال تخطيط البيئة الحضرية التاريخية بأسلوب معين ، مع الحفاظ على مدلولها الاجتماعي(8).
   ختاما ، أدت التغيرات والتطورات التي طرأت على مراكز المدن القديمة  إلى حدوث تغيرات كبيرة في شكل نسيجها الحضري وتغير في خصائصه وتمزيقه ، لمواكبة الاحتياجات المعاصرة وتغيراتها من حيث (عدد سكان وتطور وسائط النقل وحاجة الى شق الشوارع التي تلائم هذا التطور),ومن جهة أخرى اهمل هذا التطور تحسين وتجديد المساكن القديمة التي بدأت تعاني من التداعي ، اذ تهدم جزء منها وتهرأ الجزء الآخر بسبب عامل الإهمال وقلة أعمال الصيانة والبناء العشوائي لسد حاجة السكان , كل هذا الأسباب أدت إلى تشويه في النسيج الحضري واستعمالات الأرض فيها .
       لذا لابد من الحفاظ على التراث الحضاري للمدن العربية بصورة عامة ومدننا العراقية خاصة ،  اذ اصبح مسئولية تاريخية إنسانية من اجل المساهمة في الإبقاء على معالم الماضي لكي يراها أبناء المستقبل. الا ان استمرار التدفق الثقافي للحضارات العالمية فقد أصبحت عملية الحفاظ على الهوية الحضارية والتراث الإسلامي هدفا أساسيا لابد منه من خلال التفكير في هذه المدن ونسيجها العمراني كونها تمثل الموروث الحضاري لها والتي تعبر عن حقبة زمنية أو دورا من أدوار المدينة التاريخية، وان الحفاظ على الموروث الحضاري للمدن ليس بالأمر السهل ، لأن الكثير من اجزاءها التراثية والإسلامية الاصيلة أصابه التلف والفقدان والجزء الكبير من موروثنا المعماري دمر خاصة خلال الأربعين سنة الماضية تحت ضغط الاقتصاد المعاصر والتكنلوجيا الحديثة. وفي هذا الموضوع يجب ايجاد حالة من التوازن بين (الحفاظ والتجديد) بواسطة تطوير هذه المدن وتفعيلها لتؤمن حاجات المجتمع والتطور الحاصل مع احتفاظها بأصالتها لضمان استمراريتها وديمومتها.
المصادر : 
  1. عبد الجليل ضاري ، سهاد كاظم الموسوي ، الاعتبارات التخطيطية والتصميمية للمدن التاريخية القديمة العربية ، حالة دراسية مدينة كربلاء ، مجلة كلية التربية ، جامعة واسط ، العدد العاشر ، 2011، ص212 .
  2. سلمى خالد عباس القادري ،  اشكالية النسيج الحضري للمدينة العربية الاسلامية (باب الشيخ كحالة دراسية)،رسالة ماجستير (غير منشورة)، المعهد العالي للتخطيط الحضري والاقليمي –جامعة بغداد ،2006، ص 16.
  3. ضياء خميس علي، تداعي الموروث السكني في مركز قضاء الأعظمية ، أطروحة دكتوراه (غير منشورة) ، كلية التربية ابن رشد- جامعة بغداد ،2004 ، ص 70.
  4. خالص حسني الأشعب ،  التوثيق ومفهوم مراحل المدينة العربية ، مجلة التراث والحضارة، المركز الإقليمي لصيانة الممتلكات الثقافية في الدول العربية ، العدد 8 ـ 9 ، مطبعة اوفسيت الانتصار ، بغداد ، 1987 ، ص 19 .
  5. صلاح حميد الجنابي ،  مشكلة التهرؤ ( التدهور) في المدينة المعاصرة ، التشخيص والمسببات ، مجلة الجمعية الجغرافية العراقية ، العدد 35 ، بغداد ، حزيران ، 1997 ، ص 2.
  6. مضر خليل عمر الكيلاني ، قياس تداعي الموروث العمراني الحضري ( أسس ومنهج) المجلة العلمية لجامعة تكريت ، قطاع العلوم الهندسية ، المجلد الثامن ، العدد الأول ، كانون الثاني ، 2001 ، ص500.
  7. أحمد حسين أبو الهيجاء ، آليات التخطيط في حماية التراث العمراني – دراسة لتجربة إيطالية ومدى تطبيقها على واقع منطقة المدينة المنورة ، مجلة أبحاث وتراث ، عدد (3) ، الهيئة العامة للسياحة والآثار – المملكة العربية السعودية ، 2013 ، ص160.
  8. بودريغو م. ف. دى اندرادى، “الحفاظ على المواقع الحضرية” ترجمة الدكتور خالص الاشعب في صيانة التراث الحضاري  المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم، إدارة الثقافة – تونس 1990. ص 323.

شارك هذا الموضوع: