التجدد والانبعاث في الشرق الادنى القديم (العراق) انموذجا
الباحثة : م.م زينب حمود كزار التميمي
جامعة كربلاء
كلية التربية للعلوم الانسانية- قسم التاريخ
المقدمة :
ان انتقال الانسان القديم في العصور الحجرية الى العصر الحديث صاحبه تحولات عديدة في انظمة حياته ومنها التحول الاقتصادي .
وان اول بحث تأقلم معه بعث الطبيعية ,في حبة القمح التي دفنها بنفسه ورجهت للحياة مرة اخرى ,حدث التجدد من العصر الحجري القديم في عبادة القوى الطبيعية وبعدها عبادة الالهة الام من خلال العثور على دمى مختلفة وخاصة مع ظهور الزراعة ,وفي اساطير العراق القديم ظهر دور انكي وننخرساك واينانا وديموزي من خلال التجدد في حياتهما ,مثل بعث الربيع ,لذا انعكست هذه العقيدة على سلطة المجتمع وتتجدد كل سنة بشخص الملك الذي يجرد من سلطاته امام الاله.
وذكر جاكوبسون ان الانجاز الاقتصادي الزراعي كان قلقا ولابد من تأمين وجود القوى الاساسية للخصب ,اذا شيدت المعابد للالهة ,واثرت الحروب في الالف الثالث قبل الميلاد على الحياة الاقتصادية ولجأ الانسان الى شعائر وطقوس الزواج المقدس في عيد اكيتوا وكل سنة تتجدد الاحتفالات ربما للتخفيف غضب الالهة .
ارتبطت معتقدات التجدد والانبعاث في الحضارات القديمة بعقائد الخصب , لاسيما بعد الانتقال الاقتصادي وانتقال الانسان الى حافة السهول واستغلال الاراضي الزراعية, ومن اهم نتائج الزراعة التي مارسها الانسان باعتبارها الاساس لمعيشته وبقائه ووجوده تجسدت لديه بعض المعتقدات والافكار ذات الطابع الديني والتي تدور حول تقديس الخصوبة والانتاج, وقد لاحظ الانسان منذ العصور القديمة ان الطبيعة تغير في حياته فيحل الخصب ويختفي النبات مما يجعل من الصعوبة الحصول على الغذاء وهذا يهدد وجوده بالفناء لذا تصور الانسان ان بمقدرته ان يسخر الطبيعة لصالحه وهذا بداية الاعتقاد بوجود القوة السحرية ولأجل ذلك استخدم الطقوس السحرية اي ان العمل في الخيال يعادل العمل في الواقع وزيادة المحاصيل تأتي من خلال اعماله وطقوسه , ومن ثم اهتم بخصب الارض وانزال المطر من خلال قيامه بالتراتيل والصلاة وتقديم القرابين
وقد قدس انسان الحضارات القديمة الخصوبة وكل ما يولد حياة جديدة ورموز لعباداتهم تمثلت بدمى حجرية وطينية , دلت في مضمونها على زيادة التطور الاجتماعي الذي عد مظهرا من مظاهر الحياة الزراعية الجديدة
وقد مثلت تلك الدمى والتماثيل مظاهر الخصب والتكاثر ومنها التماثيل النسوية المعروفة ب (الالهه الام Mother goddess) التي وضعت بأحجام صغيرة واساليب مختلفة لتصويرها وضخم الاجزاء التي لها علاقة بالولادة والتكاثر وقد ادرك الانسان ان بقائه يعتمد على الغذاء وقدس الالهه الام لتجدد له الحياة والخصب والتكاثر الذي يجعل استمرارية الجنس البشري, وان الدمى التي صنعها الانسان القديم هي التي كانت تمثل الالهه الام وتمثل نتاج حسي وفني وهذا يجعلنا نقف على تأملات الانسان في القوة الالهية التي تصور الاشياء عنها
وكانت ظاهرتي الخصب والجدب من اهم واكبر الظواهر التي شغلت الانسان , والاسطورة كانت احدى الوسائل لفهم ظواهر الكون ومنها الخصب وتمثل النصوص الاسطورية كل الكتابات التي تمدح الالهه وتبجلها وتضيف لها هالة من التقديس وتبالغ في مناطق الخصب فيها , وكل ذلك من اجل الوقوف على نماء الطبيعة واستمرار التكاثر ودوام الانسان في العبادة لرضاء الالهه عليه
كانت الالهه (انانا Inanna ) عبارة عن قوى متجددة مطلقة ومن وظائفها استمرار الحياة لذا من طقوس عبادتها الزواج المقدس والي يكون في طقوس احتفالية مخصوصة
وان نزول انانا في اسطورة انانا وديموزي الى العالم الاسفل حيث تبدأ قصة ديموزي في حب ايتانا (عشتار) حيث تزينت وتسلحت ونزلت الى العالم السفلي , لتطلب المساعدة من الاله (انكي Enki) اله الحكمة الي يتولى انقاذها وتلتقي فيها بالالهه إرشكيجال (Ereshkigal) والانوناكي القضاة السبعة في العالم الاسفل الذين صوروا لها نظرات الموت حيث تحولت الى جثة هامدة ويجب ان تعود لكي يعود الخصب من جديد , وفي اليوم الرابع لفقدان انانا ذهب ننشوبر الى الالهه انكي ليبتدع وسيلة لبعثها الى الحياة بانه خلق مخلوقين وامرهما ان يذهبا الى العالم السفلي ونشرا طعام وماء الحياة على جثتها , واستجاب المخلوقان للأوامر وعادت انان الى الحياة مع تقديم البديل
وهكذا خرجت انانا محاطة بالشياطين , وحاولت ان تقصد المدينتين اوما وبادابيرا , فلم يأخذها الشياطيين بسبب مظاهر الحزن التي ظهرت عليها ثم ذهبت الى مدينة الاله ديموزي ووجدته مرتديا لحلي العيد والافراح ومتربعا على عرشه غير مهتما بها , لذلك غضبت منه وصوبت له نظرة الموت وسلمته الى شياطين العالم الاسفل , وهنا توقفت كل مظاهر الخصب وحل محلها الجفاف والقحط , ومن هنا جسد العراقي القديم اله الخصب باله شاب ورع وهو الاله ديموزي , ولقب بالثور الوحش , وذلك من اجل ضمان استمرارية وتكاثر الانسان والنبات في البلاد
والرواية السومرية لنزول عشتار الى العالم الاسفل جاءت بحدود 13 رقيم وكسرة في مدينة نفر في النصف الاول من الالف الثاني قبل الميلاد , في حين تذكر الرواية البابلية لنزولها والتي وجدت في خزانة الملك الاشوري اشور بانيبال تعود الى القرن السابع قبل الميلاد والنص الاخر من اشور يوضح انه عندما اقتربت الاله عشتار من الاله ايرشيغال غضبت الاخيرة وامرت وزيرها نمتار بان ياخذ عشتار ويسحبها في قصرها ويطلق عليها ستين نوعا من الامراض لتصيب اعضاءها وجوارحها , وان وجود تموز على قيد الحياة هو لديمومة الحياة فما كان من اخته كشتن انا من حيلة سوى ان تنزل بدلا عنه لستة اشهر لغرض اتمام مراسيم الزواج المقدس بينه وبين عشتار
وانانا في اللغة السومرية لها نفس صفات الالهه عشتار في مجمع الالهه الاكدية ويمكن ان نجمع الصفات المشتركة بينهما حيث انهما الهتان للحب والحياة الجنسية والهتان للحرب والنزعة القتالية والهتان نجمة الزهرة (فينوس السماوي) , وتحتل عشتار في اللوح السادس من ملحمة كلكامش صفة خاطفة الرجال ومنهم ديموزي وشوكال اتودا في اسطورة انانا وشوكال اتودا
وتعد الالهه انانا-عشتار في الفكر السومري الالهه الام من خلال النصوص المسمارية ذات العلاقة بعبادتها وهي ابنة سين اله القمر ووالدتها الالهه ننغال واخيها اله الشمس اوتو واختها ارشيغال ومن صفاتها الحب والجمال والجنس وسيدة الحرب والبقرة القوية والزوجة المحبوبة وملكة النواميس الالهية وعرفت الالهه عشتار بنجمة الزهرة والتي ترى بالسماء حيث تطلع الفجر ويتجدد ظهورها بالغروب اي انها تعطي الحياة والخصب
ومن الالهة التي تعرضت للموت الاله انليل عندما قدرت الالهة نفيه الى العالم الاسفل ,ولقد لحقت به الاله ننليل وهي حامل بابنها الله القمر “سين “التي انجبته في العالم الاسفل مع ثلاثة أخوته ,وتعرض الاله القمر سين الى هجوم الالهة الشريرة القادمة من العالم الاسفل ,وانقذه ايا,وهذا يدل على خسوف القمر حيث تقام في 27 من شهر نيسان ترنيمة الى الاله نركال اله العالم الاسفل ويقام مهرجان ابسو للاله النهر وهذا استعداد لنزول القمر الى العالم الاسفل وعبوره نهر الموت عند خسوفه.
وعشتار في بلاد الرافدين تسمى عشب الارض واخوها الاله اوتو اله الشمس وكانت ملكة السماء وعابرة السماء العذراء الطاهرة والتي لا تنقص خصوبتها وكما في النص:
عسى ان تمنحك عشتار زوجة دافئة
الاطراف تضطجع معك , وعسى ان تمنحك اولاد اقوياء السواعد
وعسى ان تجد لك منزلا سعيدا
وهذه الالهه تحيي الارض بعد موتها ومن ثم تزدهر وتثمر ومن الامهات ايضا تيامات وننخرساك
والالهه عشتار اثرت على الطبيعة والحياة الجنسية عند مغادرتها الارض وتوجهها الى العالم السفلي حيث تحتجزها اختها ايرشيغال الهه العالم السفلي لذلك توقفت الارض عن الاخصاب وبعدها توقف الانجاب والنشاط الجنسي ومن المصائب التي انزلتها ايرشيغال عليها في العالم الاسفل من قبل نمتار وزيرها كما في النص:
بلية العيون على جانبها
وبلية الجوانب على جانبيها
وبلية الاقدام على قدميها
وبلية الراس على راسها
وكل ذلك ادى الى ضعف الاخصاب داخل المجتمع وكل تلك المتاعب التي واجهها المجتمع ترد اسباب اخرى للخروج مرة اخرى
ان فكرة التجدد والانبعاث يمارسها الشعب في كل سنة مثل بعث الربيع لهذا انعكست هذه العقيدة على سلطة المجتمع وتتجدد كل سنة بشخص الملك الذي كان يجرد من سلطاته امام الاله
ان نداء الحياة المتجدد والذي يبدوا واضحا في مدركات الانسان الفكرية على ارض سومر وخاصة التجدد في الحياة وديمومتها وتواجدها في شعائره وطقوسه الدينية لذلك ظهرت الدورة الايقاعية في تعاقب الظواهر الطبيعية مثل الليل والنهار والولادة والموت ونمو النبات وزواله
وفي اسطورة سومرية من اساطير الاله انكي حيث يصل الاله الى مرحلة الموت في مدينة دلمون(الجنة السومرية) , اذا ان الالهه ننخرساك نطقت بلعنة الالهه على انكي وقدرت عليه الموت وبعدها اختفى حتى لا تتراجع في تغيير القرار
كما كان للأرض دورا كبيرا في تجديد الحياة وتم تجسيده بالاله الام لان ذلك المصدر الغامض الذي لا ينضب للحياة الجديدة والخصب في كل انواعه , فهي تلد كل سنة العشب والنبات من جديد وهذا يظهر من جوهر الارض كقوة الهية هي (نن- نو) اي السيدة الوالدة وهي (نغ- زي) اي صانعة كل ما تسميه الحياة
وان بداية ظهور الحياة في قصة الخليقة البابلية,كانت كتلة من العماء الاولى أزلية الوجود ,وبعدها تجسدت ثلاث الهة عتيقية وهم ابسو –ممو-تيامة وهذ التجسيد بيان أن مايظهر من عناصر الحياة كان جزء من كتلة العماء قابلا للامتزاج فيها ,ثم تكونت الالهة الحية في المياة الازلية نفسها كما في النص
حينما لم يكن اي من من الالهة في الوجود
فهم لم يذكروا حتى بالاسم ولم تقرر المصائر بعد
بعدئذ خلق الالهة في داخلهم
من خلال قراءة النص يتبين لنا ان هنالك كتلة صلبة جامدة لا توجد فيها حياة وفجأة تنطلق من الحياة وتخلق الالهة وتجدد الحياة وتبعث تلك الالهة .
وفي العالم الاسفل كانت انانا متحجزة هنالك واستشعرت له مصيرا قاسيا وكأنها ارادت اعداده لهذا المصير وأعتبرت نفسها مسؤولة عنخه كما في النص
ياأبن الملوك اي (أخي ,ياذا الوجه الجميل )
لقد أنفذت حياتك ,لقد انقذت حياتك ولكن ها انت اصبحت هدفا لمصير في منتهى القساوة ,اه ياحبيب قلبي انا التي بدون شك سببت لك هذا المصير القاسي ويرى الباحث نائل حنون في بحث نشره في مجلة سومر هل كان ديموزي اله الخصوبة ام الهة الموت ,في النصوص المسمارية يمثل الهة الخصوبة .ومن القابه الاله الراعي –اله من الهة العالم الاسفل في عالم الاموات ,يتعرض للموت مع ذبول الخضرة خلال فصل الصيف ويقوم ثانية في الربيع حيث تزدهر الطبيعة وتزداد خصوبتها بقيامه سته اشهر ,وبعدها تنزلاخته كشتن انا بدلا عنه.
ويعد الاله دامو اله سومري في عصر أور الثالثة تعرض للفناء ولكنه يرجه في فترة الربيع ,ويظهر الاله بصورة واضحة للخصوبة والحياة ويصعد من الارض ويدخل الاشجار والنبات ,وعند موته في الاشجار ويصبح بعيد في العالم الاسفل ,وتبحث عنه امه وأخته الذي يسكن العالم الاسفل وتقول “لاجل طفلي الغائب البعيد ,ابكي وخوفي الايعود “.
وبعد مرحلة الاحكام الدينية والتقاليد العرفية أخذ القانون جانب مهم في الحياة العامة .وكل المعتقدات الدينية اثرت في سلوكة وتفكيره وحتى اعداد بنود القانون ارتبطت مع القوانين والخوف من عظمة الالهة .
المصادر والمراجع
طه باقر ,المقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج1,بغداد2009
جيمس فريزر,الغصن الذهبي ,دراسة في السحر والدين ,ترجمة احمد ابو زيد ,القاهرة ,1971.
فاضل عبد الواحد ,عشتار ومأساة تموز ,ط2,دار الشؤون الثقافية ,بغداد ,1986.
نائل حنون ,عقاءئد مابعد الموت ,أفاق ,ط2, 1986
قاسم الشواف ,الموت والبحث والحياة الابدية ,ج4,ترجمة دونيس ,ط1, 2001
حكمت بشير الاسود ,ادب الرثاء في بلاد الرافدين ,دار الزمان ,2002ز
راجحة خضر عباس النعمي ,الاعياد في حضارة بلاد الرافدين ,رسالة ماجستير ,بغداد , 1976
يوسف الحوراني ,البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسط الاسيوي القديم ,دار النهار ,بيروت , 1978
