مفهوم السرقة في العقل العربي
أ. د عبير عبد الرسول محمد التميمي
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الانسانية
   تتفوَّق اللغة العربية في مفرداتها ومعانيها وحقلها الدلالي والبلاغي, فقد فاقت على تلك اللغات جميعاً منها : الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية, ونلاحظ امتياز اللغة العربية بوفرة مفرداتها الدالة على أنواع السرقة،  ونجد ان المعجم العربي تفوّق على تلك اللغات بفارق كبير يُعتدّ به إحصائياً ، مثل: الغزو، والإغارة، والاثتلام، وقطع الطريق، والنهب، والسطو، والفتك (السطو وقطع الطريق)، والسرقة، والسَّل، والنشل، والاختلاس، والارتشاء، والنبش (استخراج المال المدفون وسرقته)، وهذا لا يعني أن الناطقين بتلك اللغات الأخرى لم يعرفوا السرقة ولم يمارسها بعضهم ، وإنما يدل على ضخامة اللغة العربية ودلالاتها الواسعة .
    ان النقّاد العرب الذين تناولوا ظاهرة السرقات في الأدب العربي، لاحظوا أنواعاً متعدِّدة من السرقات في الشعر العربي , وغيره من العلوم فلم يقتصر السارق على سرقة المال او الامتعة , وانما تعدى الى سرقة النتاج العلمي والمعرفي ايضا, ومنها السرقة الشعرية من:الانتحال؛ والسلخ ؛ والاهتدام؛ والإغارة ؛ والإلمام ؛ والغصب .
    ان حكم العقل الانساني بصورة عامة والعربي بصورة خاصة يستهجن السرقة ويرفضها رفضا قاطعا , ولا خلاف بين الشرائع والقوانين الدينية والمدنية أنّ جريمة السرقة هي عمل قبيح يستحق فاعله العقاب ال زاجر لما تحدثه في المجتمع من ضياع للحقوق واخلال للامن والاستقرار .
      ولم تكن عقوبة قطع اليد شكلاً غريباً من أشكال العقوبات في المجتمعات القديمة فقد عرفها العرب قبل  الاسلام كما عرفتها الشريعة اليهودية , والمسيحية , وكما هو الحال في تلك الشرائع السابقة فقد نصّ القرآن على قطع يد السارق في قوله :” وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
    ويشير  مصطلح ” أيام العرب” إلى المعارك والوقائع التي كانت تحصل باستمرار بين القبائل العربية قبل الإسلام , ويخبرنا تاريخ العرب قبل الإسلام أن العِير- القوافل التجارية والميرة- كانت تُبِذْرَق – تُحرَس وتُخفَر- من منطقة إلى أخرى طبقاً للقبال التي تعيش في كلِّ منطقة، وإلا فهي معرَّضة لقطاع الطرق والسلب والنهب من قِبل تلك القبائل.
وكانت ظاهرة الصعلكة منتشرة في العصر الجاهلي والعصور التي تلته , والصعاليك هم ” طوائف من قطاع الطرق , كان لهم أشعار يفتخرون بها ويفتخرون بمساعدتهم الضعفاء ، في حين تصعلك بعضهم احتجاجاً على الظلم, إلا ان هذا لا يغير من حقيقة كونهم مجرمين,  ولا يغفر لهم كونهم يشركون غيرهم من الصعاليك الفقراء ,كما لا يمتدحون لقواهم الجسدية التي طالما افتخروا بها كونهم استخدموها للشر والظلم .
ان العقل العربي وحكمه على السرقة ينحصر على قولان : الاول يقوم  على أن السرقة لم يُنظر إليها خلة أو عاراً ، ولم يتبرأ  كثير من العرب في  الجاهلية منها، بل على العكس يفتخر اللص بفعلته ، كما ورد في الابيات الشعرية ومنها قول احد الشعراء  :
      وكم بيتٍ دخلتُ بغير إذنٍ     وكم مالٍ أكلتُ بغير حلِّ!
     الا انه الابيات الشعري ذاتها تثبت ان السرقة امرا خالفا للاداب العامة , وانها حرام وليست من المال الحلال وهو القول الثاني عند اهل المروءة الذين انفت نفوسهم الكريمة ودينهم الحنفي وتوحيدهم الخالص وطهارة قلوبهم واجسامهم على اقترافها بل دانوها ووضعوا لها زعماء مكة المكرمة قواعد وحدود صارمة ومنهم جد رسول الله صلى الله عليه واله السيد عبد المطلب رضوان الله عليه فقد وضع لها معالجات عدة عندما تزعم مكة المكرمة منها بيان قبح السرقة وتثقيف المجتمع على ضرورة نبذها وتربيتة اولادهم على حرمتها والتي تتفق مع الفطرة السليمة والعقل البشري الواعي والراشد , فقد دافع عن حرمة البيت الحرام وتكفل أمن الداخلين اليه ووفر لهم المناخ الملائم , فضلا عن التأكيد على حرمة الاشهر الحرم وعدم القتال فيها , وتأمين الطرق البرية بعقد معاهدات واتفاقيات مع القبائل القاطنة على طول الطرق التجارية , وبذلك امنت القوافل  التجارية وازدهرت الحياة الاجتماعية والاقتصادية في شبة الجزيرة العربية ومركزها مكة المكرمة , وكان في سيرة الرسول محمد صلى الله عليه واله العطرة ومن اشهر  صفاته هو انه الصادق الامين , حتى بعد الاسلام وقبل الهجرة النبوية الشريفة , كان كبار تجار قريش ومعظم اهل مكة المكرمة – ممن لم يسلموا بعد – كانوا يتأمنون اموالهم عند رسول الله صلى الله عليه واله  . 
   لم تكن المشكلة الجوهرية في المجتمع العربي قبل الاسلام تتعلق بشكل عقوبة السرقة وإنما كانت في عدم المساواة في تطبيق العقوبة بين أفراد المجتمع ، قال رسول الله صلى الله عليه واله : (( إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)) .
     وذكر القرآن لفظة حدود تسع مرات ومنها حد السرقة، وقد وضع الفقهاء قيوداً وشروطاً كثيرة, ومنها : أن تكون السرقة على وجه الخفية، وأن يبلغ المسروق ربع دينار ذهباً وأن يكون في حرز، وألا يكون فيه شبهة تجيز له أخذه، وأن يكون السارق بالغاً عاقلاً مختاراً عالماً بالتحريم وأن تثبث السرقة عند القاضي بشهادة عدلين.
    ان العقل العربي السائد مايزال عاجزاً عن ولوج السياقات التاريخية والمضامين الجوهرية للنصوص الدينية التي تتخذ العقوبة لتطبيق الشريعة ومعرفة حقيقة عللها , الا ان قساوة العقوبة ومعيار نجاعتها يكمن ان العبرة يقع بعدالتها وقدرتها على تصحيح مسار الإنسان وإعادته إلى الرشد، كما يجب أن تمنح العقوبة المذنب فرصة لإصلاح نفسه بمساعدة المجتمع الذي يعيش فيه , ان العقوبة الصارمة إنما قررها الإسلام لوضع حدّاً لجريمة التي انهكت المجتمع , وفي  الاحاديث الشريفة إشارة واضحة إلى أن تفشي السرقة دون عقاب يؤدي إلى اضعف المجتمع والدولة معا بحيث تمسى الدولة الفاشلة , وان عقوبةً قطع يد السارق وضعت من أجل ردع عرب الجاهلية وإقلاعهم عن عادة الغزو والإغارة والنهب والسطو التي استحكمت عند كثيرين منهم ، وتحويلهم إلى أمة ذات رسالة وحضارة لا تبنى الا بتوفر مقومات المدنية والدولة ذات الاصول الراسخة ويقع في اولياتها توفير الامن والعدالة والمساواة والقانون .  

شارك هذا الموضوع: