أثرُ السلطات السياسية في الشعر العربي
بقلم : ضياء ريحان السعيدي
لا تخلو أي مجموعة بشرية من وجود سلطة سياسية عليا تنظم شؤون سياستها الخاصة والعامة، فهي مفهوم تنظيمي ضاربُ القدمِ عند المجتمعات الإنسانيّة كافة؛ إذ تتباين أنماط السلطات السياسية من مجتمع لآخر، ومن نظم وحيثيات سياسية لأخرى، وتشتمل كل سلطة سياسية على مقومات سلطوية مادية ومعنوية حاكمة، وتتكون من أسس خاصة بهويتها السياسية؛ إذ تقوم كل سلطة سياسية “وفقاً لفلسفتها الاجتماعية، ودورها في تنظيم اقتصادها القومي، وأثر الجماعة في توجيه السلطة”، فقد تحتوي كل سلطة على حزمة من الإجراءات المنظمة التي تبوب فعاليات الأفراد الفكرية والسلوكية في دائرتهم المكانية والزمانية، وبحسب توزيع مهامهم الوظيفية.
لا تحاولُ السلطة السياسية فرض هيمنتها على الأيديولوجيات، والعقائد فحسب، بل توسعت لتشمل المظاهر الاجتماعية جميعها، فعادات الأمم، وتقاليدها تخضع للسلطة السياسية التي تتحكم بها سواء أكان هذا تأثراً بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، فتفرض كل سلطة سياسية “سياسة محددة، وفكراً محدداً، وطريقة عيش محددة؛ لما يتهيأ لها من قوى قادرة على الأمر والنهي تجعلها الأصل أو المركز التي تتفرع منه باقي السلطات”.
ترتبط سلوكيات كل سلطة سياسية بالمنجزات المعرفية كافة، التي يبتكرها العقل البشري في ظل حكمها السياسي، فتخضع جميع النظم الاجتماعية للنظام السياسي الذي تنضوي تحت قيادته، فضلاً عن ذلك فإنّ هذه السلطة تتحكم في إيقاعات الصراعات السياسية المحتدمة التي تحدث بين أيديولوجيات طوائف المجتمعات الإنسانية المختلفة في درجات تنظيمية محكمة.
ويُعدُّ المفهوم السياسي مفهوماً عاماً، فتنصهر في بوتقته القوميات والطوائف كافة، ويقوم بتوزيع القيم على الأفراد المحكومين تحت السلطة السياسية، وبعد مجيء الدعوة الإسلامية ودخول كثير من الشعوب غير العربية إلى الإسلام ظهر مفهوم السلطة السياسية الشرعية؛ الذي يُراد بها إدارة شؤون الرعية وفقاً للمبادئ الشرعية، وقد كوّن العرب المسلمون سلطتهم السياسية على مبدأ العدل والمساواة بين جميع المحكومين تحت مظلة سلطتهم، وقد حققت لهم العيش الكريم على مختلف توجهاتهم، وقضت على الظلم الاجتماعي، وطورت مستوى حياتهم الفكرية والاقتصادية.
وظهرت أول سلطة سياسية عند العرب بقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) “في مجتمع لم تكن فيه دولة، وأنّ الدولة العربية الإسلامية نشأت بصورة تدريجية، ولكن بوتيرة سريعة عن طريق انتشار الدعوة الإسلامية”، ويُعدُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاكماً ومؤسساً لأول مجموعة بشرية بعد ظهور الإسلام؛ إذْ وضع لبنات أول سلطة سياسية وإدارية فيه، وقد تجلّت مظاهر سلطته السياسية في المدينة وهو يوزع مهام وأعمال دولته الدينية على أصحابه، كما استمدت سلطته السياسية أحكامها التنظيمية من الشريعة الدينية، وتحتم على المسلمين الطاعة المطلقة لنظامه الديني الجديد.
أما إذا انتقلنا إلى سلطة النص الأدبي، فلا يستطيع كل خطاب أدبي فرض سلطة تأثيره على الآخرين بمعزل عن التقلّبات السياسية، والتغيرات الاجتماعية التي تطرأ على الواقع العام؛ بل هو انعكاس للمؤثرات السياسية التي تؤدلجه من أجل فرض هيمنتها؛ لذا عمدت أغلب السلطات السياسية العربية القديمة إلى توظيف الشعر لتثبيت وجودها في خطابها الموجه؛ فقد كان الشعراء في تاريخنا العربي السياسي هم المذياع الأول لتوجهات السلطة وتطلعاتها وأهدافها العليا، وكان للشاعر وظيفة ثنائية؛ تتمثل الأولى: بالترويج والمديح، والأخرى بهجاء الخصوم وإظهار مثالبهم، وتكمن وظيفة الشعراء الرئيسة بـ”تصوير النهج السياسي للدولة داخلياً وخارجياً؛ مادحين أو ناقمين أو ساخطين، وهذه مهمة الشاعر”، فتقوم العلاقة بين السلطة السياسية والشعراء غالباً على أساس المنفعة المادية، ونستشف من هذه العلاقة مهيمنات نسقية اجتماعية؛ لها قوة تأثيرية عالية، وقد يترتب عنها صمود الموقف عند كل من السلطة والشعراء أو تردد الموقف وتبديله، وإذا كانت توجهات السلطة السياسية تتواشج مع إيديولوجية الشاعر، فإنّ الشاعر يصبح المتبني لأهدافها السياسية والثقافية والأيديولوجية التي يؤمن بها في قرارة نفسه.
ويتميّز الشعر بدور فاعل عِبْرَ بث وترسيخ القيم والمفاهيم التي تعزّز من مكانة السلطة السياسية وقوّتها؛ فالشعراء يقفون إلى جانب السلطة السياسية؛ لما تتمتع به من مسؤولية كبيرة تهيمن على القرار الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما يرمون إليه مقابل مديحهم لكي يحصلوا على منافع شخصية؛ فـ”ارتباط الشعر بالسياسية واضح من خلال ما يعكسه الشعر من انفعالات وجدانية للشاعر تعبر عن أفكاره وانتماءاته السياسية ومشاعره”، وقد يزدهر الشعر في صراعات الاستحواذ السياسية والعسكرية التي تخوضها السلطات السياسية، وهذه الصراعات تسمح للشاعر بأن يلعب دوراً كبيراً فيها، وقد يسهم الشاعر بتقوية نفوذ السلطة السياسية التي يذود عنها.