الرؤيا الشعرية واسلوبية الأضداد
تمثل الرؤيا الشعرية خاصية إبداعية فاعلة لكل شاعر ،وهي تعد واحدة من الإمكانات الأسلوبية التي يقدمها الخطاب اللغوي والذي يكتسب بفضلها سمة الأدبية بأبعادها الجمالية، وبهذا يكون النص ممارسة دلالية ذات نظام خاص يعيد للكلام طاقته الفاعلة ضمن حيز الفضاء الذي يتصل فيه مبدع النص ومتلقيه، فالثنائية الضدية لا تخرج عن كونها أسلوبا أو نمطا بلاغيا يوظفها المبدع ليقول قولا أو يتصرف تصرفا يحمل معنيين أحدهما ظاهري والآخر باطني، بمعنى آخر تظهر بمصاحبة البنية السطحية والبنية العميقة()، وهي في ذلك تعني انزياحا داخليا تتأسس قاعدته المعيارية على هيأة نسق مميز يتلاشى النسق ليظهر نسق آخر يفارقه في خصائصه الصوتية والتركيبية والدلالية.() وقد عرفت الضدية بتعريفات كثيرة متشابكة مع بعضها, ولعل من أبرزها ما ذهب إليه أحد الباحثين من أنها ((عبارة عن لعبة لغوية ماهرة وذكية بين الطرفين صانع المفارقة وقارئها على نحو يقدم فيها صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ وتدعوه إلى رفض معناه الحرفي وذلك لصالح المعنى الخفي الذي غالبا مايكون المعنى الضد وهوبذلك يجعل اللغة يرتطم بعضها ببعض))(), بينما هناك من يرى المفارقة هي ((شكوك تتحول الى نوع من القلق مطلوب في الكناية ومن شأن هذا القلق ابقاء تلاعب الرموز وتعدد الدلالات قائما.))()
.()
والشعرية هي انتهاك لغوي لأنساق لغوية تجاوزية في مدها الشعوري وتركيزها الدلالي فأن المعنى يبقى مفتوحا (لانهائيا) وهذا يعني ان الموضوع المتمثل او المعنى في الموضوع الجمالي لا يكون متعلقا،لأنه ليس معنى منطقي يقبل الترجمة إلى لغة النثر الواضحة المحددة وبالتالي فأنه لايمكن استنفاده،ورغم انه لا يستنفد فانه يكون مباطنا برمته في المحسوس، لان المحسوس هو عينه الذي يجعله غير قابل لان يستنفد حيث انه يمده بخصوبة لا تنضب وبذلك تقوم عليه بنية الموضوع الجمالي().
ومن ابرز السمات الاسلوبية الفاعلة في شعر هذين الشاعرين هي جدلية الاضداد وهي المزاوجات الضدية التي تفجرها الانساق اللغوية على مستوى المتناقضات ولذلك تعد الرؤيا الشعرية هي جوهر المتضادات .
ومن ابرز الظواهر الشعرية التي التي رصدها البحث في شعر أديب كمال الدين والشاعر يحيى السماوي هي:
أولا: جدل الحياة والموت
ان جماليات القصيدة الشعرية عند الشاعر اديب كمال الدين تتميز في تضافر الانساق الشعرية المتضادة من حيث درجة الانزياح ورسم الصورة الشعرية المتضادة .ومن ذلك مارصدناه عند الشاعر
ونراه يصور رؤاه الشعرية عبر جدلية الاضداد في قصيدة له بعنوان(: (غيمة المجهول ) :
تمنيت لحرفي ان يكون قطرة ماء
تهبط من غيمة النار
لكن أمنتي واسفاه
كانت هباء منثورا
فغيمة النار
اعني حياتي
تستبدل الوانها وفساتينها
ورقصتها الوحشية ابد الدهر لتصبح غيمة رماد
إن الصور الشعرية التي رسمها الشاعر في هذه القصيدة ((تعكس ما يحس به الشاعر من امتزاج بين الفكرة التي يريد التعبير عنها، والعاطفة التي تضيف إلى الواقع ما تضيفه))() فالصور المستعارة كلها بينت فضاء القصيدة عند الشاعر التي امتدت لتشمل انزياحية مليئة بالشعرية في نسبة مستوى التأثير في القارئ عاليا عبر تلك الصور الاستعارية غير مألوفة.في امنية الشاعر المتخيلة بين قطرة ماء وبين غيمة نار ،فكانت الحياة تعني له تبدل الأدوار كتبدل الألوان والفساتين فهي غير مستقرة وثابتة ولا فرق بينها وبين غيمة سرعان ما تتلاشى فلهذا غدت امنياته هباء منثورا ، اذ تحتدم المتضادات في نسقها اللغوي وتحفيزها النصي لتبرز للمتلقي فضاء رؤيويا خاصا بحروفية الشاعر .
ومن امثلة ذلك في شعر يحيى السماوي قصيدته (اطلق سراحك منك )
طحنت رحى الآهات صدرك ؟
انت كنت رحاك
ان الذنب ذنبك
كنت تعرف ان عصرك مارق
فلم اتخذت الى امانيك
الصراط المستقيم ؟
//
النار جائعة
أتقحمها بعشبك؟
//
لست إبراهيم ..
كيف اذن نشرت شراع عشبك
في بحار موجها النيران ؟
انت اذن
لنفسك كنت سوطك
والخصيم
//
اطلق سراحك منك
انت سجين قيدك والشهيد الحي
يا ذا الخافق الطفل الموزع
بين فردوس الخيال
وبين واقعك الجحيم
//
مهما غرست
فلن يكون حصاد غرسك
غير منجلك الهشيم
الدر والديباج والجاه المؤقت
حصد من صلوا على
سجادة العاصي الرجيم
طوت الحدائق صبحها
وتدثرت
بملاءة الليل البهيم
دع للدخان يخط سفرك
فاستحم بالجمر
واشرب نخب جرحك باسم
مطمحك اليتيم
تحدث الصور الاستعارية في المقبوس الشعري المتقدم حراكا شعوريا مكثفا في توصيف
//لأنها لامست صفات الانسنة من حركات الجسد والبكاء والحب والديانة والشعور وغيرها، ويبدو في هذا الحراك الشعوري المتدفق عبـر الاستعارات الوصفية أنها شكلت بؤرة التنامي في الحدث الذي صنع المفارقة لغاية التوصيف والرصد الشعوري الداخلي للشاعر وإحساساته العاطفية التي تفرض على المتلقي نسقا مغايرا من التفاعل في مضمرات النص,المتمثلة ب(سجادة العاصي الرجيم ،استحم بالجمر ،وغيرها ويمثل هذا متغير أسلوبي في بؤرة التمفصل الرؤيوي للقصيدة وهي التمظهرات اللغوية المبتكرة التي تشي بزخمها الدلالي ونبضها الشعوري().وهنا نلحظ مكمن الفرق في رؤية الشاعر يحيى السماوي عن رؤية الشاعر اديب كمال الدين في جدلية الحياة عنده فهو يجعل التقييد للإنسان هو الموت والحياة هي الحرية وكأنها الاستحمام بالجمر أي الموت فهي نظرة مأساوية للحياة لاتعطي الامل . وكأن الغربة التي عاشها الشاعران اثرت في نظرتهما للحياة اذ جعلتهما ينظران برؤيا تكاد تكون متشابهة في ان كل شيئ متغير ويزول والتقييد والتغيير لابد منه والحياة كذلك متغيرة .
ومن امثلة ذلك أيضا قصيدة رائعة للشاعر يحيى السماوي بعنوان (عصر الجهاد الزور )
لم أك الأول في معركة الذود عن الحمام والورد
ولن أكون فيها الخاسر الأخير
//
فنحن في عصر الجهاد الزور
والضيزى من القسمة
فالجنة فوق الأرض للولاة والحاشية الغلمان
والرعية المعصوبة البطن لها السعير
//
كنا المجيرين اذا جاع لنا جار
فصرنا اليوم نستجير
وليس من يجير
في وطن نخيله يشحذ تمرا شائصا
ونهره يرتشف السراب
او يحلب ضرع الطين والهجير
//
تناسل العتاة حتى بات كل محفل امارة
وكل لص مارق امير
//
وساسة الدولار والياقوت والحرير
//
تغيرت فصولنا
فأصبح الشتاء فصل الجمر
والربيع فصل القحط
والخريف لا وقت له
والصيف زمهرير
//
والاحتلال صار يدعى
نعمة الخلاص
والتحرير
والمستشار بائع الخضار في الامس صار
يدعى
صاحب السعادة القدير
//
وتهمة غدت إرادة الجماهير التي
تطالب الولاة بالتغيير
يؤسس الشاعر رؤية هذه القصيدة على إيقاع الأزمنة والمواسم فيجعل الحياة هي كالمعركة من اجل الحصول على ما يتمناه الانسان والازمنة بفصولها هي التي تحقق ذلك فيركز صورته الشعرية على جدلية الخريف لما فيه من عدمية في نظر الشاعر وكأن الفصول كلها لا جمالية ولا حياة فيها لانه بلد محتل .
ثانيا: صراع جدلية الماضي والحاضر
مكمن هذه المفارقة تقوم على تقنية السرد بوصفها التقنية الأبرز في تكثيف حدة التوترات والاصطراعات الداخلية في بنية التشكيل الشعري.() وتعد تقنية الاضداد عبر هذه الجدلية من محفزات القصيدة الشعرية الحداثية ذات الجدل الفني في اعتمادها أسلوب القص والحوار وعلى هذا تتميز قصيدة السرد بوحدتها العضوية التي تجعلها متماسكة لأنها تصدر عن نفس شعري واحد يلف أجزاء النص بأكمله().
)
ينطلق هذا المفهوم من فكرة الاستعارات التصورية التي مؤداها قراءة النصوص قراءة عميقة دون تسطيح النص ، وهي التي تصنع انسجامات الاستعارات وتنضوي تحتها جميع أنواع الاستعارات التصورية أي قراءة المعنى الاستعاري التصوري العميق داخل النصوص وهذه فكرة كوفيتش .وسماها بول ويرث بالا ستعارات الممتدة .
ويمكن القول ان الاستعارات الأدبية رغم انها تشكل مجموعة خاصة بين الاستعارات الأخرى ، الا أن الشعراء والكتاب يستخدمون في الأغلب الاستعارات التصورية الصغرى والكبرى نفسها التي يستخدمونها الناس العاديون ولكنهم يتصرفون فيها بطرق عديدة ليست في متناول الجميع مثل ، التوسيع ، والتدقيق ، والارتياب ،