الحاجات الإنسانية: مفاهيمها وأثرها في السلوك البشري
تطورت المفاهيم النفسية عبر التاريخ بالتوازي مع تطور العلوم وأساليب البحث، وكان مفهوم “الحاجة” في البداية مرتبطًا بمفهوم “الغريزة”. تعد نظرية الغرائز من أبرز النظريات المبكرة التي فسرت سلوك الكائنات الحية استنادًا إلى دوافع موروثة توجه سلوكها. في أواخر القرن التاسع عشر، أشار ويليام جيمس إلى قائمة تتألف من 32 غريزة، في حين قدّم ثورندايك عام 1913 قائمة تشمل 42 غريزة.
مع زيادة النقد لمفهوم الغريزة، انتقل بعض الباحثين لاستخدام مصطلحات مثل “الدافع” (Motive)، وهو المصطلح الذي استخدمه وودورث ليصف العامل الذي يُنشِّط السلوك ويُعدّه للعمل. مع مرور الزمن، تطور هذا المفهوم ليصبح “الحاجات” (Needs)، التي تعبر عن مظاهر النقص المرتبطة بمتطلبات جسمية أو متعلمة أو مزيج بينهما.
في ثلاثينيات القرن العشرين، أدخل ليفين (Levein) مصطلح “الحاجة” إلى علم النفس، مقسمًا إياها إلى حاجات أولية (Primary Needs) تتعلق بالإشباع الجسدي وحاجات ثانوية (Secondary Needs) تنشأ من حالات فسيولوجية وتكتسب أهمية داخلية لدى الشخص. هذه الحاجات الثانوية، رغم عدم ضرورتها للبقاء المادي، تلعب دورًا حيويًا في النمو النفسي. تنشأ الحاجة عندما تعجز الآليات الجسدية عن الحفاظ على التوازن، مما يدفع الكائن إلى السلوك الذي يسعى لاستعادة هذا التوازن.
يُعرّف مفهوم الحاجة بأنه “الشعور بنقص معين يستدعي الإشباع”، ويمكن أن تكون هذه الحاجة فسيولوجية داخلية مثل الحاجة للطعام والماء، أو نفسية اجتماعية مثل الحاجة إلى الانتماء والسيطرة. يعرف أحمد زكي بدوي الحاجة بأنها “كل ما يتطلبه الإنسان لسد ما هو ضروري أو مفيد لتطوره ونموه”. بالتالي، يمكن للحاجة أن تكون نقصًا فيزيولوجيًا أو عضويًا أو تتجلى في التواصل السلوكي مع البيئة.
يرى مورفي (Murphy) أن الحاجة هي حالة افتقار تسبب توترًا يحفز الكائن على اتخاذ سلوك يهدف إلى إشباع تلك الحاجة وتقليل التوتر. من جهة أخرى، يؤكد جاردنر ميرفي أن الحاجة تجمع بين الدافع والتوتر، وأن الأساليب المستخدمة لإشباعها مكتسبة من الثقافة والخبرات الفردية.
يعتبر السلوك محور علم النفس، حيث تركز الدراسات على العوامل التي تحركه لفهمه والتنبؤ به والسيطرة عليه. تُصنف الحاجات إلى فسيولوجية، مثل الجوع والعطش والجنس، ونفسية، مثل الأمان والانتماء، والتي تتطور مع النضج العقلي للفرد. يعيش الإنسان سعيًا لإشباع حاجاته، إذ يؤدي إشباع حاجة ما إلى بروز حاجة جديدة. أكد فروم (Fromm) أن فهم حاجات الإنسان يعتمد على تحليل ظروفه الحياتية.
تُفسر سلوكيات الإنسان وتصرفاته من خلال عملية إشباع الحاجات النفسية التي تعزز التوازن النفسي، يشترك البشر مع الحيوانات في الحاجات الأساسية، لكنهم يتميزون بالحاجات العليا.
يمثل مفهوم الحاجات إطارًا شاملاً يتضمن معظم المفاهيم النفسية الأخرى. وتنقسم الحاجات إلى عضوية ونفسية. تشمل الحاجات الفسيولوجية الغذاء والماء، في حين تتضمن الحاجات النفسية الشعور بالأمان والانتماء والتقدير وتحقيق الذات والمعرفة، التي تُشبع من خلال التعلم وقراءة القصص والإيمان بالخالق.
يشير روتر إلى أن الحاجة تُبنى على ثلاث مكونات: جهد الحاجة (Need Potential)، إشباع الحاجة (Freedom of Movement)، وقيمة الحاجة .(Need Value)
في الختام، يُعتبر مفهوم الحاجات ركيزة أساسية في دراسة السلوك البشري لارتباطه الوثيق بتحفيز السلوك وتوجيهه، بما يعزز التوازن النفسي والإنتاجية.