الصحة النفسية: مفهومها وتطورها عبر الزمن
يُعتبر مصطلح الصحة النفسية من المصطلحات التي ارتبطت بشكل وثيق بعلم النفس والطب النفسي. ظهر مصطلح الصحة العقلية (Mental Hygiene) لأول مرة عام 1908 في كتاب “عقل قد وجد نفسه” لمؤلفه كليفورد بيرز. وقد تأثر بهذا الكتاب العديد من العلماء، منهم عالم النفس وليم جيمس. انتقل هذا المصطلح إلى اللغة الألمانية وتحوَّل إلى مصطلح “الصحة النفسية” (Psycho Hygience) ليشمل العناية بالنفس وعلاجها، وليس فقط العلاج العقلي، حيث يعتبر الاضطراب النفسي أوسع نطاقاً من الاضطراب العقلي. ويُعد كتاب “الصحة النفسية” (Psychische Hygience) الصادر عام 1931 لمؤلفيه بريزينا وسترنسكي، أول مرجع يستخدم مصطلح الصحة النفسية بشكل صريح ويشير إلى اضطرابات تُعرف بالاضطرابات النفسية الجسمية (Psychosomatics).
عرّف دستور منظمة الصحة العالمية لعام 1946 الصحة النفسية بأنها حالة من السعادة الجسدية والعقلية والاجتماعية، وليست مجرد غياب المرض أو العجز. ويشير المؤتمر العالمي للصحة النفسية إلى أن مفهوم الصحة النفسية ليس مطلقاً أو مثالياً، بل يعكس تحقيق الفرد لأفضل حالة ممكنة وفقاً للظروف المتغيرة. وتفسَّر الصحة النفسية على أنها توافق بين قدرات الفرد وظروفه الاجتماعية.
ترتبط الصحة النفسية بتكيف الإنسان وتوافقه مع ذاته ومجتمعه. ويُعد مفهوم التوافق من المفاهيم الأساسية في علم النفس عموماً ومجال الصحة النفسية خصوصاً. يُعنى التوافق بالعملية الديناميكية المستمرة التي يسعى من خلالها الفرد لتعديل سلوكه لتحقيق علاقة متوازنة مع البيئة. وتنبع الصدمات النفسية وخيبات الأمل من الفشل في إشباع الحاجات والدوافع، حيث تنشأ هذه الصدمات من التفاعل بين حاجات الفرد وظروف البيئة المحيطة. إذا تمكن الفرد من تلبية حاجاته بسرعة، يحدث ما يسمى التوافق الطبيعي. أما إذا استمرت حالات الفشل لفترات طويلة، فقد يؤدي ذلك إلى شكل من أشكال التوافق السيئ.
تُستخدم مصطلحات التوافق الجيد والصحة النفسية أحياناً بشكل مترادف، إلا أن هناك اختلافات بينهما. فمفهوم التوافق يُعتبر أكثر ارتباطاً بالبيئة، في حين أن الصحة النفسية تُعنى بالجوانب الشخصية. يُعبر التوافق عن حالة ديناميكية بينما تُعتبر الصحة النفسية أكثر ثباتاً. كما أن الصحة النفسية تستبق وتشير إلى سمات شخصية مرغوبة، فهي تمثل حالة أسمى من التوافق الجيد. علاوة على ذلك، تتضمن الصحة النفسية الجوانب البدنية، حيث يرتبط مفهوم “الصحة” في الأصل بالطب.
يشترك مفهوما “التوافق السيئ” و“المرض النفسي” في المعنى، إذ يشيران إلى أنماط من السلوك غير المرغوب. ومع ذلك، يتمتع التوافق السيئ بدلالات ديناميكية ترتبط بالبيئة، في حين أن المرض النفسي يرتبط بالجوانب الشخصية. ويُعتبر المرض النفسي شكلاً أشد من سوء التوافق، حيث تصل الأمور إلى حالة تُعرف بالعلة العقلية.
فيما يتعلق بمظاهر الصحة النفسية، يُظهر الشخص الذي يتمتع بصحة نفسية نظرة موضوعية تجاه نفسه ومشكلاته، ويستجيب للمواقف بتماسك وحكمة. وتُعتبر الشخصية السوية المتكاملة شخصية منسجمة الأجزاء، حيث إن التكامل يتطلب توافر شروط بيولوجية ونفسية متنوعة، مثل سلامة الجهاز العصبي والغدد.
يحدد أتكنسون بعض السمات التي تميز الشخص السوي، منها:
  1. الإدراك الفعّال للواقع: الأفراد الأصحاء يقدرون ما يدور حولهم بواقعية دون المبالغة أو التقليل من شأن قدراتهم.
  2. معرفة الذات: يمتلك الأشخاص المتوافقون وعياً بمشاعرهم ودوافعهم.
  3. السيطرة الإرادية على السلوك: يشعر الأفراد بقدرتهم على ضبط سلوكهم عند الضرورة.
  4. قبول واحترام الذات: يتمتع الأشخاص المتوافقون بتقدير معقول للذات ويشعرون بالراحة مع الآخرين.
  5. القدرة على تكوين علاقات ودية: يتميز الأفراد الأصحاء بالقدرة على تكوين علاقات مرضية وحساسة لمشاعر الآخرين.
  6. الإنتاجية: يوجه الأفراد المتوافقون طاقاتهم بشكل فعّال، مما يعزز من أدائهم ورفاههم النفسي.
 

شارك هذا الموضوع: