أهمية دراسة المؤرخ لجميع الأوضاع المحيطة بالحدث عند وقوعه
أ. د. حيدر صبري شاكر الخيقاني
جامعة كربلاء- كلية التربية للعلوم الانسانية- قسم التاريخ
Haidr.s@uokerbala.edu.iq 07818109261
يواجه بعض المؤرخين صعوبة في تفسير بعض الاحداث التاريخية، بل يصل الامر الى شك المؤرخ في المعلومات التي لديه على الرغم من معرفته بانها معلومات قد حصل عليها من مصادر وثائقية رصينة، والسبب في ذلك يعود الى عدم فهم المؤرخ بشكل جيد للعصر الذي وقعت به الاحداث او الفترة الزمنية التي يدون احداثها، لذلك من الضروري على المؤرخ ان يدرس طبيعة الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، المتعلقة بالفترة الزمنية والمكان المحدد الذي وقعت به الاحداث التي يدونها، لان ذلك سوف يكون لديه صورة شمولية واسعة لفهم الاحداث التي يدونها، وقد اكد المؤرخ والفيلسوف الايطالي بينيدتو كروتشي Benedetto Croce (1866-1952) على ضرورة المام المؤرخ بالعصر الذي يكتب عنه وقال في هذا الصدد: ” انك لا تستطيع ان تؤرخ لعصر، الا اذا تمكنت من دراسته بشكل شامل… وانك لا تستطيع ان تؤرخ لرجل، الا اذا الممَتَّ بظروف عصره كلها، وتمكنت من الاحاطة بظروفه الشخصية ايضا، حتى اوصافه الجسمانية لا بد من معرفتها، فهي في كثير من الاحيان ذات اثر بعيد في توجيه فكره وحياته”.
مما لا شك فيه أهمية فهم المؤرخ لطبيعة الظروف العامة المحيطة بالحدث دون اللجوء الى القياس بما هو سائد في وقتنا الحاضر، فعلى سبيل المثال نجد ان عادة قتل الاخوة والابناء الذين كان السلطان العثماني يعتقد بانهم طامعين بالعرش من العادات المعروفة في الدولة العثمانية(1299-1923) بل بررها البعض آنذاك على انها ضرورة لحماية البلاد باعتبار ان هؤلاء الطامعين سوف يثيرون الفتنة التي تمزق الدولة وبما ان ” الفتنة اشد من القتل”، فانه من الضرورة قتل من ينافس السلطان على عرشه!!! وعلى الرغم من ابتعاد ذلك عن الواقع، الا ان هذه العادة استمرت حتى سقوط الدولة العثمانية واعلان الجمهورية التركية عام 1923، ومن السلاطين الذين قتلوا اخوتهم السلطان بايزيد الأول الذي قتل أخيه يعقوب، وكذلك قتل السلطان سليمان القانوني الذي امر بقتل ولديه مصطفى في 6 تشرين الاول 1553، وبايزيد في 25 ايلول 1561، فضلا عن ذلك فقد امر بقتل لأربعة من احفاده وهم ابناء ولده يزيد، وكذلك حفيده محمد ابن ولده مصطفى وقد تم ذلك. كما نلاحظ شيوع ظاهرة قتل الاخوة وسمل العيون في الدولة الصفوية التي حكمت بلاد فارس خلال المدة(1501-1736) اذ نجد ان بعض الحكام الصفويين قد قتلوا اخوتهم، ومنهم الشاه اسماعيل الثاني الذي حكم الدولة الصفوية خلال المدة (اب 1576- تشرين الثاني 1577) والذي قتل ثمانية من اخوته خشية من منافسته على العرش. وقد كانت ظاهرة قتل الاخوة والابناء والزوجات معروفة في الدول الاوربية ايضا، اذ نلاحظ على سبيل المثال ان ملك انكلترا هنري الثامن Henry VIII امر بإعدام زوجته ان بولين Anne Boleyn في 30 ايار 1536، وكذلك زوجته كاثرين هوارد Catherine Howard في 13 شباط 1542، كما نلاحظ ان قيصر روسيا بطرس الاكبر Peter the Great امر بتعذيب ولده الكسييAlexei واعدامه في 26 حزيران 1718.
ولو تمعنا في الظاهرة المذكورة سوف نلاحظ انها غير مألوفة في وقتنا الحاضر اذ يحظى عادة اخوة وابناء الحاكم وزوجاته بامتيازات عدة، ويستبعد القصاص منهم دون ادانتهم قضائيا، لذلك من الضرورة على المؤرخ عند اطلاعه على مثل تلك الاحداث ان يدرك ان مثل هذه الظواهر كانت من الحالات الشائعة آنذاك سواء في الدولة العثمانية والدولة الصفوية وكذلك في الدول الاوربية.
وناهيك عن عادة قتل الاخوة نجد ان بعض الاوبئة والامراض قد خلفت ضحايا بالملايين من البشر، ويجد بعض المؤرخين ان هناك مبالغة في اعداد الضحايا التي تسببت بها تلك الاوبئة والامراض ومنها على سبيل المثال وباء الطاعون والذي اطلق عليه اسم الموت الاسود Black Deathوقد انتشر في اوربا خلال المدة ما بين (1346-1353) وقدر عدد من فقدوا حياتهم بسببه ما يقارب من خمسون مليون شخص، كما ادى انتشار الإنفلونزا الاسبانية Spanish flu عام 1918 الى موت حوالي ستين مليون شخص. وحتى في التاريخ القريب منا نسبيا نجد ان وباء الطاعون الذي انتشر في بغداد عام 1830 قد ادى الى موت الكثير من سكانها، وقدر عدد الوفيات اليومي ما بين (1500-3000) مصاب يوميا، لكن لو درسنا الاوضاع الصحية السائدة خلال فترة انتشار تلك الاوبئة، سواء في اوربا ام في مناطق اخرى من العالم، سوف ندرك ان اعداد الضحايا منطقي جدا بسبب عدم تقدم العلوم الطبية، وعدم اكتشاف العلاجات المناسبة لها، وسوف ندرك جيدا انه من الطبيعي ان تكون ضحايا الاوبئة بهذه الاعداد.
ومن الامور التي تثير حفيظة بعض المؤرخين اعداد ضحايا الحروب والمعارك، اذ يعتقد البعض ان اعداد الضحايا مبالغ بها، وعلى سبيل المثال قدر عدد ضحايا الحملة الفرنسية لاحتلال روسيا The French invasion of Russia بقيادة نابليون بونابرت خلال الفترة ما بين ( 24 حزيران-24 كانون الاول) من عام 1812 بحوالي (500000) مقاتل فرنسي، مقابل حوالي (410000) مقاتل روسي، كما نلاحظ ان عدد ضحايا معركة ستالينغراد Battle of Stalingrad خلال الحرب العالمية الثانية، والتي استمرت للفترة ما بين (17 تموز 1942- 2 شباط 1943) بين القوات الالمانية النازية وبين القوات السوفيتية، (800000) قتيل من القوات الالمانية، و(479000) قتيل من القوات السوفيتية، ناهيك عن مئات الالاف من الجرحى، ولكن لو تمعنا قليلا في الظروف المحيطة بكل حملة سوف نجد ان تلك الاعداد من الضحايا ليس مبالغ بها.
لذلك على المؤرخ ان يكون ملما بجميع العوامل المحيطة بالحدث التاريخي الماما جيدا وعليه عدم التركيز على الحدث بمعزل عن دراسة جميع العوامل المؤثرة به، والتحقق منها، كون ذلك سوف يكون له معلومات مهمة لتفسير وتحليل الاحداث التاريخية وسيمكنه من التوصل الى نتائج دقيقة وصائبة.