الأثر المعرفيّ للاستعارة

حفريات في (كتاب فكّر) للإمام الصادق (عليه السلام)

الأثر المعرفيّ للاستعارة
حفريات في (كتاب فكّر) للإمام الصادق (عليه السلام)
أ. د. حَسَن عبد الغني الأسدي
كلِّيَّة التَّرْبِيَّةِ لِلْعُلُومِ الإنسانية، جَامِعَةِ كَرْبَلاء
لم تقتصر عناية الإمام على ناحية دون أخرى من النواحي العلمية، وقد وقفنا في إملائه على المفضل بن عمر الجعفيّ الكوفيّ(ت ق3ه) المشهور بـ(كتاب فكّر) على نصوص تنحو لبناء رؤية معرفيّة كليّة ومنهجيّة ولا تكتفي بالوصف بل هي رؤية برهانيّة استدلاليّة.
تقوم هذه الرؤية على نمط استعاريّ يجعل من (فكرة الدار) الذي أتقن بناؤه…مكمن بناء المعرفة[نستعمل(الاستعارة) بمفهومها المعرفيّ (الإدراكيّ) وليس بالمفهوم البلاغيّ!] أي إنّ الاستعارة ستكون طريقًا للفهم والإدراك والإحاطة لمالا يمكن الإحاطة به مباشرة.. ويتم ذلك بتوظيف تجربة ماديّة حسيّة لفهم شيء تَصْعُب الإحاطة به بدقّة كافية! ولاسيّما إذا كان الشيء واسعا كالكون ومخلوقاته أو كان مجالًا تجريديّا أو فكرة غيبيّة.. فعبر الاسقاط الاستعاريّ بين المجالين تتحقق المعرفة.
ولعل هَذه الوسيلة المنهجيّة هي الوسيلة الأنجح لما يُراد تحقيقه وهو بيان حكمة البارئ في خلقه.. مع ملاحظة أن هذا المنحى لا يبعد عن مفهوم التدبّر الذيّ دعت إليه آيات القرآن الكريم. ويبدو هذا النّظر الاستعاريّ مستساغًا في تلك الحقبّة، ولاسيما أنّه وظّف صورة (الدار) القائمة في أذهان المتلقّين بتفاصيلها بلا تكلُّف أو مزيد تفكّر، فيقع عندها بموقع الرضا..
لقد جاء توظيف صورة الدار في كلام الإمام في ستة موارد، استعمل في أربعة لفظة الدار وفي اثنين لفظة البيت. وفيما يأتي رصد لتلك الموارد والتعليق بما يناسبها:
  • قال الإمام(ع): ((إنّ الشّكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة وقصرت أفهامهم عن تأمل الصّواب والحكمة…فهم في ضلالهم وغمههم وتحيّرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بُنيت أتْقن بناء وأحسنه وفرشت بأحسن الفرش وأفخره وأُعدّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يحتاج إليها، ولا يُستغنى عنها ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه. على صواب من التقدير، وحكمة من التدبير فجعلوا يترددون فيها يمينًا وشمالًا ويطوفون بيوتها إدبارًا وإقبالًا محجوبة أبصارهم عنها، لا يُبصِرون بنية الدار وما أُعدّ فيها))[كتاب فكر:70-71].
فتوظيف الاستعارة لتكون مدخلاً لإظهار جهل هؤلاء فموقفهم موقف من دخل داراً متْقنة البناء فأنكر بجهله الحكمة الواضحة فلا ينال إلا الاستهجان والردع. والدار سُميت لأنها “إِحْدَاقِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ مِنْ حَوَالَيْهِ”. كما استعمل الإمام (بنية الدار) وهو تركيب مهم تُلمح فيه كليّةَ الدار، أو صورتها الذهنيّة المتأتيّة عبر انتظام أجزائها واتساقها فيما بينها، وكأنها كتلة واحدة غير متباينة.
وفي الظنّ أنّ الإمام باستعماله لـ(بنية الدار لا بناء الدار) أراد المعنى الكليّ المعبر عن الانتظام والارتباط؛ فـ “البِنْيَةُ الْهَيْئَةُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا. فهي الصورة الذهنيّة أو الهيأة الكليّة التي يقيمها الأفراد لهذا البناء، المتناسق المتآلف الأجزاء برؤية استعاريّة يقرّها العرف.
  • قال الإمام(ع): “يامفضّل أوّل العبر والأدلة على الباري جلّ قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه، ونظمها على ما هي عليه؛ فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك و خبرته بعقلك وجدته كالبيت المبني المُعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسّماء مرفوعة كالسّقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح، و الجواهر مخزونة كالذخائر و كلّ شي ء فيها لشأنه معدّ، والإنسان كالمُمَلَّك ذلك البيت والمخوَّل جميع ما فيه … ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير، وحكمة ونظام وملائمة، وأنّ الخالق له واحد، وهو الذي ألّفه و نظّمه بعضًا إلى بعضٍ”[كتاب فكر:72-73].
فأوصاف الإمام تُظهر أنّ هذه الاستعارة تختصر الانتظام والانسجام والعلاقات النسقيّة. وفي اللغة “بناء الشّيء بضَمِّ بعضِه إلى بعضٍ.. وتسمى الكعبة البُنية”.
  • قال(ع):”أليس من حسن التّقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع منها؟ فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيّأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه”[كتاب فكر:96].
  • قال(ع):”…وسأمثّل لك في ذلك مثالاً: إنّ البدن بمنزلة دار الملك له فيها حشمٌ وصبيةٌ، وقوّام موكّلون بالدّار فواحد لقضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم، وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيأ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه، وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها:فالمَلِك في هذا هو الخلّاق الحكيم ملك العالمين والدّار هي البدن، والحشم هم الأعضاء، والقوّام هم هذه القوى الأربع”[كتاب فكر:103]فإرادةُ التمثيل للتّدبير والحكمة عبر الجهة الاستعاريّة واضحة بيّنة.
  • يقول الإمام (ع): “أرأيت لو أنّ داخلًا دخل داراً فنظر إلى خزائن مملوءة من كلّ ما يحتاج إليه الناس…أكان يُتوهَّم أنّ مثل هذا يكون بالإهمال ومن غير عَمْد؛ فكيف يستجيز قائلٌ أن يقول هذا في العالَم وما أُعدّ فيه من هذه الأشياء؟”[كتاب فكر:113].
  • ويذكر الشمس وطلوعها والغروب فهي:”بمنزلة سراج يُرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدأوا ويقروا فصار النور والظلمة مع تضادهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه”[كتاب فكر:159].
فالإدراك يتمظّهر في:
الأوّل: مستوى النّسق الكليّ فالأجزاء بعلاقاتها وانتظامها بمنزلة(بنية واحدة).
الثانيّ: مستوى الأجزاء وعلاقاتها لتحديد سلوك كلّ منها.
إنّ حرص الإمام على أنْ يُقدِّم إجابته للمفضّل بمثل هذا الالحاح على توظيف النّمط الاستعاريّ لبنية الدار وهيأتها ينبغي أن يُفهم بوصفه مسعًى منهجيّا؛ وهو دعوة للآخرين في الارتقاء بتفكيرهم وعرض المسائل التي تشغلهم في مثل هذا المنحى. ولا يبدو ذلك غريبًا بالنظر إلى موقعه (عليه السلام) وريادته وقيادته لمدرسة دينيّة وفكريّة تُمثِّل أهل البيت (عليهم السلام) بدأها أبوه الباقر (عليه السلام).
نال هذا النمط المنهجيّ القبول لدى العلماء، منهم شيخا النّحو (الخليل بن احمد الفراهيدي(ت175هـ) وسيبويه(ت180هـ). فقد وصف الفراهيديّ نفسه بقوله: “فمَثَلي في ذلك مَثَل رجلٍ حكيم دخل داراً محكمة البناء؛ عجيبة النظم والأقسام؛ وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدّار على شيء منها، قال: إنما فعل هذا هكذا لعلّة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا. سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك”. وأطَّرت فكرة البناء أبواب كتاب سيبويه ومصطلحاته: كالعامل والمسند والمسند إليه، والمبني عليه والأبنية والبناء والرفع والنّصب والجر، فكلّها أُسست على نظرة بنائيّة إنشائيّة متعلّقة بفكرة الدار التي تبنّاها الخليل!.
ووجدنا فكرة انتظام الأجزاء عند عبد القاهر الجرجاني ومن سبقه كابن طباطبا والقاضي عبد الجبار، فنظريّة النّظم هذا سندها! قال عبد القاهر الجرجاني:”وتؤدّى في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضمّ كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة”. وبرز هذا المنحى في فهم القرآن الكريم وأنّه كالكلمة الواحدة، وأوّل من قال به أبو بكرٍ النيسابوري؛ وكان يقول: لِمَ جُعِلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة وكان يزري على علماء بغداد لجهلهم بالمناسبة.. وتبعه ابن العربي. وهو أمر أهمّ المعاصرين كما هو بيّن.
ولا يخفى أهمية هذه المجالات (القرآنيّ واللغويّ والبلاغيّ) في مجمل الحركة الحضاريّة للأمة الإسلامية. مع جهة التفرّد فيما طرحه الإمام في ذلك الوقت المبكر. فهو بتقديرنا منهج مبتكر.

شارك هذا الموضوع: