يعمد سيبويه في مواضع كثيرة من كتابه إلى وضع سياق افتراضي يستوحيه من التركيب نفسه يعمل على تمثّله بوصفه ظرف الجملة الخارجي، ولما كان هذا السياق افتراضيا وهو يرتكز على مكونات الجملة وعلاقاتها فهو يمثّل (المحتوى الدلالي للجملة). وهو كما يبدو محاولة من سيبويه لتأطير الكلام موضع التحليل بمحيط تداولي مفترض أقرب إلى الظرف الذي ولد فيه الكلام.
وذلك تحليل مقاميّ لا يبعد كثيرا عن طائفة من التراكيب (الأمثال) أو بمنزلتها مما تجري على ألسنة الناس مجرى المثل تلك التي تتصاحب معها حكايتها أو في الأقل دلالتها القصديّة، مما لفت انتباه الخليل وسيبويه؛ كما أن هذا المنحى قريب الشبه بالطريقة التفسيرية في فهم النصوص القرآنية مقروناً بأسباب نزولها. ومن ثَمَّت كانت الانتقالة من تفسير التراكيب التي ذُكِرتْ معها مقاماتها إلى تفسير تراكيب افتقرت إلى تلك المقامات، معتمدَيْن في ذلك على تشابه الأنماط وطبيعة العلاقات بين مكونات تلك التراكيب ودلالات ألفاظها.
وهذا التأطير التداوليّ الذي أسبغه سيبويه على الكلام لم يكن لمحة عابرة في منهجه النحويّ بل إنّ تتبع الأمثلة والتريث في النظر إليها يُبيِّن أنّ طائفة من أبواب الكتاب تمّ صياغتها طبقا لوضعها المقامي أو وظيفتها التداولية ومن أمثلة ذلك قوله: ((هذا باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم وما أشبهه؛ تقول أتاني زيد الفاسق الخبيث لم يرد أن يكرره ولا يعرفك شيئا تنكره ولكنه شتمه بذلك. وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ (المسد4) !، لم يجعل الحمالة خبرا للمرأة، ولكنه كأنه قال: أذكر حمالة الحطب شتما لها، وإن كان فعلا لا يستعمل إظهاره. وقال عروة الصعاليك العبسي:
سَقَوْني الخَمْرَ ثمَّ تَكنَّفوني …… عُداةَ الله من كَذِبٍ وزُورِ
إنما شتمهم بشيء قد استقرَّ عند المخاطبين)) (كتاب سيبويه:2/70). فقد تحولت الأوصاف التي يعلمها الناس (معلومة مشتركة) إلى أن تكون مركبا للمعلومة المهمة، وهي القصد (الشتم).
لقد أرسى سيبويه أسس تحليله لكلام العرب على مسوغات من توجهات متكلمين ومخاطبين غائبين يمكن ملاحظتهم في الجملة وملاحظة ظلال ما يحيط بهم في أثناء كلامهم، وكأنّ لكل طرف أثره في الكلام، وأنماطه والوظائف النحوية المطلوبة.
وعلى هذا فجزء مهم من نحوِ الكتاب يتوجَّه إلى الكلام بوصفه تداولا، وإنّ للألفاظ وعلاقاتها أثرا واضحا في الكشف عن سمات هذا التداول. ويبدو أن سيبويه قد تنبّه إلى الجانب الأساس من اللغة وهو الكلام ولم يغب عنه أنّ الكلام انجاز يؤديه المتكلم في إطار من المؤثرات الخارجية التي تتحكم بتوجهات المتكلم وتبعا لذلك تتحكم بالحدث اللغوي (الاستعمال)؛ وذلك بمحاولاته الدؤوبة لاستعادة السياقات التي وُلِدت فيها العملية الكلامية؛ وهي عناصر خارج الكلام ووحداته الصغرى أو الكبرى؛ مستفيدا من ميزة الكلام بقدرته أن يختزن داخله تلك العناصر الخارجية، ليستجليها النحويّ. عبر (المحتوى الدلالي للجملة) الذي نعني به: كلّ سمة من سمات المعنى التي تمتلكها ألفاظ الجملة مفردة ومركبة، مقرونة بسياق مقامها الذي قيلت فيه وقدرتها على تزويد النحوي أو المتلقي بما يمكنه من استعادة الملابسات التي اكتنفت ولادة الجملة (ينظر: مفهوم الجملة عند سيبويه:190وما بعدها).
وتجلّى سيبويه بوعيٍّه لهذا السياق الذي نسمه بالسياق الافتراضيّ لإعادة رسم صورة المقام الذي ولدت فيه الجملة لفهمها ولفهم ما طرأ على وحداتها من تغييرات نحويّة لا تتضح لولا هذه الاستعادة أو الاستحضار. ولقد تمثّل وعي سيبويه في أرقى أمثلته أنْ استعمل مصطلحًا خاصًّا لهذا الجانب من فهم الكلام، وهو مصطلح(الخُلْف). ولكننا لم نجد أنّ هذا التوجّه السيبويهيّ قد حظيَ عند الخالفين باهتمام. بل لم يشروا إليه ولعل ذلك جزءٌ مما أهملوا من نحو الكتاب من مفاهيم واصطلاحات وتوجهات وَسَمَتْ علم النّحو عندهم بأنه تعليميّ(قواعديّ) ووسمنا علم النحو عنده وعند أستاذه الخليل بالنّحو العلميّ نحو يبحث عن آلياتٍ للفهم ويكشف عن مسارات الإدراك.
الخُلْف مصطلحٌ تداوليٌّ:
ذكر سيبويه (الخُلْف) في موضعين من كتابه، مع مواضع أخرى طبّق فيها سيبويه مفهوم مصطلحه، وإن لم يورد اصطلاحه.
ومادة خلف استعملها العرب وتعارفوا على جملة من استعمالاتها الكثيرة، منها الخَلْف ضد قُدّام، وهو خلفي أي ورائي، ومنه الخَلْف الظَهْر، والخَلَف من يَخْلُف غيره، وقال في العين: ((والخَلَفُ: من الصالحين، ولا يجوز أن يقال: من الأشرار خَلَفٌ، ولا من الأخيار خَلْفٌ)) (العين:4/266). وقال ابن فارس: ((أُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنْ يَجِيءَ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالثَّانِي خِلَافُ قُدَّامٍ، وَالثَّالِثُ التَّغَيُّرُ))(مقاييس اللغة:2/210)؛ وذكره البطليوسيّ في المثلث (ينظر المثلث1:/484)، واستعمل سيبويه الخلف في مواضع من كتابه فخَلْف من الظروف قال:((… وأما خلف فمؤخّر الشيء وأمام مقدمه وقدّام بمنزلة أمام وفوق أعلى… وهذه الأسماء تكون ظروفاً))(كتاب سيبويه: 4/233). كما استعمل(خَلَف) لما يخلف غيره ويقوم مقامه، قال: ((وإنّما منعك أن تحمل الكلام على مِن أنّه خلف أنْ تقول: ما أتاني إلا من زيد، فلما كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلا منه)) (كتاب سيبويه:2/315-316) واستعمل خَلْف بمعنى المخالفة والكلام غير المستقيم، وكذا في قوله:((ترى أنّك تقول: ما أتاني مِن أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ؛ من قبل أنه خَلَف أن تحمل المعرفة على من في ذا الموضع)) (كتاب سيبويه:2/317).
أما دلالته على ما تقدّم من تحليل الجملة وما يكون من متعلقات الجملة الخارجية فقد استعمله سيبويه بموضعين وقد ضبطه المحقق عبد السلام هارون بالفتح(الخَلْف) في الأول وضبطه بالضم(الخُلْف) في الموضع الثاني. وأرى أن يكون ضبطه بالضم حتى نفرِّقه عن الظرف ولإبراز اسميّة المصدر في هذه الصياغة دون الفتح.
الموضع الأوّل: قوله: ((وتقول: إني عبدُالله؛ مُصغِّراً نفسه لربّه، ثم تفسِّر حال العبيد فتقول: آكلاً كما تأكل العبيد. وإذا ذكرتَ شيئاً من هذه الأسماء التي هي علامة للمضمر فإنه محال أن يظهر بعدها الاسم إذا كنت تخبر عن عمل، أو صفة غير عملٍ، ولا تريد أن تعّرفهُ بأنّه زيدٌ أو عمرو. وكذلك إذا لم تُوْعِد ولم تَفخر أو تصغِّر نفسك؛ لأنّك في هذه الأحوال تعرِّف ما تَرى أنه قد جُهل، أو تُنزِل المخاطب منزلة من يجهل فخراً أو تهدُّداً أو وعيداً، فصار هذا كتعريفك إيّاه باسمه. وإنّما ذكر الخليل- رحمه الله- هذا لتعرف ما يُحال منه وما يحسن؛فإنّ النحويين مما يتهاونون بالخُلْف إذا عرفوا الإعراب. وذلك أنّ رجلاً من إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يُخبرك عن نفسه أو عن غيره بأمرٍ فقال: أنا عبد الله منطلقاً، وهو زيدٌ منطلقاً، كان محالاً؛ لأنّه إنّما أراد أن يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو، ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأنّ هو وأنا علامتان للمضمر، وإنّما يُضمِر إذا عَلِم أنّك قد عرفت من يعني؛ إلاّ أنّ رجلاً لو كان خلفَ حائط، أو في موضعٍ تجهله فيه فقلت: من أنت؟ فقال: أنا عبدُالله منطلقاً في حاجتك كان حسناً)) (كتاب سيبويه:2/80-81).
فالجملة: أنا عبد الله، آكلًا كما تأكل العبيد، جملة غير مقبولة لأنه لا يريد أن يكون عبد الله خبرا للضمير؛ إذ لا يستعمل الضمير إلا بعد معرفة المعني به؛ لكن سيبويه يأتي إلى جهتين لتصحيح الجملة: أولهما اعتماده على ما تعارف عليه النّاس، فلفظة عبدالله ليست خالصة في الاسمية، فما تزال دلالتها على صفة العبودية لله قائمة في تداول الناس؛ فكأنه أراد تصغير نفسه أو نحو ذلك. والجهة الثانية جهة اشتراك المتكلّم مع المخاطب في المكان فعدم تمكن المخاطب من رؤية المتكلّم، كان له الأثر في صحة الجملة، فافترض لو أنّ المتكلم كان خلف جدار لصحّ أن يقول: أنا عبد الله وإن لم يرد أن يخبر أنّه عبد الله، بل ليخبر أنّه منطلق في حاجة أو نحو ذلك. فتسييق الجملة مكانيًّا واجتماعيًّا هو ممّا تفرّد به الخليل وسيبويه في تحليلهما لكلام العرب؛ وأنّ لدرسهما النحوي خصوصيّة لم يشركهما فيه أحد. كما يتضح أنّ سيبويه استعمل الخُلْف للدّلالة على كلّ ما يمكن أن يكون من مواقف غير لغويّة لها علاقة مباشرة بتكوين الجملة على هيأة خاصة وهذه الهيأة لها أثر واضح في عملية استعادة تلك المواقف وإعادة عرضها بوصفها سياقا افتراضيا. ما يؤكد الصبغة الإنجازية للجمل، وأن على النحويّ أن يفهم كلّ جملة في ظل ظروفها الخاصة التي ولّدتها. وأنّ لكل منها دوافع تتداخل ما بين المتكلم والمخاطب والبيئة المتعلقة بينهما، تتحملها تلك الجملة ووظيفة النحوي الكشف عن تلك العلاقات التي لها مسيس علاقة بإنجاز الكلام.
الموضع الثانيّ: قوله: ((ومن ذلك أيضاً أن ترى رجلاً قد أوْقَعَ أمراً أو تعرَّض لِه فتقول متعرَّضاً لعَنَنِ لم يَعْنِه أي دنا من هذا الأمر متعرِّضاً لعَنَنٍ لم يَعنِه؛ وتَرَكَ ذكرَ الفعل لما يَرى من الحال ومثله بَيْعَ المَلَطَى لا عهدَ ولا عقَدَ. وذلك إنْ كنتَ في حال مساومةٍ وحالِ بيعٍ فتَدَعُ أُبايِعُك استغناءً لما فيه من الحال ومثله (مَواعيدَ عُرْقوبٍ أخاه بَيثْرِبِ) كأَنه قال: واعَدْتَني مَواعيدَ عرقوبٍ أخاه ولكنه ترك واعدتَني استغناءً بما هو فيه من ذكر الخُلْفِ واكتفاءً بعلم من يعني بما كان بينهما قبل ذلك))(كتاب سيبويه:1/272).
فتصوّر وقوع الجملة في”مقام معين” يجعل التركيب ذا فائدة. ونرى أنّ محاولة سيبويه في هذا الجانب أدّت إلى استكناه البنية الدلاليّة للجملة. وقد نصّ سيبويه ههنا على ذكر(الحال) وهو الموقف بكل جوانبه ذات الصلة بالممارسة اللغويّة. واستعمله قريباً من المصطلح اللساني لـ(سياق الحال) على أننا نميّز ههنا بين ما ذكره سيبويه في أغلب تحليلاته أنه سياق افتراضي لا حقيقيّ كما في سياق المقام، ولم يقع لأغلب الباحثين أن يلتفتوا إلى هذين النوعين من الخُلْف أو المقام إذ دائما ما جعلوا ما جاء به سيبويه بوصفه سياق حال، وما هو إلا المحتوى الدلاليّ للجملة أو(الخُلْف) بمصطلح سيبويه.
إنّ النّحو عند سيبويه في ظل هذا التوجه نحو فهم الجملة هو نحو أداء وانجاز، ونحو حدث يقع في عملية تخاطب؛ وليس النحو مختصرا على كونه نحو تعلّق وبناء وتركيب، أو نحو أصول وأقيسة. ولقد عمد سيبويه ههنا إلى توثيق مأخذه على نحويي عصره الذين – على ما يبدو- انصب جهدهم على معرفة الإعراب، وهو المظهر الشّكليّ للكلام. على حين صوّر هذا التوجه الوظيفيّ عند سيبويه عبر تعلّقه بعناصر من خارج الجملة ضرورة منهجيّة في تكامل فهم الجملة وتكامل مجالات تحليلها. وقد كان ظهوره فعّالاً في طائفة من التركيبات المتداولة التي اشتملت على نقصٍ ما في بنائها من نحو: القرطاسَ والله، وحديثَك، وغيرها. ولقد أتاح هذا الموضع فرصة تحليلية لإشراك البيئة البصرية عبر مظاهر متعددة استوحاها سيبويه منها.
وهو موضع يكشف لنا أنّ الدرس اللساني في الكتاب يختلف عمّا عند بقية العلماء فقد كان جديداً كلَّ الجدة. ومثّل مرحلة النظر العميق للجملة، وكما نضج بسرعة. فقد أَفل نجمه بسرعة إذ كُتبت الغلبة للذين كان جلّ همّهم معرفة الإعراب وتغليب الأقيسة.
لقد (( خطّ الخليل وسيبويه للنحو العربي ما نذهب إلى أنّه رؤية جديدة في فهم الجملة وتحويلاتها تمثلت في طائفة النصوص التي تتم دراسة الظاهرة النحوية على وفق ما يمكن أن تحيل إليه من اعتبارات المكان والزمان وطرفي عملية التخاطب(المتكلم والمخاطب)اللَذيْن غالباً ما يتخذان وظيفتي(السائل والمجيب)، وهي الاعتبارات التي يتبناها الوظيفيون المعاصرون))( مفهوم الجملة عند سيبويه:201).
وكان بعض المعاصرين قد توقّف عند ما جاء به سيبويه في هذا المجال، ثم قال:((وللأسف لم أجد من شرّاح الكتاب ولا ممن جاء بعده من توقّف عند هذا المفهوم ، فقد ظلّ نسيا منسيا وهذا لعمري إجحاف في حق الرجل الذي نصب أعلام النحو. وما قيل عن القدامى يقال عن المحدثين لا فرق في التقصير)) (البعد التداولي عند سيبويه:256). ومع اتفاقنا مع الباحث في تأسُّفه أنوّه إلى أنّي أول مَن أبرز مفهوم سيبويه للخُلْف وسبقت غيري من المعاصرين ويشاركهم القدماء أيضا (بحسب تتبعي ويسنده ما ذكره الباحث في قوله الآنف الذكر) في إغفال هذا الاصطلاح(ينظر أطروحتي: مفهوم الجملة عند سيبويه، الجامعة المستنصريّة1999).
ونرى ألّا نقصر هذا التأسف على هذا الجانب من التّحليل النّحويّ في الكتاب بل يمتد إلى ما نراه طمسا للنّظرية النّحويّة في الكتاب، واعتقد أن ذلك نشأ من عدم القدرة على استيعاب ما أتى به سيبويه من طرائق تحليل الكلام، ثمّ الميل نحو أسلوب تعليميّ مبسّط ينشده المعلمون لتلامذتهم؛ فأخذوا يجتزئون من الكتاب على موضع الحاجة.
ومن موارد ظهور هذا المستوى من التحليل وقدرته على إظهار الإضمار قول سيبويه: ((هذا باب ما يُضمر فيه الفعل المستعمل إظهار في غير الأمر والنهي، وذلك قولك: إذا رأيت رجلاً متوجِّهاً وجهة الحاجّ قاصداً في هيئة الحاج، فقلت: مكةَ وربِّ الكعبة؛ حيث زَكنْتَ أنّه يريد مكة، كأنك قلت: يريد مكة واللهِ. ويجوز أن تقول: مكةَ واللهِ، على قولك: أراد مكّة واللهِ، كأنّك أخبرت بهذه الصفة عنه أنّه كان فيها أمسِ، فقلتَ: مكة واللهِ، أيْ أراد مكة إذ ذاك))( كتاب سيبويه:1/ 257). فالتركيب: مكة وربِّ الكعبة جملة محوّلة وكان اختزال الفعل فيها لإمكانية هذا التركيب من الإحالة إلى موقف واضح أدرك المتكلم أن المخاطب مدرك له بقوله: ((حيث زَكنت أنه يريد مكة..)).
ويقول سيبويه بعد النص السابق: ((ولو رأيت ناساً ينظرون الهلالَ وأنت منهم بعيد فكبّروا لقلت: الهلالَ وربّ الكعبة؛ أي أبصروا الهلالَ. أو رأيت ضرباً فقلت على وجه التفاؤل: عبدَالله، أي يقع بعبداللهِ أو بعبدالله يكون، ومثل ذلك أن ترى رجلاً يريد أن يوقع فعلاً، أو رأيته في حال رجل قد أوقع فعلاً، أو أخبرت عنه بفعل فتقول: زيداً، تريد: اضرب زيداً أو أتضرب زيداً؟))(كتاب سيبويه:1/257).
فكأن سيبويه يقدّم لنا مسرحياً لغويّا يظهر فيه جماعة يترقبون الهلالَ وبعيداً عنهم يقف المتكلم وهو مطّلع على أمرهم، فإذا كبّروا عرف المتكلم أنهم قد أبصروا الهلال؛ لأن التكبير في مثل هذا المقام يعني رؤية الهلال. ويتخذ المخاطب موقفاً قريباً من المتكلّم ناظراً إلى الجماعة غير عالم بخبرهم فإذا قال المتكلم: الهلالَ؛ فهم منه المخاطب أنّ الجماعة قد أبصرت الهلال. فالمحتوى الدلالي الذي يقدّم سيبويه ههنا يتضمن حقائق خارجية هي:
-الجماعة المترقبة لولادة الهلال.
-المتكلم وموقعه البعيد عن الجماعة.
-معرفة المتكلم الضمنية بما اجتمعوا لأجله.
-العادات الاجتماعية تفرض سيطرتها على السلوك اللغويّ (فكبروا…)
-المخاطب وموقعه من المتكلم.
-رؤية المخاطب أو معرفته بوجود الجماعة.
-عدم معرفة المخاطب سبب اجتماعهم.
-سماع المخاطب تكبير الجماعة… وهكذا.
وقد عبر د. نهاد الموسى عن هذا المحنى عند سيبويه بقوله: (( وهذه آيات دالّة على أنّ سيبويه أدرك ما يكون من انعدام اللغة في نظامها الداخليّ الخاصّ، بالحياة في مجالها الخارجيّ العام))(نظرية النحو العربي:90).
وكان د.نهاد الموسى قد أطلق على هذا الجانب من التحليل( البعد الخارجيّ في التّحليل النّحويّ عند سيبويه)(ينظر: نظرية النحو العربي: 88). فما أقرب هذا العنوان إلى مصطلح الخُلْف!.
ومن الممكن إضافة بعض الاحتمالات لهذا المشهد السياقيّ الذي يفترضه سيبويه في القول بدلالة الكلمة الواحدة (زيداً ونحوها) على جملة تامة حذف فعلها لدلالة الحال عليه وعلم المتكلم بأن المخاطب يشاركهُ في تبنّي مجموعة من التوافقات الخطابية مما يمكن عدّه في إطار (مبدأ التعاون) الذي قال به غرايس ولا سيما في قاعدة الكمية. فمن الظواهر الواضحة في هذا المجال أن يتم الاستغناء عن بعض مكوناتها لما يوفّره بناء الجملة المتحققة للمستمع من ملاحظة ما أستغني عنه. وقد جرى مثل ذلك في طائفة من التركيب أُختزل فيها الفعل (كما عبّر سيبويه) على نحو الاختيار لا الإلزام من نحو قوله: ((هذا باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره، إذا علمت أنّ الرجل مستغنٍ عن لفظك بالفعل. وذلك قولك: زيداً، وعمراً، ورأسَه. وذلك أنّك رأيتَ رجلاً يضربُ أو يشتم أو يقتل، فاكتفيت بما هو فيه من عمله أن تلفظ له بعمله فقلت: زيداً، أي: أوقع عملك بزيد. أو رأيت رجلاً يقول: أضرِبُ شرَّ الناس فقلتَ: زيداً، أو رأيت رجلاً يحدِّثُ حديثاً فقطعه فقلتَ: حديثك، أو قدم رجل من سفر فقلت: حديثك، استغنيت عن الفعل بعلمه أنه مستخبر، فعلى هذا يجوز هذا وما أشبهه. وأمّا النهي فإنّه التحذير، كقولك: الأسدَ الأسدَ، والجدارَ الجدارَ، والصبيَّ الصبيَّ؛ وإنّما نهيته أن يقرب الجدار المخوف المائل، أو يقرب الأسد أو يوطئ الصبيّ…))(كتاب سيبويه:1/253). وهو ما نفهمه من قول سيبويه فيما سبق بقوله: ((إذا علمت أن الرجل مستغنٍ عن لفظك بالفعل)). وكذلك قوله: ((…بعلمه أنه مستخبر…)). فهكذا حال من تخاطبه إذ يجب لتحقق القصد من الكلام أن يفهم المقابل ما تحاول أن توصله إليه وإلاّ استحال الأمر.
فمن الواضح أنّ سيبويه يرى أن هذه الكلم جملٌ تامّةٌ لأنّ بناءها الظاهر يتضمن محتوىً دلاليّاً مثلما تتضمنه الجمل التامّة البناء. ويظهر المحتوى الدلالي متضمّناً موقفاً هو عبارة عن طائفة من الأحداث يقوم بها الطرف الأوّل بمرأى ومسمع من الطرف الثاني الذي سيتخذ وظيفة الآمر أو المستخبر أو المحذِّر للطرف الأوّل (الذي سيكون المخاطب). فللكشف عن المحتوى الدلاليّ يجب رسم صورة للبيئة التي أنتجت الجملة بكل أطرافها.
فالنص يبيّن كيف يتمّ الانسياق مع مبدأ التعاون المتقدّم ذكرهُ إذ يقترن بآثار خارجيّة متوجّة نحو الحواس والإدراك فالحال أو الموقف والمعرفة السابقة سمحا بهذا المسلك الاختياري في اختزال العنصر المولِّد الأساسي في الجمل مع بقاء هيمنته في إنشاء الجمل: وربط مكوناتها بعضها ببعض.
وتجب هنا ملاحظة الأثر الوظيفي الذي تلبَّس المتكلم والمخاطب إذ يصبحان سائلًا ومجيبًا كما في طائفة من الجمل المحوّلة التي اشتملت على نقص تركيبيّ.
إنَّ الصورة الظاهرة للجملة هي التي تقرر محتواها الدّلالي ومن ثمَّ السياق الذي يمكن أن ترد فيه. فوجود حالة إعرابية ما عامل فاعل في أن الكشف عن خُلْف الجملة. ومن ثمّ نضع في الاعتبار أن المنطوق هو الذي يكشف عن المحذوف ويكشف عن البنية الأولى التي صيغت عليها الجملة، ولذا فان المنطوق يتبادل الأثر مع سياقه في طبيعة تكوينه، والتحولات التي تعتريه. ومن هنا يمكن القول إن عملية التحويل عن الأصل هي عملية تركيبيّة، وأنها تطال التركيب حسب، وليس هناك بنى دلاليّة محوّلة، بل هي بنية واحدة تمتلك أكثر من تركيب يمثّلها.
من روافد المقالة:
البعد التداولي عند سيبويه، مقبول إدريس، عالم الفكر، ع3 ،2004م.
العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي(100-175هـ)، تحـ: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، دائرة الشؤون الثقافية العامة، دار الحرية للطباعة، ط2، 1404هـ-1984.
الكتاب-كتاب سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر(ت180هـ)، تحـ: عبد السلام محمد هارون، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت (د.ت).
المثلث، ابن السيد البطليوسي(444هـ-521هـ)، تحقيق د. صلاح مهدي الفرطوسي، دار الرشيد للنشر، دار الحرية للطباعة، بغداد،1401هـ-1981م.
مفهوم الجملة عند سيبويه، د. حسن عبد الغني الأسدي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1،1428هـ-2007م. وهو في الأصل أطروحة دكتوراه قُدمت إلى مجلس كلية التربية- الجامعة المستنصرية لنيل شهادة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية1999م.
نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث، د. نهاد الموسى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1400هـ-1980م.