امرأة من المشرق
قصة ممزوجة بألم التاريخ بين فيروز ونادية الايزيدية
كُنت في صبيحة يومًا مُشرق بين أركان بيتنا بأعالي الجبال بمدينة باذغيس ، كالجنة التي تكلم عنها زرادشت وحببنا بها في العالم الأخر،كنتُ وزوجي وأطفالي نشرب كمائها ونحيا كطبيعتها ومزاجها وهدوئها بمنزلنا الصغير،نعتاش من قطيعٍ لنا وزراعة،وإذا بغيمة مُتلبدة سوداء،لم تحمل الماء لمزروعاتنا ولم تُحييّ الأرض بل عاثت بها خرابًا،ولم ينجو كل من قام وعاش على بقاعها من الشجر والجماد والبشر.
براكين تأتي لتأخذ الأحبة،زلازل تحدُث وتذهب بالأرواح، موتًا بطاعون أو وباء يحصد الناس،إلا انه الغزو من بني البشر والنظراء في الخَلق،من ذلك الصباح بدأت القُصة،جيوشًا عقيدتها الجبر،إسلامها تأريخي تلطخت بدماء مالك بن نويرة،وبصرخات زوجته التي طلبوها حين قتلوا زوجها،وأياديهم تنوء بلهب حرق جثة عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)بمصر محمد بن أبي بكر(رضوان الله عليه)،وكربلاء تشهد بمأساة أهل البيت(عليهم السلام).
نعم هم بفكرهم الظلامي،قطعوا رأس زوجي وفرقوا بيني وبين الأطفال،ونُقلت للشام وهنا بدأ عظم الشقاء…أين أولادي ؟ ربما بيعوا بأسواق النخاسة، أيأتي يومًا تتكحل عينيا برؤيتهم، نيزك،وطرخان، وباسقة، البنت الصغيرة،قُرة عيني بأي ارضٍ حللتم،أُهديت باسقة لأمير من بني أمية،سعيت أتتبع اثر أبنائي،عانيتُ الشقاء والاستعباد و…فيروز وعائلتها ضحية من اعتنق لفظ الإسلام لا جوهره.
وقفة مع التاريخ…
بعيداً عن تَبْئِير الجانب النظري في الاتجاه التاريخي للفتوحات الذي يحصر معلوماته في إطارها الديني دون التعامل مع أسباب أخرى، ويمكننا الركون إلى إصباغ ذلك الإطار بالتاريخي لنلقي باللوم على المؤرخين ذوي الميول والاتجاهات لقربهم من السلطة أو لتبنيهم لمذهبها السياسي الديني (الجبرية)،وذنباً لا يقل عن هؤلاء يتحمله اغلب الذوات الذين يقلبون الألفاظ ومعانيها فالقبيح الموغل في القبح جميل،والقتل قيمة وانتصار،والاستعباد منطق ،والسبي حق، والنهب غنيمة ،فالاثنان عليهما مسؤولية قلب معنى الغزو إلى فتح إسلامي في سياق الأمة ودينها المبني بعد سنة 11ه.
أعانهم ثالث لتبرير وتشريع الفتوحات باتجاه الشرق،وهم المحدثون فوضعوا على لسان الرسول محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث ما انزل الله بها من سلطان كقوم يقتادون بالسلاسل للجنة،معناها مكرهين بدخولهم الإسلام، في محاولة لإفراغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من إنسانيته؛لأنها فوق نبوته،غايته الأساس تعليم الناس الإنسانية لا كيف يكونوا متدينين،والتدين في وعي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو كيف تكون إنسانًا،فالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بُعث لصناعة الإنسانية،ولهدم الكفر بالناس،وليس الكفر بالله تعالى؛لأنه غني عن عبادة العالمين،والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بُعث معلماً …وهل يقتل المعلم تلميذه لمجرد عدم تعلمهِ.
ثمة بناء للإسلام التاريخي شُيد بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معناه إعادة ما هدمه؛لان المشكلة بالبناء الجديد لا بما هدمه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ،فبرز شخص أبو ذر الغفاري حاملاً فأسه ليهدم هذا البناء؛لخشيته من بناء ما هدمه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)،فكان أول كافر بالإسلام التاريخي،ونُفي باسم الدين الجديد؛لان أزمة الدين أيضا تُلغي أخوة الوجود فإباحة قتل كل من لم يسلم، وتبدو عبارة:(قل لي تأريخك أَقَل لكَ دينك) لائقة؛ لان من قاد الفتح يحمل رمزية الاتجاه العقدي(العقائدي) وبه تُقاس مُثل الدين الذي يتَبع.
بئسًا لفكر اخترعوه يُدَرس الاستعباد ويمعن بالظلم ويقتل ويسبي وينهب، رفضته حتى الأديان الأرضية في محاولة سابقة له بثلاثة عشر قرن من الزمن فالاوتسة المفكر الصيني جاء في احد نصوص (تآوته) التي معناها (تآو)الطريق الروحي(الأخلاق،علة وفلسفة الوجود والإنسانية،نظام الطبيعة الخالد الرافض للعبودية)،(ته) النعمة أو اللطف الآلهي ،حينما ترسل حاكماً إلى بلاد التآو اشر عليه ان لا يستخدم القوة لفتح الدنيا،وهذا هو عين منطق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القائم على فتح القلوب لا الدروب،فبغيته صناعة إنسان في قلب الإنسانية.
لعلنا نفصح ونتحرر من هذا التحديد الديني في الجانب التطبيقي في ذاك الاتجاه(التاريخي) المتجسد في الاستجابة العفوية المفتقرة للتعبئة المنظمة من المقاتلين لدعوة صورها البلاذري(ت279ه) في توجيهه الجيوش صوب الشام بعد الردة” فكتب إلى أهل مكة ،والطائف،واليمن، وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم،فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع واتوا المدينة من كل أوب”،وربما القارئ للإحداث السابقة يستشعر بالغرابة من اندفاع هؤلاء والتجمع بالمدينة تلبية مجردة في الطاعة الطامعة،في حين كانت سيوفهم شاهرة بوجه سيادة دولة المدينة المنورة، ثمة بُعد اقتصادي ملموس من النص أعلاه تمثل بتسارع الطامعين،وهو يفوق البعد الديني العقدي(العقائدي) المتمثل بالجهاد الذي دعوا له، فالاقتصاد محور للفتوح ،وفي المنظور السياسي اليوم أي توسع مهما كانت دوافعه ممزوج أو محور حركته الاقتصاد يبدو استعمار.
يمكن الركون إلى جانب المشابهة بين الفتوحات وايام العرب اذ وجدوا مساحة للفخر بالانتماء القبلي البطولي لبعض الأبناء وخير شاهد استذكار قتيبة لبني تميم في فتح بخارى بيوم من أيامهم يعني القادسية وبطلهم الأسطوري القعقاع،وقبلهم قبائل الازد في بخارى أيضا قولهم اجعلونا على حده نقاتل الترك، فبدت المشابهة واضحة التصور وفق الواقع العقلي والنقلي .
لتتابع الحديث نذكر بعض سياسات قادة الفتح ،فخالد بن الوليد في صدارة قائمتهم،نراه في قبل ذلك في تشريع مقاتلة من منع الزكاة عن أبو بكر ،فقتل مالك بن نويرة المسلم ونال من امرأتهِ من يومها، وثمة تصور مؤسف بالمغرب يندى له جبين الإنسانية لا الدين تذكره بعض المصادر عند فتح برقة من قبل عمرو بن العاص الذي صالح أهلها على جزية معلومة تجمع حتى لو باعوا ممن يحبون بيعه من أبنائهم ونسائهم.
أما وصية معاوية لبسر بن ارطأة الذي وجهه بجيش قوامه ثلاثة آلاف نحو المدينة،نصت بإدخال الرعب على أهلها وتهجيرهم ونهب أموال كل من لم يدخل في طاعتهِ من المسلمين،وعملياً يصعب فصل ممارسات قتيبة بن مسلم الباهلي صنيعة الحجاج عن تتابعنا أعلاه في نشوء انطباع الظلم والطغيان الممزوج بالنهب والسبي مبتعدين آلاف المراحل والفراسخ عن اصل الدين، من خلال تعقب بعض النصوص التاريخية،ففي حصار إحدى مدن ما وراء النهر الحصينة نقرأ صيحات قتيبة من يعبر أعطيته ديته وان مات أعطيتها لأولاده، ونسمع ايضاً اذهبوا وانهبوها أبحتها لكم بكل ما فيها، وفي حادثة أخرى يتردد صدى قوله:من جاءني براس فله مائة، وختاماً مكتفين بذكر مجزرة شغلت مساحة أربع فراسخ بسماطين منتظمة بنسق.
يبدو واضحاً من الخطاب الدائر الترغيب بالجانب المادي دون أدنى إشارة لمفهوم الجهاد لنشر الدين الذي يبشر بنتيجة مقدسة وهي الجنة لا المال، فيقترب ويقترن بفتوحهِ النهب والقهر وسبي الذراري وتفريق الأطفال بعد قتل الإباء، كلٌ من هذه الممارسات قد تبيح لنا إطلاق مفهوم الاحتلال العسكري لهذه البلاد، فالمفهوم الظلامي امتد وقعه، تاركاً لنا وصفاً عنه المروزي في حديثه عن الأقوام الروسية التي كانت تعتمد في عيشها على السيف وإذا مات منهم شخص مخلفاً بنات وبنين ترث ماله البنات وللبنين الكسب بالسيف” فلما دخلوا في النصرانية أَخمد الدين سيوفهم وانسد دونهم باب الكسب وعَادَ عليهم بالضرر والإفلاس وضاقت المعيشة عليهم فَرغِبوا في الإسلام[التأريخي] ليباح لهم الغزو والجهاد لينتعشوا”، الإسلام لفظه لا جوهره،فكر الأمويون ومعتقدهم المصطنع،ومن سبقهم من المنافقين الذين شوهوا معالم الدين الحنيف،دين التسامح والمساواة.
فيروز بعد هذا الوصف التاريخي ماثلت نادية مراد الايزيدية التي تعرضت هي الأخرى للهجمة القاتمة في ذلك الصباح المُشرق حينما كانت فيروز تعدُ فطور أبنائها،وربما اختزلت المسافات والحُقب الزمنية لتقترب أو تتقابل في الظروف والأشخاص، فقتيبة بن مسلم الباهلي رجل الحجاج وجيشه كالدواعش، وجهان لعملة واحدة،قطع الرؤوس والسبي حرفتهم،متمسكين بظواهر الآيات، أو مفسريها وفق منظورهم ومذهبهم السياسي.
ربما تحدثت سألت نادية أين اهلكِ يافيروز؟ من أي بلاد أنتِ؟ حينما التقيا بسوق النخاسة بالشام…
-قتلوا أهلي…
-قطعوا رأس زوجي…
-فرقوا بيني وبينهم…
قالت نادية:أهلي وقريتي أُبيحت كقريتكم…
-وسُبيت ونساء ايزيديات كُثر،و…
-نعم هكذا هي حكايتنا واحدة، فالقوم أبناء القوم…
-لكننا وقعنا بشراة بعيدي الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف،دين يُقدس المرأة،ويحمي حقوقها،ويُلزم الزوج بإيفائها أجور رضاعة أطفالها،بل يجعل الجنة تحت إقدامها…
المصادر:
-البكري،عبد الله بن عبد العزيز بن محمد(ت487ه).
1-المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب،دار الكتاب الإسلامي،القاهرة،د/ت.
-البلاذري،احمد بن يحيى بن جابر(ت279ه).
2-فتوح البلدان، مكتبة الهلال،بيروت،1988م.
-الطبري،محمد بن جرير(ت310ه).
3-تاريخ الرسل والملوك،تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،ط2،
دار المعارف،القاهرة،1971م.
-ابن عبد الحكم ،عبد الرحمن بن عبد الله(ت257ه).
4-فتوح مصر والمغرب،تحقيق:عبد المنعم عامر،الهيئة العامة لقصور
الثقافة ،القاهرة،1961م.
-المروزيّ،شرف الزمان طاهر(كان حياً514ه).
5-طبائع الحيوان”باب الترك”،تحقيق:ف.مينوريسكي،لندن،1942م.
-النرشخي،محمد بن جعفر(ت348ه).
6-تاريخ بخارى،ترجمة وتحقيق:امين عبد المجيد بدوي ونصر الله مبشر الطرازي، ط3،دار المعارف،القاهرة،د/ت.
-ياقوت الحموي،ابي عبد الله بن عبد الله(ت626ه).
7-معجم البلدان،ط3،دار صادر،بيروت،2007م.
-اليعقوبي ،احمد بن ابي يعقوب(ت بعد292ه).
8-تاريخ اليعقوبي،تحقيق:محمد صادق بحر العلوم،ط4،
المطبعة الحيدرية،النجف،1973م.