مشاهدات الرحالة العرب والمسلمين في الاسكندينافية
بقلم : البروفسور – عباس جبير سلطان التميمي
يتبجح العالم بأنه عالم الاقوياء وفلسفته استعباد الاخرون بما يملك من أدوات تدمير ، في الوقت أن عالمنا العربي يعيش ضمن منظومة الاستعباد سواء من القائمين عليه أو من امتلك تلك الادوات ، متناسين هؤلاء أن الحضارة العربية هي من حفظت لهم هويتهم وتراثهم ووضعت لهم اسس الحضارة المدنية التي ينعمون بها الان ، فكانت دمشق وبغداد والأندلس جزر للثقافة والحضارة في الوقت التي كانت فيه اوربا تعيش العصور المظلمة ، وما تقدم اوربا وغيرها إلا بفعل المهاجرين من حضارتنا ومن الحواضر الاخرى وينقل لنا ابن فضلان والذي صورة من الصور البائسة التي كانت تعيشها اوربا المتحضرة وهو قادم من بغداد المجد والتقدم الحضاري ليقارن ما شاهده في بلاده وهذه البلاد والروسية والتي سميت فيما بعد ببلاد الاسكندينافية. لابد من اعطاء صورة عن تلك البلاد قبل الحديث عن ما نقله لنا ابن فضلان . سكنهم : يسكن الروس في جزيرة وبئة تحيط بها بحيرة وهي بمثابة حصن لهم ممن أراد غزوهم ، عدد سكانهم على التقدير مائة الف انسان. اقتصادهم : ليس لهم زرع ولا ضرع ، بالرغم من ذلك كان الصقالبة يغيرون عليهم ويأخذون اموالهم وهم بهذا في حالة قلق دائم . والغالب عليهم الطابع العسكري فقد ورد عنهم أنهم ” إذا ولد لأحدهم مولود القى إليه سيفاً وقال له : ليس لك إلاَّ ما تكسبه بسيفك ، وإذا حكم ملكهم بين خصمين بشيء لم يرضيا به قال : تحاكما بسيفكما ، فأي السيفين كان أحد كانت له الغلبة له ” ، وهذا يعني أن سلوك هؤلاء وبحكم الموقع وفقر اقتصادهم جعلهم يلجئون إلى الحرب والقتال للحصول على عيشهم . أما لغتهم وشيريعتهم جاء فيها وهم ، أمة من الأمم بلادهم متاخمة للصقالبة والترك ، ولهم لغة برأسها ودين وشريعة لا يشاركهم فيها أحداً . ونقلاً عن ابن فضلان عن صفاتهم وبعض سلوكياتهم قال : رأيت الروسية وقد وافوا بتجارتهم فنزلوا على نهر إتل فلم أر أتمَّ أبداناً منهم كأنهم النخل شُقر حمر لا يلبسون القراطف ولا الخفاتين ، ولكن يلبس الرجل منهم كساءً يشتمل به على أحد شقَّيه ، ويخرج إحدى يديه منه ومع كلَّ واحد منهم سيف وسكين وفأس لا يفارقه ، وسيوفهم صفائح مشطية إفرنجية ، ومن حدّ ظفر الواحد منهم إلى عنقه مخضّر شجر وصور وغير ذلك ، وكل امرأة منهم على ثديها حقة مشدودة إما من حديد وإما من نحاس وإما من فضة وإما من ذهب على قدر مال زوجها ومقداره في كل حلقة فيها سكين مشدودة على الثدي أيضا وفي اعناقهن أطواق ذهب وفضة لأن الرجل إذا ملك عشرة ألاف درهم صاغ لامرأته طوقاً وإن ملك عشرين ألفاً صاغ لها طوقين وكلما زاد عشرة آلاف درهم يزيد لها طوقاً آخر فربما كان في عنق الواحدة منهن أطواق كثيرة وأجلّ الحلي عندهم الخرز الأخضر من الخزف الذي يكون على السفن يبالغون فيه ويشترون الخرزة منه بدرهم وينضمونه عقداً لنسائهم . اما سلوكياتهم فجاء فيها ” هم اقذر خلق الله لا يستنجون من غائط ولا يغتسلون من جنابة كأنهم الحمير الضالة يحيئون من بلدهم ، فيرسونُ سفنهم بإتل وهو نهر كبير ويبنون على شاطئه بيوتاً كباراً من الخشب ويجتمع في بيت الواحد العشرة والعشرين والأقل والأكثر ولكل واحد منهم سرير يجلس عليه ومعه جواريه الرُّوقة للتجار ، فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه ، وربما اجتمعت الجماعة منهم على هذه الحالة بعضهم بحذاء بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يقضي أرْبه ، ولابد لهم في كل يوم بالغداة أن تأتي الجارية ومعها قصعة كبيرة فيها ماءٌ فتقدمها إلى مولاها فيغسل فيهال وجهه ويديه وشعر رأسه فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يمتخط ويبصق فيها ولا يدع شيئا من القذر إلاَّ فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي يليه فيفعل مثل ما فعل صاحبه ولا تزال ترفعه من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت وكل واحد منهم يمتخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها ، وساعة موافاة سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم ولبن وبصل ونبيذ حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة لها وجه يشبه وجه الانسان وحولها صور صغار وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها ثم يقول : يا ربّ قد جئت من بعد ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً ومن السمور كذا وكذا جلداً حتى يذكر جميع ما قدم ومعه من تجارته ثم يقول : وقد جئتك بهذه الهدية ثم يترك ما معه بيد يدي الخشبة ويقول : أريد أن ترزقني تاجراً معه دنانير ودراهم فيشتري منه كلما أريد ولا يخالفني في جميع ما أقول ثم ينصرف فإن تعسر عليه بيعه وطالت أيامه عاد بهدية أخرى ثانية وثالثة فان تعذر عليه ما يريد حمل إلى صورة من تلك الصور الصغار هدية وسألها الشفاعة ، وقال هؤلاء نساءُ ربنا وبناته ولا يزال إلى صورة يسألها ويستشفع بها ويتضرع بين يديها فربما تسهل له البيع فباع فيقول قد قضى ربي حاجتي وأحتاج أن أكافئه فيعمد إلى عدة من البقر والغنم على ذلك ويقتلها ويتصدّق ببعض اللحم ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها ويعلق رؤوس البقر والغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض ، فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت ذلك فيقول الذي فعله قد رضي عني ربي وأكلَّ هديتي ، وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خمية ناحية عنهم وطرحوه فيها وجعلوا معه شيئاً من الخبز والماء ولا يقربونه ولا يكلمونه بل لا يتعاهدونه في كل أيامه لاسيما أن كان ضعيفاً أو كان مملوكاً ، فإن برأ وقام رجع اليهم وأن مات أحرقوه وأن كان مملوكاً تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير. ومن سلوكياتهم ، إذا أصابوا سارقاً أو لصاً جاؤوا به إلى شجرة طويلة غليظة وشدوا في عنقه حبلاً وثيقاً وعلقوه فيها ويبقى معلقاً حتى يتقطع من المكث إما بالريح أو الأمطار ، كانوا يفعلون برؤسائهم عند الموت أموراً أقلها الحرق فكنت أحب أن أقف على ذلك حتى بلغني موت رجل منهم جليل فجعلوه في قبره وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة ويجعلونه ثلاثة أثلاث ، فثلث لأهله وثلث يقطعون له ثياباً وثلث يشترون به نبيذاً يشربونه يوم تّقْتُل جاريته نفسها وتحرق مع مولاها وهم مستهترون بالخمر يشربونها ليلاً ونهاراً ، وربما مات الواحد منهم والقدح في يده ، وإذا مات الرئيس منهم قال أهله لجواريه وغلمانه من منكم يموت معه فيقول بعضهم أنا فإذا قال ذلك فقد وجب عليهم لا يستوي له أن يرجع ابداً ولو أراد ذلك ما ترك وأكثر ما يفعل هذا الجواري ، فلما مات الرئيس قالوا لجواريه من يموت معه فقالت أحدهن أنا ، فوكلوا بها جاريتين تحفظانها وتكونان معها حيث ما سلكت حتى إنهما ربما غسلتا رجليها بأيديهما وأخذوا في شأنه وقطع الثياب وإصلاح ما يحتاج له والجارية في كل يوم تشرب وتغنّي فارحةً مستبشرةً ، فلما كان اليوم الذي يحرق فيه هو والجارية حضرت إلى النهر الذي فيه سفينته فإذا هي قد أخرجت وجعل لها أربعة أركان من خشب الخلنج وغيره وجعل حولها أيضاً مثل الأناس الكبار من الخشب ثم مدت حتى جعلت على ذلك الخشب ، وأقبلوا يذهبون ويجيئون ويتكلمون بكلام لا يفهم خاص بهم وهو بعد في قبره لم يخرجوه ثم جاءوا بسرير فجعلوه على السفينة وغشوه بالمضربات الديباج الرومي والمساند الديباج الرومي ، ثم جاءت امرأة عجوز يقولون لها ملك الموت ففرشت على السرير وهي وليت خياطته وإصلاحه ، وهي تقتل الجواري ورأيتها حواء نّيرة ضخمة مُكفَهّرة فلما وافوا قبره نحّو التراب عن الخشب ونحّوا الخشب واستخرجوه في الإزار الذي مات فيه فرأيته قد اسود لبرد البلد وقد كانوا جعلوا معه في قبره نبيذاً وفاكهة وطنبوراً فاخرجوا جميع ذلك وإذا هو لم يتغير منه شيء غير لونه فألبسوه سراويل وراناً وخفاً وقرطقاً وخفتان ديباج له أزرار ذهب وجعلوا على رأسه قلنسوة من ديباج سمور وحملوه حتى أدخلوه القبة التي السفينة وأجلسوه على المضرّية وأسندوه بالمساند ، وجاءوا بالنبيذ والفواكه والريحان فجعلوه معه وجاءوا بخبز ولحم وبصل فطرحوه بين يديه وجاءوا بكلب فقطعوه نصفين وألقوه في السفينة ثم جاءوا بجميع سلاحه فجعلوه إلى جانبه ثم أخذوا دابتين فأجروهما حتى عرقتا ثم قطعوهما بالسيوف وألقوا لحمهما في السفينة ، ثم جاءوا ببقرتين فقطعوهما أيضاً وألقوهما في السفينة ثم أحضروا ديكاً ودجاجة فقتلوهما وطرحوهما فيها والجارية التي تقتل ذاهبة وجائية تدخل قبة فيه من قبابهم فيجامعها واحد واحد وكل واحد يقول لها: قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك ، فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاءوا بالجارية إلى شيء عملوه مثل ملبن الباب فوضعت رجلها على أكف الرجال وأشرفت على ذلك الملبن وتكلمت بكلام لها فانزلوها ثم أصعدوها ثانية ففعلت كفعلها في المرة الاولى ثم أنزلوها واصعدوها ثانية ففعلت كفعلها في المرة الأولى ثم أنزلوها واصعدوها ثالثة ففعلت فعلها في المرتين ثم دفعوا لها دجاجة فقطعت رأسها ورمت به فاخذوا الدجاجة والقوها في السفينة ” . وعندما سأل الترجمان عن فعلها فقال قالت : في المرة الأولى هُو ذا أرى أبي وأمي وقالت في المرة الثانية هو ذا أرى جميع قرابتي الموت قعوداً ، وقالت في المرة الثالثة هو ذا أرى مولاي قاعداً في الجنة والجنة حسنة خضراء ومعه الرجال والغلمان وهو يدعوني فاذهبوا بي إليه ، فمرُّوا بها نحو السفينة فنزعت سوارَين كانت معها فدفعتهما إلى المرأة العجوز التي تسمى ملك الموت وهي التي تقتلها ونزعت خلخالين كانتا عليها ودفعتهما إلى الجاريتين اللتين كانتا تخدمانها ، وهما أبنتا المعروفة بملك الموت ثم أصعدوها إلى السفينة ولم يدخلوها إلى القبة ، وجاء الرجال ومعهم التراس والخشب ودفعوا اليها قدحاً من نبيذ فغّنت عليه وشربته ، ومعنى ذلك أنها تودع صواحباتها بذلك ثم دفع إليها قدح آخر فأخذته وطولت الغناء والعجوز تستحثها على شربه والدخول إلى القبة التي فيها مولاها فرأيتها وقد تبدلت وأرادت إلى القبة فأدخلت رأسها بين القبة والسفينة فأخذت العجوز رأسها وأدخلتها القبة ودخلت معها العجوز وأخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئلا يسمع صوت صياحها فيجزع غيرها من الجواري فلا يطلبن الموت مع مواليهنّ ثم أضجعوها إلى جانب مولاها الميت وأمسك اثنان رجليها واثنان يديها وجعلت العجوز التي تسمى ملك الموت في عنقها حبلاً مخالفاً ورفعته إلى أثنين ليجذباه وأقبلت معها خنجر عظيم عريض النهل فأقبلت تدخله بين أضلاعها موضعاً موضعاً وتخرجه والرجلان يخنقانها بالحبل حتى ماتت ثم وافى أقرب الناس إلى ذلك الميت فأخذ خشبة فأشعلها بالنار ثم مشى القهقرى نحو قفاه إلى السفينة والخشبة في يده الواحدة ويده الأخرى على اٌسته وهو عريان حتى أحرق ذلك الخشب الذي قد عبوه تحت السفينة من بعدما وضعوا الجارية التي قتلوها في جنب مولاها ، ثم وافى الناس بالخشب والحطب ومع كل واحد خشبة وقد الهب رأسها فيلقيها في ذلك الخشب فتأخذ النار في الحطب ثم في السفينة ثم في القبة والرجل والجارية وجميع ما فيها ثم هبت ريح عظيمة هائلة فاشتد لهب النار وأضطرم تسعرها . وذكر أن رجلاً روسياً كان يقول إلى ابن فضلان وقد ترجم المترجم كلامه ” أنتم معاشر العرب حَمقى لأنكم تعمدون إلى أحب الناس اليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب فتأكله الهوام والدود ونحن نحرقه بالنار في لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته ، ثم ضحك ضحكاً مفرطا ، وقال من محبة ربه له قد بعث الريح حتى تأخذه في ساعته فما مضت على حقيقة ساعة حتى صارت السفينة والحطب والرجل الميت والجارية رماداً رمْدِداً ، ثم بنوا على موضع السفينة وكانوا أخرجوها من النهر بالتل المدور ونصبوا في وسطه خشبة كبيرة خذنج وكتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك الروس وانصرفوا. ومن سلوكيات الروس فقد ذكر ان من رسم ملوك الروس أن يكون معه في قصره أربعمائة رجل من صناديد أصحابه وأهل الثقة عنده فهم يموتون بموته ويقتلون دونهم ومع كلَّ واحد منهم جارية تخدمه وتغسل رأسه وتضع له ما يأكل ويشرب ، وجارية أخرى يطؤها وهؤلاء الأربعمائة يجلسون تحت سريره وسريره عظيم مرصّع بنفيس الجواهر ، ويجلس معه على السرير أربعون جارية لفراشه وربما وطئ الواحدة منهن بحضرة أصحابه . . ولا ينزل عن سريره ، فإذا أراد قضاء حاجة قضاها في طشت ، وإذا أراد النزول قدم دابته حتى يكون نزوله عليه ، وله خليفة يسوس الجيوش ويوقع الأعداء ويخلفه في رعيته .