اثر البيئة الاجتماعية في تغيير اتجاه حركة التاريخ
د. حيدر صبري شاكر الخيقاني
جامعة كربلاء- كلية التربية للعلوم الانسانية
قسم التاريخ
مما لا ريب فيه ان الاوضاع التي يتعرض لها مجتمع معين خلال فترة محددة يكون لها اثرا على طبيعة الحياة في ذلك المجتمع، لان تأثيرها يقع على افراده بشكل رئيس، وقد اوضح عالم الاجتماع البريطاني هربرت سبنسر Herbert Spence في مؤلفاته منذ عام 1860 اثر النظرية التطورية على المجتمع وطبيعته. ولو تمعنا النظر في الاحداث التاريخية التي شهدتها بعض الدول الاوربية منذ القرن الخامس عشر وحتى يومنا هذا سنجد ان للبيئة الاجتماعية تأثير كبير في صنع الحدث التاريخي، وفي تغيير مسار حركته وكذلك لها تأثير على طبيعة ذلك الحدث.
ان المتمعن في تاريخ اوربا الحديث سيجد ان بعض الدول البحرية منذ اواخر القرن الخامس عشر مثل البرتغال واسبانيا قد شهدت تطورا نسبيا في صناعة السفن وادوات الملاحة، ورافق ذلك ظهور العديد من المغامرين والتجار الباحثين عن الثروة الذين سعوا الى اكتشاف مناطق بكر للاستحواذ على ثرواتها وهذا ساهم بشكل فعال في نشاط حركة الكشوفات الجغرافية واكتشاف العالم الجديد عام(1492)، والذي عد موطنا جديدا للملايين من البشر، فضلا عن ثرواته الطبيعية التي انتفعت منها بشكل رئيس الدول الاوربية. كما ساعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح عام(1498) على تسهيل نقل البضائع والسلع بين اوربا والشرق، ونشاط حركة التجارة مع المناطق المطلة على الخليج العربي والهند وكان ذلك بداية لتوسع النفوذ الاوربي على حساب مناطق ودول عدة من الشرق وفي مقدمتها الهند.
وشهد المجتمع الاوربي في القرن السادس عشر رواج بعض الافكار المتطرفة للكنيسة على يد بعض رجال الدين مستغلين جهل بعض افراد المجتمع، مما ادى الى ظهور حركة الاصلاح الديني في المانيا عام 1517 على يد مارتن لوثر، وقد اعقبه في مواصلة الاصلاح البروتستانتي العديد من المصلحين في اوربا، وتعد تلك الحركة بمثابة ثورة في تغيير نظرة المجتمع للدين وعدت بمثابة استجابة للتحدي الذي تعرض له المجتمع من قبل بعض رجال الدين المتطرفين مما ولد الرغبة لدى العديد من شعوب الدول الاوربية للتخلص من هيمنة الافكار الدينية المتطرفة، وهذا ادى الى انقسام العالم المسيحي الى كاثوليك وبروتستانت ولم يكن لهذ الانقسام تأثيرا على وحدة المجتمع آنذاك لولا وجود بعض المتطرفين من كلا الطرفين. ومن ذلك نلاحظ ان التحدي الذي واجه المجتمع الاوربي عامة ولا سيما المجتمع الالماني في تلك المدة كان من العوامل التي ساهمت بشكل رئيس في ظهور حركة الاصلاح الديني.
وخلال القرن السابع عشر ادت نزعة التوسع والهيمنة والبطولة لدى العديد من الدول الاوربية الى دخول اوربا في حروب عدة كانت معظم اسبابها تدور حول رغبة بعض الدول في السيادة والنفوذ على حساب الدول الاخرى. ولعل من اهم الحروب التي شهدتها اوربا آنذاك هي حرب الثلاثين عام (1618-1648) والتي تعددت اسبابها السياسية والدينية والاقتصادية، وشاركت فيها دول عدة من اهمها الامبراطورية الرومانية المقدسة وفرنسا وبوهيميا والسويد والدنمارك. كما شهد القرن الثامن عشر حروب عدة ومنها حرب الوراثة الاسبانية(1701-1714)، وحرب الوراثة النمساوية(1740-1748)، وحرب السنوات السبعة(1756-1763). وجميع تلك الحروب لم تحدث لولا توفر البيئة الاجتماعية المناسبة لحدوثها سواء من الناحية المادية او غير المادية.
وادت التغيرات التي طرأت على المجتمع البريطاني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الى ظهور “الثورة الصناعية” انطلاقا من انكلترا لتنتشر من خلالها الى مختلف الدول الاوربية. وقد ادى الاهتمام بالعلوم والاختراعات داخل ذلك المجتمع الى توفر الاوضاع المناسبة لحدوث تلك الثورة العلمية، فضلا عن توفر العوامل الرئيسة الاخرى ومنها الموارد الطبيعية، واليد العاملة، ورأس المال، والاستقرار السياسي النسبي، وكان لتلك العوامل الاثر الفعال في ظهور تلك الثورة في انكلترا تحديدا قبل غيرها من باقي الدول الاوربية. وكان لنتائج الثورة الصناعية اثرا في تغيير مسار اتجاه التاريخ البشري نتيجة للتقدم التقني الذي عم العالم بأجمعه وساعد على تطور وسائل وطرق الانتاج والنقل فضلا عن تطور شتى ميادين الحياة.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر نلاحظ ان الاستغلال الذي كان يتعرض له عمال المصانع في اوربا ساهم بشكل فعال في انتشار الافكار الماركسية بين اعداد كبيرة من عمال المصانع، وكان من الاسباب الرئيسة لتبني العمال مثل تلك الافكار هو لأنهم وجدوا فيها وسيلة ربما ستنجح في تخليصهم من الاستغلال الذي كانوا يتعرضون له من قبل ارباب العمل، على الرغم من السلبيات العديدة الموجودة في النظرية الماركسية، أي ان توفر البيئة الاجتماعية المناسبة هو الذي ساعد على انتشار مثل تلك الافكار ورواجها داخل المجتمع على الرغم من سلبياتها.
وخلال القرن العشرين شهد المجتمع الاوربي ظهور العديد من الأنظمة الدكتاتورية وقد أدى ظهورها الى دخول العالم في حروب راح ضحيتها الملايين من البشر، ناهيك عن الخسائر المادية التي استنفذت الكثير من الإمكانيات الاقتصادية لمعظم الدول التي شاركت فيها، مما ترك أثرا سلبيا على تقدم الحضارة الإنسانية، وسبب ذلك يعود الى ظهور بعض الأنظمة الدكتاتورية مثل الفاشية في ايطاليا والنازية في ألمانيا والفرانكوية في اسبانيا والستالينية في روسيا، ومن الملاحظ ان تلك الأنظمة قد ظهرت في اوربا على الرغم من التقدم الحضاري الذي كانت عليه الدول الاوربية في القرن العشرين مقارنة بما كانت عليه الاوضاع في القرن التاسع عشر، الا ان ذلك لم يمنع من ظهور تلك الانظمة المتطرفة. وهذا يعود بشكل رئيس الى توفر البيئة الاجتماعية والسياسية المناسبة لظهورها لتغدو من أسوء الأنظمة الدكتاتورية التي شهدها التاريخ البشري في الغرب.
وتوفرت مجموعة من العوامل الاجتماعية التي ساهمت في نشأة الأنظمة الدكتاتورية في الدول الاوربية خلال النصف الاول من القرن العشرين يأتي في مقدمتها الخلل الذي اصاب المنظومة الفكرية للمجتمع، وأسباب ذلك تعود الى عوامل داخلية وعوامل خارجية عديدة، ومن أهم العوامل الداخلية هي عدم إدراك الشعب لحقوقه الطبيعية بسبب جهله لها والذي يعود بدوره الى عدم انتشار الوعي الثقافي العام وضعف وقصور المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، عن أداء دورها بشكل تام، وهذا ادى الى قيام بعض الأفراد سواء كانوا يمثلون حزب او جمعية او منظمة بفرض إرادتهم على الآخرين بالترغيب والترهيب ليضعوا أسس الدكتاتورية.
اما العوامل الخارجية المؤدية الى الخلل في المنظومة الفكرية الاجتماعية فيأتي في مقدمتها الحروب التي تعرضت لها البلاد وآثارها الوخيمة على المجتمع. فقد اثبت تاريخيا ان الآثار السلبية التي تتركها الحروب على الدول التي تتضرر من جرائها او التي تشارك فيها، سواء كانت تلك الدول منتصرة او منهزمة، لها آثارا سلبية كبيرة جدا على المنظومة الاجتماعية كونها تمثل جزء من الكيان العام في الدولة الذي يتعرض الى الضرر، فبعد نهاية كل حرب نلاحظ ان الأفراد يحاولون التخلص من الأوضاع المتردية التي عانوا منها بسبب الحرب لذلك يكون لديهم استعدادا نفسيا لمساندة أية جماعة او الإيمان بأي فكر يخلصهم من واقعهم المتردي وهذا يعني وجود بيئة اجتماعية مناسبة لتقبل الأفكار الجديدة، لاسيما اذ كانت مصحوبة بالوعود التي تقطع من قبل القادة والزعماء للفئات التي تطالب بالتغيير من اجل تخليصها مما تعانيه من تدهور في أوضاعها العامة. ومثل هذه الأوضاع قد تستغل من قبل بعض الطموحين لتحقيق أهدافهم وهذا ما حدث في أوربا في النصف الاول من القرن الماضي فعندما ظهرت الفاشية في ايطاليا استقطبت الملايين من الجماهير وكذلك هو الحال مع النازية في ألمانيا لان قادتها بشروا بالدعوة الى إقامة مجتمع ديمقراطي يسعد بالحياة الهنيئة قائم على أساس من العدل والحرية والضمان الاجتماعي وأمثال هذه الوعود قد قطعها كل من موسوليني وهتلر وفرانكو وستالين للجماهير التي تتأمل الخلاص من الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها الا ان الآمال لم تتحقق وحصل ما حصل.
ومن خلال ما تقدم نجد ان هناك تأثيرا كبيرا للبيئة الاجتماعية في صنع الاحداث التاريخية، والتأثير فيها، فضلا عن تأثيرها على تغيير مسار حركة التاريخ. كما ان ذلك يشكل اثرا كبيرا على المكانة التي تتمتع بها الدولة سياسيا واقتصاديا وثقافيا.