الإمامة  في الفكر الإسماعيلي الطيبي
اعداد
أ.د حيدر محمد عبد الله الكربلائي

 تعد الإسماعيلية من أكثر المذاهب الإسلامية التي أولت عناية فائقة للعقائد وفي مقدمتها الإمامة فقد ادخلوا فيها البراهين والحجج التي تتفق مع واقع العقل والمنطق وسلسلوها تسلسلا منطقيا مقبولا يرتكز على النصوص التي أوردت في الكتب المقدسة التوراة والإنجيل والقران الكريم كقوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وقوله تعالى : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا .
      وجعلت الإسماعيلية من الإمامة إحدى دعائم الدين بل قالوا هي أفضلها وأهمها بعد التوحيد والنبوة وأنها المحور وقطب الرحى الذي تدور حوله مجمل عقائد الشيعة على تباين فرقهم حتى جعلوا منها أمثولة رائعة للنفس في عالم الإبداع ورفيقة النبوة ووارثتها  وجعلوا ولاية الإمام الركن الأساس لجميع أركان الدين ومن لا يعتقد بإمامة الأئمة المنصوص عليهم من آل البيت () فلا دين له ولا يقبل الله () عمله فان المؤمن إذ أطاع الله واقر برسالة الرسول وقام باركان الدين كلها ثم عصى الإمام أو كذب به فهو آثم في معصيته ولا عمل له .
     وعند النظر في عقائد المسلمين يتضح إن هناك اتفاقا على مبدأ الإمامة في الإسلام إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم على أنها من العقائد أو لا وعلى كيفية تشخيص الإمام إذ أن الفكر السني يرى بان الإمامة ليست من أصول الدين وأركان العقيدة الإسلامية بل ينظرون أليها على أنها من فروع الدين ” ليست من أصول الديانات والعقائد بل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين اذ نصب الإمام واجب على الأمة سمعا “ .
      وقد اتفقت جميع فرق الشيعة ان الإمامة أصل من أصول الدين ولا يكتمل الإيمان إلا بالاعتقاد الصادق بإمامة الأئمة المعينين من الله ورسوله وان تشريعها كان لطف من الباري () بعباده ” أن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي () أو لسان الإمام الذي قبله وليست هي بالاختيار أو الانتخاب من الناس فليس لهم “ وقد نص النبي () على ذلك نصا تشهد به كافة أبناء الأمة بقوله : ” الحسن والحسين إمامان أن قاما وان قعدا وأبوهما خير منهما “ وبذلك تعد الإمامة منصبا إلهيا واستمرارا للنبوة في وظائفها وهي أسمى من مجرد القيادة والزعامة في أمور الحكم والسياسة ولا يمكن الوصول إليها عن طريق الشورى أو الانتخاب .
    إلا إن الإسماعيلية ومنهم الطيبية ترى الإمام من نسل الإمام علي وفاطمة () ومنصوص عليه من نسل محمد بن إسماعيل بن الإمام الصادق () والنص على الإمام يجب أن يكون من الإمام الذي سبقه وأن تسلسله في الأعقاب أي  ينص الإمام على إمامة أبنه الأكبر و الإمامة لا تزال المحور الذي تدور عليه عقائد الإسماعيلية وفلسفتها وأنها أساس وجودها بعد أن أنشقت من الشيعة عقب وفاة الإمام الصادق () ( ت148هـ / 765م) واعتبروا الإمام الكاظم () مستودعا بالإمامة على ابن أخيه محمد بن إسماعيل .
     وقد جعل فلاسفة المذهب الإسماعيلي الطيبي أن طاعة الأئمة مقرونة ومتصلة بطاعة الله () وطاعة رسوله وهذه الطاعات الثلاث مرتبطة بعضها بالبعض ومستمده من قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ   ثم أكد الإمام الصادق () تلك الطاعات عندما سئل عن تفسير هذه الآية وأجاب بقوله : ” ايانا عني بها بنا يعبد الله وبنا يطاع الله وبنا يعصى الله فمن أطاعنا فقد أطاع الله ومن عصانا فقد عصى الله “ وفضلا عن ما أورده القاضي النعمان من التأكيد على طاعة الأئمة بقوله :“ولن يقبل الله من مطيع طاعة الا بطاعة من افترض علية طاعته من أوليائه الذين هم الأئمة من أهل البيت “ وعلى المؤمنين أن يسلموا لحكم الأئمة ولا يستشكلوا عليهم أو يعترضوهم لأنه أفعالهم بأمر الله تعالى وبالتالي فما يظهر من اختلاف في أحكامهم إنما هو لحكمه ” كل فعلهم حكمة وصواب فيما عرفه العباد أو جهلوه ورضوه أو كرهوه ” .
     بل ذهبوا ابعد من ذلك بقولهم ان الدين الإسلامي قد بني على سبع دعائم وان أفضلها الإمامة مستندين على قول الإمام الباقر () : ” بنى الإسلام على سبع دعائم : الولاية وهي أفضلها وبها وبالولي يوصل الى معرفتها “ وان الإيمان بتلك الدعائم دون الإمامة فأنها لا تعن شيء عندهم وجعلوا الإمامة هي الرابط والماسك لأركان الدين وذلك بقولهم : ” أن الله اوجب طهارة وصلاة وزكاة وصوما وحجا وجهاد وجعل ماسك الجميع ورابطه والمانع من اختلاله ولاية الوصي والأئمة التي هي أخر فرض الدين “ .
      أما من الجانب المذهبي الباطني فقد ربطت الإسماعيلية الإمامة بالعقل على أساس أن العقل يمثل الإمامة على حد قولهم : فهو المنبعث الأول والواحد بترتيب العدد وأول خلق ظهر من أمر الله تعالى وسمى العقل ويقال أيضا (القلم) لان بالقلم تظهر نقوش الخلقة من الابتداء والانتهاء ومن العقل تنفطر الحروف الجامعة للكلام وذهبوا أيضا الى أن الإمام هو المعلم وهو الملهم وان الاستدلال عن طريق العقل بمجرده معلم باطل وبهذا يشير الداعي الطيبي ابن الوليد (ت612هـ /1212م) بقوله : ” لو كان الاستدلال بالعقل من غير معلم طريق الحق لأدى كل مستدل بعقله من الكتاب الى الإجماع لإزالة الخلاف ولم يود ذلك ولما بطل أن يكون الاستدلال بالعقل المجرد من غير معلم طريق الحق ثبت انه طريق باطل ” .
      وقد وصف المستشرق كوربان دور الإمام في عالم الدين بقوله : ” وهو الذي يخلف الأساس ويديم توازن الباطن والظاهر خلال الدور وهو لا غنى عن خلافته للأساس ” .
      أما الداعي حاتم الحامدي (ت596هـ /1199م) فيعطي تفصيلا وتوضيحا للإمامة وأهميتها وطبيعة نهجها وذلك من خلال ما أورده بان دور الإمام وإقامته تكون بعد الوصي وانه ينوب منأبه أي انه لا يستكمل رتبته بالفضائل ويحوزها إلا بعد رتبة موصيه ومقيمه وأنه يقوم مقام المبدع الأول في عالمه الذي هو الأمر فيصير الإمام بعد نقلة الوصي في عالم الدين كمثل العقل في عالم العلوي لا فرق بينهما إلا بشرف رتبة السبق .
      ويرى الداعي حاتم انه من غير الممكن أن الله تعالى يبعث رسولا الى الأمة ليهديها ثم يموت الرسول فيتركها من دون هاد لذا وجبت الإمامة لتستمر النبوة وتحفظ الشريعة وان تكون الإمامة كالفرع من الأصل ولها خاصية ومقام النبوة ” أن الإمامة فرع للنبوة وان في الفرع من خاصية الأصل كثيرا وذلك أن كل إمام في عصره قائم فيمن أقيم فيهم مقام الرسول صلوات الله عليه وان كان لكل رسول شرف الرسالة وفضل الاصطفاء فان مرتبة الإمامة شامخة البنيان ناصبة الأركان ” .
     وقد بنى الداعي حاتم استدلاله على وجوب الإمام والارتباط  به باعتباره يمثل شرطا من شروط الولاية في كتاب الله كقوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ  وأحاديث النبي () والأئمة () ومنها قوله () : ” من مات وليس في عنقه عهد لإمام زمانه مات أن شاء يهوديا أو نصرانيا “ وكذلك قوله () : ” من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية “  وقد عد الإسماعيليون الجاهلية جاهليتان مستندين الى قول الإمام الصادق () ” الجاهلية جاهليتان جاهلية كفر وجاهلية ضلال فجاهلية الكفر ما كان قبل مبعث النبي () وجاهلية الضلال ما يكون بعد مبعثه فيمن ظل عن إمام زمانه “ فضلا عن ما أورده الإمام الباقر () في قوله الذي أكد فيه أن هداية وقبول عبادة الشخص مهما كثرت مرتبطة بمعرفة الإمام المنصوص عليه من الله () وذلك بقوله :” كل من دآب بالعبادة ويجهد بها نفسه وليس له إمام من الله تعالى فهو ضال متحير والله شان لأعماله ومثله كمثل شاة من الأنعام ضاله عن راعيها وقطيعها فتأهت ذاهبة وجائية في يومها ” . 
      وأكد الداعي حاتم ومن خلال تفسيره الى قول النبي (): ” اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وسلمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد ” أن الإمامة أمر من الله تعالى بان تكون في ولد النبي محمد () دون غيرهم وذلك بقوله : وان يبارك على محمد بانتقال الإمامة الى ولده من بعده وهي البركة المضاعفة والسعادة الكاملة المترادفة وأما التسليم هنا هو ما تراضى به من أمر الإمامة حين رضية الإمام الحسن () الى ما أوجبته الإرادة الإلهية  بان تكون الإمامة بالنص في نسل أخيه الإمام الحسين () وهذا ما أكده بقوله : ” فرضي مولانا الحسن عليه السلام بما أوجبه الله تعالى له مما وصل إليه من أمر الإمامة بالنص والتوفيق وكونها عنده مستودعة لأخيه وولده وعدم ولد الحسن عليه السلام الشركة في ذلك وسلم لأمر الله وما أوجبته حكمته كما أوجبت الحكمة الإلهية بان ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام أرباب استقرار الوصاية والإمامة وأن ولد إسحق عليهم السلام أهل النبوة والرسالة والملك والسيف والسلطان “ ويضيف الداعي بان الإمامة لا تنقسم في اثنين بعد الإمام  الحسن والإمام الحسين () وخص الله الأئمة من نسل الحسين () مولود عقب والد الى يوم الدين مستندا في ذلك الى قول النبي () : ” بعد الحسن والحسين سنة الله الجارية وحكمته الماضية ” .
      ثم ذهب الداعي حاتم فأورد ان أمر الإمامة أمر مثبت من الله تعالى ومعهود الى النبي () وحده وليس لأحد من الأئمة دخل فيه وهذا ما نص عليه الإمام الصادق () بقوله : ” أترون هذا الأمر ألينا نضعه حيث نشاء كلا والله انه لعهد من رسول الى رجل من رجل مسمى بنا حتى ينتهي الى صاحبها آخر من يكون منا “ وان الإمامة مستمرة مع ابد الزمان ولا تخلوا الأرض من الإمام وهذا عبر عنه الداعي حاتم بقوله : ” لا يخلوا عصر من أمام لخلق الله حاضر يدعوهم الى الالتزام من دينه بالأوامر ويزجرهم عن المنكرات والفواقر ” وبذلك انفردت الإسماعيلية بهذه المعتقد عن غيرهم من الشيعة فان الأثنى عشرية يعتقدون  أن الإمام المهدي الذي غاب سنة (260هـ / 874 م) هو أخر الأئمة المعصومين .
     وتعد الإسماعيلية ومنها الطيبية من حيث الظاهر أن الأئمة من البشر وأنهم خلقوا من الطين ويتعرضون الى الأمراض والموت مثل غيرهم من بني أدم إلا أن التأويلات الباطنية يسبقون عليهم الصفات المقدسة أمثال قولهم بأنه ( وجه الله ) أو ( يد الله ) أو ( جنب الله ) وهو الصراط المستقيم وان الإنسان لا يعرف إلا بوجهه  وبذلك يكون الإمام هو وجه الله الذي يؤتى منه الى معرفته وتوحيده وبواسطته نجاة المؤمنين وهذا ما أكده الداعي حاتم مستدلا بقول الإمام علي () : ” أنا وجه الله انا يد الله الباسطة على الأرض أنا جنب الله الذي يقول فيه القائلون أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ   وكذلك بقول الإمام السجاد () : ” من دعا الله بنا افلح وانجح ومن دعاه بغيرنا اهلك واستهلك ما ضل من ضل من هذه الأمة إلا بنا وما نجا من هذه الأمة إلا بنا ” .
     وذهب الداعي حاتم الى ضرورة وجود الإمام فانه الركيزة في كل شيء وانه مصدر الهداية وان معرفته وطاعته أساس المعتقد فلا يقبل أي عمل من صلاة وصوم وغيرها دون معرفة الإمام ومستدلا بقول النبي () : ” أذا مات الإمام ضل كل من على وجه الأرض إلا من عرف الخلف منه في ذلك الوقت “ كما أن ما للإمام من الثقل والشأن بما يمثله من دور محوري وأساسي في الدين وجذب الأتباع والتفاف حوله جعلت الداعي حاتم ان يصف الإمام بالمغناطيس عالم الدين حيث يجذب النفوس أليه حتى يصبحوا في افقه وحوزته.
     وأورد الداعي حاتم بان الأئمة لهم رجعة الى الأرض مع المهدي المنتظر(عج) وهذا ما أكده بقوله : ” ولابد لهم من الرجعة الى الأرض مع وليهم إذا قائم القائم “ مستندا الى قول الإمام الباقر () : ” من لم يؤمن بكرتنا ورجعتنا فليس منا ولا نحن منه ” . 
    وقد لخص الداعي حاتم أهم المزايا والخصال التي يجب أن تتوفر في الإمام المنصوص عليه ممن تقدمه الى الرسول وان من يتمتع فيها فهو الإمام حقا وهو من يأمر الله في طاعته وينهي عن معصيته وهي : 
1ــ أن يتصف الإمام بالسخاء ولا يكون أحد أسخى منه ولا أكثر من فضله على أهل زمانه ومتى كان في الخلق أكرم منه كان ذلك أحق بمنزلته منه .
2- أن يكون أشجع الناس ولا يكون في أهل زمانه أشجع منه لأنه صاحب الهجرة ومقيم الدعوة كما لا يجب أن يأمر بالجهاد من هو جبان .
3ــ أن يكون أعلم أهل عصره ولا احد أعلم منه ويكون جميع الخلق محتاجين إليه ومستفدين منه وهو لا يحتاج لاحد منهم.
4ــ أن يكون زاهدا في الدنيا وبعيد عن جميع ملذتها وزخرفها ومحتقرا لها.
      بذلك يتضح بان قضية الإمامة عند الإسماعيلية ومنها الطيبية بأنها ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينصب الإمام بنصبهم  بل هي قضية أصولية وهي ركن الدين لا يجوز لرسل إغفالها أو إهمالها ولا تفويضها الى العامة من الناس وان الإمامة مستمرة مدى الحياة لا تتوقف عند إمام معين وان تعاليم الدين تؤخذ منه لا من قياس ولا من رأي فهو وحدة المعرفة والعلم فالإمام عنصر وجودي كوزمولوجي مستتر أو ظاهر خلق الكون لأجله ولا يوجد الكون بدونه ولو لم يوجد لما وجد الكون فهو مركز الكون ونقطة الوجود.
      كما يتضح بان أتباع الإسماعيلية قدسوا أئمتهم لكن لم تصل الى مرحلة التأليه او فضلوهم على النبي () كما يتهمهم البعض وان الداعي حاتم أنكر ذلك وأبدى عدم رضاه عن الغلاة وهذا ما أكده بقوله : ” أن فرقة ممن ينتمي الى أهل الحق نشزت وضلت وأضلت وزلت عن الحق وهم غلاة في اعتقادهم وذلك أن منهم من يرى ويعتقد أن مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب () أفضل من رسول الله ()… ومنهم من ترى وتعتقد بان رسول () بمنزلة الداعي وان مولانا أمير المؤمنين أفضل منه وأكمل ومنهم من يرى بان مولانا أمير المؤمنين () هو غيب الغيوب ومنهم من يرى انه المبدع الأول “ وبذلك يمكننا القول أن الدعوة الإسماعيلية الطيبية تتسم بالاعتدال في الإمامة فقد أوضحوا بما لا مجال للشك فيه أن السجود بين يدي الإمام هو من باب الاحترام والتعظيم وليست سجود لغير الله  فمن أين أذن للأئمة أن يصفوا بصفات ألهية وأما النبوة فهي من المسلمات عندهم بأنها أعلى مرتبة من الإمامة.
 

شارك هذا الموضوع: