مالك بن نويرة بن جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع التميمي, كٌنى بأبي حنظلة ولُقب بالجفول وهو شاعر شريف أحد فرسان بن يربوع بن حنظلة ورجالهم المعدودين في الجاهلية وكان من منزلة الملوك , وكان فارساً ، شاعراً ، مطاعاً في قومه ، وفيه تقدم ، وذا لمة كبيرة, ومن كبار بني تميم وبني يربوع, وصاحب شرف رفيع وأريحية عالية بين العرب, حتى ضرب به المثل في الشجاعة والكرم والمبادرة إلى إسداء المعروف والأخذ بالملهوف.
وقد أدرك مالكا الإسلام وأسلم وولاه رسول الله صلى الله عليه وآله صدقات قومه (بني يربوع) , وكانت له الكلمة النافذة في قبيلته, حتى أنه لما أسلم ورجع إلى قبيلته وأخبرهم بإسلامه, وأعطاهم فكرة عن جوهر الاسلام الحنيف ونبيه الكريم محمد صلى الله عليه واله , أسلموا على يديه جميعاً ولم يتخلف منهم رجل واحد.
وكان هذا الصحابي الجليل قد نال منزلة رفيعة لدى النبي صلى الله عليه وآله, حتى نصبه وكيلاً عنه في قبض زكاة قومه كلها, وتقسيمها على الفقراء, وهذا دليل وثقاته واحتياطه وورعه , واختص مالك بأمير المؤمنين (عليه السلام), وأخلص له نهاية الإخلاص حيث كان ممن تولاه حسب بيعة غدير خم رسميا من قبل رسول الله صلى الله عليه واله , ولما سمع ان الامر قد اصبح لابي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله استهجن ذلك واعتزل البيعة, حتى أنه ما بايع أبا بكر, وأنكر عليه أشد الإنكار, وعاتبه بقوله له: (( أربِع على ضلعك, والزم قعر بيتك, واستغفر لذنبك, وردّ الحق إلى أهله, أما تستحي أن تقوم في مقام أقام الله ورسوله فيه غيرك, وما تزال يوم الغدير حجة, ولا معذرة )) .
وقد امتنع مالك عن بيعة أبي بكر وعن دفع الزكاة إليه,لانه لا يمكن اعطاء الاموال الشريعة الا للولي الحق , وقام بتوزيع الأموال بين قومه وفقا للوكالة المكلف بها , وقال لهم شعراً:
فقلت خذوا أموالك غير خائف ** ولا ناظر ماذا يجئ مع الغد
فإن قام بالدين المحوق قائـم ** أطعنا وقلنا الدين دين محمد
شهادته:
أرسل الخليفة الاول أبو بكر في بداية حكمه خالد بن الوليد لمحاربة المرتدين, ولما فرغ خالد من حروب الردَّة سار نحو البطاح, وهي منزل لمالك بن نويرة وقبيلته, وكان مالك قد فرق أفراد عشيرته, ونهاهم عن الاجتماع, فعندما دخلها خالد لم يجد فيها أحداً, فأمر خالد ببث السرايا, وأمرهم بإعلان الأذان وهو رمز الإسلام, وإلقاء القبض على كل من لم يجب داعي الإسلام, وأن يقتلوا كل مَن يمتنع حسب وصية أبي بكر.
فلما دخلت سرايا خالد قوم مالك بن نويرة في ظلام الليل إرتاع القوم, فأخذوا أسلحتهم للدفاع عن أنفسهم, فقالوا: إنا لمسلمون, فقال قوم مالك: ونحن لمسلمون, فقالوا: فما بال السلاح معكم ؟, فقال قوم مالك: فما بال السلاح معكم أنتم ؟!, فقالوا: فإن كنتم مسلمين كما تقولون فضعوا السلاح, فوضع قوم مالك السلاح, ثم صلى الطرفان, فلما انتهت الصلاة قام جماعة خالد بمباغتة أصحاب مالك, فكتفوهم بما فيهم مالك بن نويرة, وأخذوهم إلى خالد بن الوليد, وتبريراً لما سيقدم عليه خالد ادعى أن مالك بن نويرة إرتدَّ عن الإسلام, فأنكر مالك ذلك وقال: أنا على دين الإسلام ما غيَّرت ولا بدَّلت, وشهد له بذلك اثنان من جماعة خالد وهما: أبو عتادة الأنصاري, وعبد الله بن عمر, ولكن خالد لم يُلق إذناً صاغية, لا لكلام مالك ولا للشهادة التي قيلت بحقه.
فأمر بضرب عنق مالك وأعناق أصحابه, وقبض على أم تميم (زوجة مالك) ودخل بها في نفس الليلة , التي استشهد فيها زوجها المغدور ظلما وعدوانا.
وكان سبب عزل عمر خالداً بعد تولي الخليفة الثاني ابن الخطاب الحكم , ما ذكره الزبير بن بكار ,ومنها الجريمة والاعتداء السافر الذي ارتكبه في حق ابن نويرة وزوجته : ((أقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمم بن نويرة وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله وكان عمر ينكر هذا )).
ولم يكتفِ خالد بقتل ابن نويرة وانما مُثل به فقد قطعوا راسه ووضعوه تحت القدور واضرموها نارا , ليأكلوا من طعام مالكا بعد هذه الحادثة الشنيعة ((أن مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس فلما قتل أمر خالد برأسه فنصب اثفية لقدر فنضج ما فيه)) , وقد طغى في اجرامه واسرافه في القتل وهتكهم للحرمات فقد سبي النساء بعد هذه الفعلة المنكرة (( فقدم متمم على أبي بكر يطلب بدم أخيه، وأن يرد عليهم سبيهم، فأمر أبو بكر برد السبي، وودى مالكاً من بيت المال )) , فلو كان مالكا مرتدا لم يعطِ ابو بكر ديته , وكيف يمكن ان يرتد من شهدوا عليه صيامه وقيامه وصلاته الى حين استشهاده …
وقد احتج عمر على ابي بكر لما فعله خالدا , فقال: (( سيف خالد فيه رهق ! وأكثر عليه، فقال أبو بكر: تأول فأخطأ. ولا أشيم سيفاً سله الله على المشركين. وودى مالكاً، وقدم خالد على أبي بكر، فقال له عمر: يا عدو الله، قتلت أمرأً مسلماً، ثم نزوت على امرأته، لأرجمنك)) , وقال لأبي بكر : (( انّه قد زنا فارجمه . فقال أبوبكر : ما كنت لأرجمه ، تأويل فأخطأ. وقال : أنّه قد قتل مسلماً فاقتله قال : ما كنت لأقتله ، تأوّل فأخطأ قال : فاعزله. قال : ما كنت لأشيم سيفاً سله الله عليهم أبداً)) .
وقد روى الطبري بإسناده عن أبي قتادة: (( وكان ممّن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو سلمة ، وقد كان عاهد الله ألّا يشهد مع خالد حرباً أبدأ بعدها ، .. وأنّهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل … ثمّ صلّينا وصلّوا…ثمّ قدّمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه, فلمّا بلغ قتلهم عمر… قال : عدوّ الله عدا امرئ مسلم فقتله ثمّ نزا على امرأته. وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتّى دخل المسجد … قام إليه عمر … ثمّ قال : إربأ ، قتلت امرءً مسلماً ثمّ نزوت على أمرأته. والله لأرجمنّك بأحجارك ، وخالد لا يكلّمه))
فقد اتفقت المصادر التاريخية ومعاجم الرجال على اسلام مالك بن نويرة ومكانته العظيمة عند رسول الله صلى الله عليه واله , الا ان القوم ونتيجة لمعارضته بيعة ابي بكر فعلوا به هذه الفعلة المنكرة وقد رموه تارة بالارتداد لكي يبرروا سبب قتله ويبرءوا انفسهم من دمه , مع نقلهم ما كان عليه من انهم شهدوا آذانه وتكبيره وصلاته , وتارةً اخرى عللوا ذلك بسبب أنّه لم يؤدِّ الزكاة إلى أبي بكر وفرّق ما كان بيده من الزكاة على قومه ، لكنّهم يعلمون بأن مالكاً كان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد ولّاه على صدقات قومه ، فلم يكن حرجٍ عليه لدفعها إلى الفقراء بمقتضى ولايته, وهو المفروض عليه ، إذ الزكاة لا تنقل من بلدٍ إلى آخر إلّا إذا لم يكن في ذلك البلد من هو مستحقّ لها , فضلا عن ان مانع الزكاة لا يعد جرما يستوجب أن يرسل إليه من يقتله ويستبيح حريمه ويقع في قومه سبيّاً وتقتيلاً ؟! .
فمضى مالكا الى الله تعالى شهيدا مظلوما, مقطوع الرأس ومسلوب الاموال ومسبي النساء والعيال , حاملا معه الثبات على ولاية بيعة الغدير لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام, ثابتا في الايمان وقويا في العقيدة .