السيكولوجيا التاريخية لأسباب الاوبئة وفق النظرة الدينية والأخلاقية 
ا. د عبير عبد الرسول محمد التميمي
استاذة فلسفة التاريخ في جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الانسانية 
 
    شكلَّت الأوبئة تهديدًا كبيرًا للحضارة الإسلامية في العصور المختلفة، بل حصدت أرواح الناس حصدًا، تاركةً وراءها ما يمكن وصفه بكوارث ديموغرافية كبرى تركت بدورها آثارًا سلبية بالغة القسوة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، ومن ثم السياسي في نهاية المطاف، فكانت موجات متتالية من أوبئة الطاعون قد ضربت المدن الاسلامية حتى أنه لا يكاد يخلو قرن من القرون من هذه الأوبئة ومن أثارها المدمرة لأوجه الحياة.
    واحتل الطاعون مكانة كبيرة في كتب التراث الإسلامي، وعرف العلماء الطاعون قديما بانه اي وباء يصيب الانسان وبفتك به , وقد حفلت بذكر الاوبئة مؤلفات الحديث والفقه والفلسفة، فضلًا عن مجال الاختصاص وهو الطب، ففي كتب الحديث مثلا : البخاري ومسلم والترمذي وغيرهما أبوابًا تضم ما أُثر عن النبي صلى الله عليه واله ومنها قول رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه واله عَنِ الطَّاعُونِ، ووصفه (( أنَّه عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، وأنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، ليسَ مِن أحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أنَّه لا يُصِيبُهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ)).
    أما مذهب الفقهاء والمحدثين في سبب تمكن الطواعين من الناس وفتكها بهم، فيرجع إلى كونه وخزة من وخزات الجن، وذلك اعتمادًا على الحديث الذي ورد في مسند أبي يعلى عند ذُكر الطاعون، وأن النبي صلى الله عليه واله قال:” وَخْزَة تُصيب أمتي من أعدائهم من الجن”.
     وردَّ جمهور الفقهاء على مزاعم الأطباء بأن فساد الهواء هو المسبب المباشر للطواعين، مستدلين بأن الطاعون يقع في أعدل الفصول وفي أفسح البلاد وأطيبها هواءً وماءً، ولو كان سببه الهواء لعم الناس جميعًا، والحيوانات كلها , الا انه يصيب بعض الناس والحيوانات ولا يصيب بعضهم الآخر.
الوصفات الطبية :
    وقد اصبح البحث آنذاك عن الوصفات الطبية للوقاية من المرض هو الشغل الشاغل للجميع، وهذه الوصفات من بينها عملية تطهير الهواء الفاسد وتجديد هواء محل السكن، وذلك باستعمال:  الكافور والسعد والصندل والمسك والعنبر، ولعل عملية تطهير الهواء هذه قريبة الشبه بما نراه اليوم من تعقيم الدول لشوارعها ومدنها وساحاتها العامة برش المبيدات والمعقمات، بقصد مكافحة فيروس كورونا .
الفرار الفردي والجماعي :
    وعلى الرغم من أن موقف الفقهاء يقتضي وكإجراء وقائي بملازمة السكان للبلد المصاب والامتناع عن مغادرته، ومن ناحية أخرى عدم الدخول إليه أسوة بسلوك السلف من الصحابة، فقد ورد النبي صلى الله عليه واله أنه قال:” إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا”، إلا أن الواقع غير ذلك، فالفرار من المناطق المصابة من السلوكيات المألوفة  قديما وحديثا وهو ما يؤكد عجز الطب حاليًا رغم تقدمه العلمي الكبير، كما يؤكد حالة الرعب والخوف التي تنتاب الجميع، فالفرار سلوك وقائي أملاه الخوف وحب السلامة وغريزة حفظ الذات .
العزلة (الحجر الصحي) :
    وهي إجراء وقائي وإيمان ثابت بوجود العدوى، ويمارسها عدد كبير من سكان العالم وذلك بالامتناع عن حضور الجنائز وزيارة المصابين، وهذه العزلة مهما كان مستواها يخشى خطرها المسلمين بشكل عام والفقهاء بشكل خاص، وذلك تحسبًا للنتائج الاجتماعية والدينية المترتبة عنها مثل: قطع صلة الارحام وتعطل الصلاة في المساجد، وتعطيل الحج والعمرة.
الطرق والوسائل (السحرية) :
   وهي الصبغة الأخرى لمواجهة الطواعين والأوبئة ، والتي يلجأ إليها قديما الكثير من الناس وخصوصا البسطاء والجهلة والفقراء  للوقاية والتداوي، ويعتقدون في فاعليتها ، مثل الرقي والتمائم والتعاويذ.
العلاجي الروحي (الهروب إلى الله) :
    نتيجة الخسائر البشرية الفادحة، والعجز الفادح للطب، لن يبقى سوى الالتجاء إلى الله لدفع هذه النقمة، وبالرغم من أنَّ دواء الأطباء والفرار والعزلة من بين أساليب الوقاية، ولكن علينا أن لا ننسى أن العدوى بتقدير الله، والله وحده القادر على الإحياء والإماتة، فلا بد من الرجوع إلى الله والتقرب إليه بالصلاة والدعاء .
السيكولوجيا الاجتماعية والسياسية والروحية لانتشار الأوبئة في التاريخ الإسلامي :
     كان للطواعين والأوبئة أخطار كبيرة ، فلقد كان طاعون عمواس عظيم الخطر على المسلمين وأفنى منهم أكثر من عشرين ألفاً ومن بينهم خيرة أمرائهم، وهو عددٌ يوازي نصفهم بالشَّام وربما تخوَّف من ذلك المسلمون انذاك، واستشعروا الخطر من قبل الرُّوم، وفي الحقيقة لو تنبَّه الرُّوم لهذا النَّقص الَّذي أصاب جيش المسلمين بالشَّام يومئذٍ، وهاجموا البلاد؛ لصعب على الجيوش المرابطة دفعهم، ولكن ربما كان اليأس تمكَّن من نفوس الرُّوم، فأقعدهم عن مهاجمة المسلمين.
    ومن الناحية الاجتماعية، أدت الأوبئة في العهد المملوكي مثلاً إلى اختلال التركيبة السكانية، والذي أدى بدوره إلى تباين كبير في الكثافة السكانية بين المدن والقرى، إذ أن كثيراً من القرى اختفت تماماً بفعل الوباء، فنتج عن ذلك :
1- تغير ديموغرافي بهجرة المزارعين الى المدن .
2- استغلال الأزمة باحتكار السلع الأساسية .
3- اتجه بعض المحتاجين والمعدمين إلى السرقة والاحتيال. 
4- هلاك الكثير من الأتقياء ورجال الدين والعلماء الصالحين. 
5- وبدأوا الناس يلجؤون إلى المشعوذين والمنجمين .
ومن خلال قراءة التاريخ الاسلامي يمكن لنا التوصل الى سيكولوجيا المسلمون مع الأوبئة  في ؟
1 – التزام المسلمين بالعزل ففي موجة طاعون عمواس، فقد رجع الخليفة عمر بن الخطاب وكان قاصدا الشام , بينما بقي أبو عبيدة بن الجراح وغيره من الصحابة في الشام ولم يخرجوا منها بعد أن أصابها الوباء.
2- بناء التجار والميسورين البيمارستانات في مدن الشام جميعها وسائر المدن الاخرى .
3- الالتزام بالتعاليم الاسلامية في دفن الميت بأسرع وقت ممكن حفاظاً على حرمته وكرامته، فتم إنشاء الحوانيت أو مغاسل الموتى.
4-التقرب من الله والدعاء وشرع بعضهم في إغلاق حوانيت الخمر، وابتعد الناس عن ارتكاب الفواحش والمنكرات .
5-أقامت نطاقاً عسكرياً على الحدود الشرقية للمغرب واجراءات صحية وقائية على الواجهة البحرية.
كيف يمكن لنا ان نتعامل مع وباء كورونا وفق السيكولوجيا التأريخية للمسلمين ؟
من خلال هذه القراءة السريعة لمجريات التأريخ واخذ الدروس والعبر من تأريخنا الاسلامي نقدم هذه التوصيات :
1- الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره ، واستقراء تجارب المسلمين وسيرتهم مع البلاء
2– وجوب الأخذ بأسباب الوقاية والعلاج .
3– الاعتقاد في اجر وثواب مع صبرنا، قال رسول الله صلى الله عليه واله : ” الطاعون شهادة لكل مسلم “.
4– وجوب تجنب أماكن العدوى والالتزام بقواعد الحجر الصحي الداخلي والخارجي , قال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) “سورة البقرة:195 .
5- الرجوع الى الله تعالى والاستغفار والتوبة .
6- الاهتمام ببناء المستشفيات وتوفير ما يلزم .
7- التراحم الاجتماعي .
8- محاسبة ذوي النفوس الضعيفة : مثل الاحتكار والغش ورفع الاسعار .
نسأل الله العلي القدير الامن والامان لشعبنا العراقي الحبيب وجميع الشعوب الاسلامية والعالم اجمع .


شارك هذا الموضوع: