كلية التربية للعلوم الإنسانية جامعة كربلاء قسم التاريخ
لم تكن مرجعية السيد علي الحسيني السيستاني امتداد لمدرسة سياسية قديمة بل هي امتداد لمرجعية حديثة من قبل استاذه المرجع السيد ابا القاسم الخوئيالمعروفة بالتقية والمحافظة على الاوضاع دون التدخل بالسياسة لانها ترى ان الدين خير والسياسة شر ولا يمكن جمع الخير والشر سوية لانهما متناقضان في الغاية والهدف ،لذا اتخذ السيد السيستاني منهج السيد الخوئي منهج التقية والمحافظة على الأوضاع القائمة ،وفي الأصل هي مدرسة قديمة ولها فلسفة خاصة بها ظهرت نتيجة التراكمات التاريخية في تسلط الدولة العثمانية بالاعتماد على تقية الامام جعفر الصادق (عليه السلام ) التي ظهرت نتيجة تراكمات تاريخية ايضا من تسلط سيف العباسيين على رقاب اهل البيت وشيعتهم
ان المنهج الذي سار عليه سماحة السيد علي الحسيني السيستاني هو المحافظة والابتعاد عن السياسة ومشاكلها والحفاظ على جوهر الإسلام. هذا جعله بضرورة عدم الاتجاه في وضع أطروحة سياسية خاصة به ،ولكن بسبب طبيعة الظروف الراهنة والمستقبلية الاستشرافية افرزت لنا اطروحة سياسية في مدرسة السيد السيستاني وتحول واسع في البناء الفكري الديني وكانت معالمها ارتسمت بفتوى الجهاد الكفائي التي أعلنت من خلال الخطبة الثانية في منبر الجمعة علي لسان وكيل المرجعية والأمين العام للعتبة الحسينية الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 13 حزيران 2014 في الصحن الحسيني الشريف نصها :” إن العراق وشعبه يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الارهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين فقط بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات ولا سيما بغداد وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف ، فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم ، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفةٍ دون أخرى أو بطرفٍ دون آخر… لا يجوز للمواطنين الذين عهدنا منهم الصبر والشجاعة والثبات في مثل هذه الظروف أن يدبَ الخوفُ والاحباطُ في نفسِ أيِّ واحدٍ منهم ، بل لا بد أن يكون ذلك حافزاً لنا للمزيد من العطاء في سبيل حفظ بلدنا ومقدساتنا…. ان دفاع أبنائنا في القوات المسلحة وسائر الأجهزة الامنية هو دفاع مقدس ، ويتأكد ذلك حينما يتضح أن منهج هؤلاء الارهابيين المعتدين هو منهج ظلامي بعيد عن روح الاسلام ، يرفض التعايش مع الآخر بسلام ويعتمد العنف وسفك الدماء وإثارة الاحتراب الطائفي وسيلة لبسط نفوذه وهيمنته على مختلف المناطق في العراق والدول الأخرى… إن من يضحي بنفسه منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله وأعراضهم فإنه يكون شهيداً إن شاء الله تعالى …..المطلوب أن يحث الأبُّ ابنه والأمُّ ابنها والزوجة زوجها على الصمود والثبات دفاعاً عن حرمات هذا البلد ومواطنيه…… إن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي ، بمعنى أنه إذا تصدى له من بهم الكفاية بحيث يتحقق الغرض وهو حفظ العراق وشعبه ومقدساته يسقط عن الباقين…….ان المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الارهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية…الخ “
ويبدو ان شكلها ولونها كأطروحة ومدرسة فقهية سياسية وامنية ودفاعية ظهر نتيجة التحديات التي تعرض لها العراق فهذه الفتوى افرزت تفكيراً فقهياً جديداً غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث والمعاصر اذ افرزت تشكيل قوة دفاعية اسمها الحشد الشعبي وغير محددة زمنياً بل مفتوحة وهو دليل على الاستشراف بالمستقبل فيما يحتاجه أبناء البلد .
كان لإعلان الفتوى في مواجهة تنظيم داعشالذي احتل ثلث العراق من مدن الموصل وتكريت والانبار ووصل الى مشارف بغداد وهدد المدن المقدسة ومدن الوسط والجنوب بالتدمير ولذا فان تشكيل الحشد الشعبي بمثابة ذراع عسكري حمى باقي الثلثين ويدافع عنهم وهذا الذراع العسكري تحرك بعقيدة وايدلوجية خاصة لا يمكن إخفاء ملامحها العقدية وتوجهاتها ومقاصدها على الرغم من دخول أبناء الطوائف الأخرى فيه، وبذلك ظهر حالة امنية جديدة بفضل الحشد الشعبي الذي سيكون بيضة القبان في كل معادلة سياسية قادمة ولاحقة بل وحتى في العلاقات السياسية- السياسية بين القوى الفاعلة في المشهد العراقي وتكبر هذه البيضة لتصل بحجم التأثير المتبادل السياسي على المستوى الإقليمي سواء كان سعودي او ايراني و حتى دولي امريكي او تركي او غيرهما
ومن خلال النظر على تاريخ المرجعية الدينية وطروحاتها الفكرية ظهر لنا ان تلك الطروحات خرجت للنور بعد تحديات وظلم بحق شيعة اهل البيت وحسب طبيعة المرحلة التاريخية ، فالشيخ الانصاري اخرج طروحاته السياسية الفكرية في كتاب (الحكومة الاسلامية) او (المكاسب المحرمة ) بسبب تهميش وظلم شيعة العراق من الاستبداد العثماني وجبروته ،ووجد الشيخ الانصاري ان خير منقذ وملجأ لشيعة اهل البيت هو حكم اسلامي خاص بهم وهنا نرى ان المواجهة فكرية عقائدية ثقافية . بينما مرجعية السيد السيستاني وجدت ان التوسل بالقوة الدفاعية العسكرية خير منقذ للعراق بسبب طبيعة المرحلة المفصلية من تاريخ العراق التي هددت وجوده وكيانه كبلد وشعب ونلاحظ ذلك من خلال البند الخامس من بنود خطبة فتوى الجهاد الكفائي في 13حزيران 2014 التي تنص ” ان طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله واعراض مواطنيه وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي بمعنى ان من يتصدى له وكان فيه الكفاية بحيث يتحقق الغرض وهو حفظ العراق وشعبه ومقدساته يسقط عن الباقين …ومن هنا فأن على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية لتحقيق هذا الغرض المقدس… “
تعاملت مرجعية السيد علي الحسيني السيستاني مع الوضع العراقي بعد احتلال الولايات المتحدة الامريكية وسقوط بغداد في 9-4-2003وفق مراحل متعددة اختلفت من مرحلة الى اخرى .فبعد احتلال العراق كان سماحة السيد السيستاني يراقب ويعمل على قراءة الاوضاع بشكل جيد ولم يتدخل بشكل مباشر انطلاقا من مدرسته المحافظة ،ثم اخذ دور في مراعاة مشاعر الناس في قضايا الاضطهاد والمظالم ودماء الابرياء بفعل اللانظام صدام حسين السابق ،واخذ وفق تلك المراعاة الى الاهتمام بمستقبل الشعب العراقي وفق الالية الديمقراطية ( الدستور والانتخابات الحرة وبرلمان وحكومة منتخبة )،كانت مرجعتيه في تلك المرحلة استشارة وحكمة لكنها تحولت الى مرجعية طوارئ وانقاذ للشعب العراقي وهذا ما نلاحظه في الاقتتال الطائفي عام 2006 ،ثم تتحول الى العزلة بسبب معارضة سياسات الحكومات اللاحقة التي ظهرت نتيجة ذلك الاقتتال الطائفي ورفض اي مشورة واسداء النصح للحكومات العراقية تلك الحكومة التي استغلت تلك العزلة لتسير بالعراق في مناطقه الغربية منه وشماله في الموصل الى الانهيار والسقوط بيد التكفيرين من ما يسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) وهنا ظهرت مرجعية السيد السيستاني من جديد لتظهر وفق (نظرية الجهاد الكفائي ) وتحولت مدرسته من الاستشارة والحكمة والإرشاد الى التبني والعمل السياسي وبخاصة في قضايا الدفاع عن المذهب واهله .هذه المدرسة السيستانية الجديدة هي دفاعية جهاديه تنتظر الاطروحة المتكاملة في شكل العمل الديني والسياسي والتي سوف تتبلور وتظهر بمرور الزمن بفعل الظروف التي تمر بالعراق .
أن مرجعية السيد السيستاني والمستقبل بالغة الأهمية لان هناك جملة من التحديات ومصاعب أخرى تنتظر العراقيين والتشيع في العراق. إن أهمية الترابط ما بين السيد السيستاني والمستقبل منطلقة من ان الخطر لا يتعلق بالعراق او شيعته بل الشيعة في العالم الاسلامي اجمع واذا كسرت شوكة شيعة العراق فان هذا الإذلال سوف يشمل شيعة العالم وبالتالي ضربة في ربع العالم الاسلامي عندما تكسر شوكته . لذا فان مرجعية السيد السيستاني وضعت الأمور التالية في برامجها :-
مدركة للحقبة الزمنية الماضية واللاحقة حتى يتبين على اساسها الفكر الحوزوي السياسي .
ان المرجعية المحافظة هي للنصح والإرشاد والتوجيه لكنها سياسية دفاعية فيما لو تعرض المسلمون للخطر بشكل عام .
وهذا الانتقال الفكري في مرجعية السيستاني ظهر بعد اعلان فتوى لجهاد الكفائي من خلال ملاحظة الأمور التالية :-
الفتوى تشخص خطر وجودي على العراق في كيانه الاجتماعي ووحدته القانونية وهي الدولة .
الفتوى تشخص خطر بنيوي هدد المجتمع بعد تهديم أجهزة الردع في الدولة .
الفتوى توجه بالدفاع عن الوطن كمفهوم جامع لكل المواطنين واهل هذا الوطن المتعدد الاتجاهات كلهم مستهدفون بهذا الخطر الوجودي .
الفتوى تدعو للدفاع عن قضايا شخصية للمواطنيين كهتك الاعراض من قبل المعتدين الدواعش .
الفتوى توجب الدفاع على كل المواطنين وليس الشيعة فقط او مقلدي المرجع السيستاني .
الفتوى تختصر الوجوب بوصفه دفعياً محدداً بهدف دفع الأعداء باقل التضحيات لتحرير الأراضي وصيانة الاعراض وحماية الممتلكات