توجهات البيوريتان التعليمية في المستعمرات البريطانية الثلاثة عشر
ا.د. حيدر طالب حسين
أستاذ التاريخ الأمريكي الحديث
كلية التربية للعلوم الإنسانية/قسم التاريخ
 
      البيوريتانية او التطهرية هي مذهب مسيحي بروتستانتي يجمع خليطا من الأفكار الاجتماعية ، السياسية، اللاهوتية والأخلاقية ، ظهر هذا المذهب في إنجلترا في عهد الملكة اليزابيث الأولى  ( 1558-1603 ) وازدهر في القرنين السادس والسابع عشر، ونادى بإلغاء اللباس والرتب الكهنوتية  .
      تستند تعاليمهم إلى الإيمان بالكتاب المقدس مصدراً وحيداً للعقيدة الدينية من دون الأخذ بأقوال القديسين ورجال الكنيسة ، ويقضي بأن من واجب الإنسان أن يكون سلوكه في الحياة مطابقاً لما ورد في الكتاب المقدس ، وعليه أن يؤمن بعقيدة القضاء والقدر ،  ولا يقتصر مذهب التطهرية على أداء العبادة في بعض المناسبات أو في أيام معينة ، بل يوجب تطبيق العبادة في الحياة كلها ، فيبدأ المتطهر يومه بسلوك طاهر في علاقته الأسرية وباستقامة في تربية أولاده وبالمحافظة على صفاء روحه ، ونظرته إلى شؤون الحياة بما فيها الناحية السياسية على هَدْيٍ من الله ، بعيداً عما ورثته المسيحية في القرون الطويلة من شعائر شكلية ومظاهر كهنوتية ، ويعتقد المتطهرون أن الله اختارهم وفضلهم على العالمين.
       بعد هجرتهم واستيطانهم في المستعمرات البريطانية الثلاثة عشر ( الولايات المتحدة الامريكية لاحقاً ) ادى البيوريتان في مجال التعليم ايمانا صارما في مجال التعليم ، اذ اكدوا على ضرورة تعليم الفرد الى ان تكون رائدة في النواحي التعليمية في امريكا ، وفي هذا الصدد كتب احد البيوريتان المجهولين عام 1643 ما نصه ” بعد ان تم بناء المنازل وتسهيل سبل العيش وتشييد الكنائس واقامة حكومة مدنية ، تقنا الى انجاز التعليم وتقدمه وتطلعنا الى تخليده للأجيال القادمة” ، وقد انشأت مدرسة في بوسطن بعد مرور خمس سنوات على تشييدها ، وكان البيوريتان ينظرون الى الثقافة نظرة جدية ، لان مذهبهم يدعو كل انسان الى تعلم الكتاب المقدس ، وسرعان ما ازدهرت المدارس بما كانت تتلقاه من مساعدات من المدن ، وبوجود عدد كبير من خريجي الجامعة في المستعمرة ، وفي عام 1642 اتخذت المحكمة العامة في ماساتشوستس قانونا يجبر جميع الاباء على تأمين تعليم اولادهم القراءة وتمرينهم على بعض انواع التجارة ، وفي عام 1647 نشر قانون اخر يقضي بفتح مدارس حرة عامة في جميع انحاء المستعمرة ، وهو هدف يقتضي انجازه بعض الوقت حين ذلك ، هذا وقد عين نخبة من الرجال في كل مدينة تأخذ على عاتقها جملة من المهام ، ومن بينها محاسبة الاباء والمعلمين وتلاميذهم من حين لآخر في كل ما يتعلق بشؤون اولادهم وخاصة مقدرتهم على القراءة وتفهم مبادئ الدين وقوانين البلاد الرئيسية ، وتوقيع العقوبات على من يرفض تقديم مثل هذه المعلومات عند الاقتضاء ، ولهم بموافقة أي محكمة او أي قاض سلطة اخراج متمرنين من بين الاطفال الذين تنعدم فيهم المقدرة على العمل او صلاحيته وتعليمهم ، وعليهم ان يأمنوا عدم تبادل الصبية والبنات الحديث معا مما يسبب عبثا وطيشا وسلوكا فاسقا بذيئا . 
         وفي عام 1647 اصدر قانون يخص التعليم نص على  فرض انشاء مدارس عامة ابتدائية في كل قرية يزيد سكانها على الخمسين عائلة ، وبمجيء عام 1689 فقد اصبح التعليم الابتدائي اجباريا في كل مناطق نيوانجلاند ماعدا رود ايلاند ، اما التعليم العالي فتمثل بتأسيس اول كلية في مستعمرة ماساتشوستس وهي كلية هارفرد Harvard في عام 1636 تبعها كلية وليام وميري عام 1693 ثم ييل Yale عام 1702م التي اسسها مجموعة من البيوريتان ، تبعتها الكليات الاخرى التي بلغ عددها حتى حرب الاستقلال تسع كليات اختص بعضها بتخريج رجال الدين ، وكرس التعليم فيها لدراسة اللغات الكلاسيكية القديمة ودراسة الاديان .
       وما يؤكد تأثير التوجهات الدينية سيما البيوريتانية في الثقافة والتعليم الامريكي ، هيمنة الموضوعات الدينية على المؤلفات الامريكية طيلة المدة التي سبقت القرن الثامن عشر فلم تكن الموضوعات الدنيوية محبذة بل كانت في احيان كثيرة مثار للشك والريبة ، وتركزت بيد الكنيسة جميع المعاهد الدراسية تقريبا حيث كانت المهمة الرئيسية لهذه المعاهد هي اعداد رجال الدين والواقع انه لم يكن هناك من المدارس الحرة سوى اثنتين في كل من فرجينيا وكارولينا الجنوب وكان هذا الواقع مثار اغتباط وارتياح الفئة الحاكمة في المستعمرات فقد جاء تقرير كتبه وليم بيركلي Berkeley حاكم مستعمرة فرجينيا في اواخر القرن السابع عشر قوله “…..ولكني اشكر الله على انه لا توجد مدارس حرة او طباعة وامل ان لا يكون لدينا شيء منها لمدة مائة سنة ، ذلك لان التعليم سيقود الى عدم الانصياع والاذعان، وربما تعم العالم الهرطقة” .
       شكلت الكنيسة والمدرسة مكانه محترمة سيما في نيوانجلاند ، فكانت كافة المجتمعات البيوريتانية تتطلع الى قسيسها كمرشد ثقافي كما انه مرشد ديني ، والى قاعة الاجتماعات بالكنيسة لإجراء القسط الاوفر من مداولاتهم الاجتماعية ، وكان رجال الكنيسة اقوياء قادرين على النضال اكفاء لافي العلم وحده بل في قيادة الجماعة كذلك ، فكانوا موضع تبجيل من اتباعهم ، وكانوا يلقنون الناس التعاليم الخاصة بموجبات اللعنة وغضب الله بأسلوب قوي التأثير ، على ان رجال الكنيسة( البيوريتان ) كانوا مضطرين لأن يكونوا ذوي سلطان واستقامة وسعة اطلاع فكانوا متفقهين في اللاهوت واللغات القديمة فكان رئيس جامعة هارفرد تشونسيChauncey   يطلب ان يقرأ العهد القديم (التوراة) عليه باللغة العبرية صباحا والعهد الجديد (الانجيل) باللغة اليونانية ظهرا ، ويعلق عليها باللغة اللاتينية وقد حرص البيوريتان منذ البداية على تخصيص الاموال للتعليم العام وذلك بحسب وضعهم ” لان تقديم التعليم وكفالة استمراره للنسل من الامور التي كنا  نصبوا اليها ، ونعنى بها ، كراهية منا لان نخلف للكنيسة ابرشية امية ، عندما يقدر لقساوستنا الحاليين ان يرقدوا في التراب “ ، وهكذا ابدا البيوريتان اهتماما خاصا بالتعليم باعتباره جزء اساسي في عملية نشر تعاليمهم او على اقل تقدير الحفاظ عليها من المذاهب الاخرى التي وجدت في المستعمرات البريطانية الملاذ المناسب لممارسة طقوسها الدينية دون مضايقات .  
 

شارك هذا الموضوع: