انتمينا (Entemena) مؤرخ وسياسي
ا.د حسن حمزة جواد
كلية التربية للعلوم الإنسانية-جامعة كربلاء
 
للوهلة الأولى يتبادر إلى قارئ العنوان عدة تساؤلات حول اسم انتمينا، هل هو حاكم.. ملك …. قائد؟ وان كان مؤرخ او سياسي فما هو دوره، وما هي الفترة او العصر الذي عاش فيه؟
انتمينا حاكم لدويلة مدينة سومرية، قامت في مدينة لجش (Lagash) بجنوب بلاد الرافدين، وتحديداً في محافظة ذي قار قرب مدينة الشطرة، اشتهرت هذه السلالة ودويلة المدينة في عصر فجر السلالات السومرية (٢٨٠٠ – ٢٤٠٠ ق.م) بصراعها مع جارتها سلالة أوما لأسباب اقتصادية بحته، من أجل الحصول على المياه والأراضي الصالحة للزراعة، عرفت بين الباحثين باسم سلالة لجش الأولى نسبة الى ما ورد في جداول الملوك السومريين، وتميزاً لها عن سلالات أخرى نشأت في المدينة نفسها.
خلف مؤرخنا السومري انتمينا والده اناناتم الاول (Enannatum I) الذي خلف اخاه (اياناتم) (Eannatum) بحكم دويلة مدينة لجش، التي تلقب حكامها بالغالب بلقب انسي (Ensi)، وتلقب بعضهم بلقب لوكال Lugal))، وتعني الملك، والأول يعني الأمير، وهذه الألقاب السياسية كانت معروفة وسائدة في كتابات ونصوص عصر فجر السلالات السومرية بخطها المعروف بالخط المسماري ( Coniform ) كألقاب سياسية توضع بالعادة امام اسماء الحكام، ولها مدلولات سياسية عدة، يسبقها في القدم لقب الأين (EN)، والتي تشير بالعادة الى سعة دويلة المدينة وتبعيتها السياسية وعلاقة الحاكم بالدين.
ولكن هل أهتم انتمينا حاكم سلالة لجش في كتابة التاريخ؟ قبل الأجابة على هذا السؤال لابد من طرح سؤال أخر هو هل أهتم سكان العراق القديم بكتابة التاريخ؟ وهل امتلكوا الحس التاريخي؟
هنالك الكثير من الأدلة التاريخية التي تشير إلى اهتمام ملوك وسكان العراق القديم بالتاريخ، اي امتلاكهم للحس التاريخي، ومنها على سبيل المثال الاساطير والملاحم والقصص العائدة في أصولها الى بلاد الرافدين، والمتناقلة بين الناس في اول امرها شفوياً قبل اختراع الكتابة في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، من قبل الأدباء والقصاصين والمغنيين، الا ان بقائها لأجيال طويلة ساهم في امتزاج الخيال فيها، ومنها ملحمة كلكامش الشهيرة، والمعروفة عالمية بعد ترجمتها إلى عدة لغات قديمة ولغات حية، كما ان كلمة زكارو (Zikaru) الأكدية التي تعني (تخليد الذكرى) والمذكورة في النصوص المسمارية حملت في طياتها التأكيد على الحس بأهمية التاريخ، ومن الأمور المسلم بها لتخليد ذكرى ملوك وحكام العراق القديم هو كتابتهم لأعمالهم مثل تشيد المعابد والقصور وفتح القنوات المائية واقامة السدود والحصون والفتوحات العسكرية وغيرها من الأعمال، كلها جاءت من اجل تخليد ذكراهم ووصول اخبارهم الى الأمم والشعوب من بعدهم .
لقد أهتم المؤرخون والكتاب القدماء من بلاد الرافدين بتدوين اخبار مشاهير الشخصيات التاريخية، ممن عاشوا قبلهم بقرون عدة، والمكتوبة على لسان الشخص المدون بضمير المتكلم أنا، وان لم تدون من قبل أصحابها، بل دونت من قبل كتاب تفصلهم أزمان بعيدة عن صاحب السيرة، اي انها تشبه التراجم والسير الشخصية، وان الدافع من وراء ذلك هو حفظ تاريخ ومأثر السلف، نرد على سبيل المثال منها  قصة مولد الملك سرجون الأكدي (2371-2316 ق.م)، وكذلك قصة حفيده نرام سين (2291-2255 ق.م)، وفضلا عما احتوته هذه الملاحم التاريخية من ذكر لشخصيات لامعة فأنها قدمت معلومات مفيدة عن انظمة الحكم والموارد الاقتصادية والطبيعة الجغرافية للاماكن المذكورة، ويظهر بوضوح تقدير العراقيين القدماء واحترامهم لتاريخ اسلافهم ومنجزاتهم في تقليد كان متبع عن تجديد بناية أو معبد قديم، هو البحث عن حجر الأساس الذي كان يضعه الباني او المؤسس الأول للبناية في اركانها أو عند ابوابها الرئيسة، وبعد الاطلاع على ما فيه من كتابات عن تاريخ البناية يتم اعادته بكل احترام واجلال إلى مكانه.
تتجلى فكرة كتابة التاريخ عند السومريين بشكل واضح في نص سومري يعود الى عصر فجر السلالات السومرية، كتب بتوجيه من انتمينا حاكم سلاله لجش في حدود ٢٤٧٥ ق.م، اسرد فيه صراع دويلته مع دويلة اوما المجاورة من جذوره، اي انه لم يقتصر على ذكر احداثه المعاصرة فقط بل دون ذلك الصراع منذ بداياته الأولى والعائدة الى عدة اجيال سابقة له في القدم، مع ذكر المحاولات القائمة لأنهاء هذا الصراع في الأوقات السابقة له أيضا، وهذا دليل على التأكيد على أهمية التاريخ وتنمية الحس التاريخي عند الأجيال المتعاقبة بعده.
صدرت أوامر انتمينا إلى كتبته بتدوين هذا النص التاريخي، الذي كتب لغرض اساس وهو تسجيل اعادة حفر خندق الحدود بين لجش واوما، الذي خرب بسبب الصراع والحروب بين الدولتين، ولكي يوضع ذلك الحدث في اطار تاريخي سعى الكاتب لوضع مقدمة تاريخية، فأعاد رواية أهم الأمور والاحداث في ذلك النزاع منذ ايام الملك ميسلم في حدود ٢٦٠٠ ق.م، الا انه وضع الحوادث التاريخية وفق وجهة نظر ثيوقراطية وليس وفق سرد الرواية التاريخية على ما هو متبع بين المؤرخين في وقتنا الحاضر، لذلك جاء النص الأدبي محبوك بين أعمال البشر والإلهة، وعند تجريده من صورته اللاهوتية نجده يقدم سجل من سلسلة الحوادث السياسية في بلاد سومر.
يستدل من نص انتمينا على عدد من النقاط المهمة التي تشير الى الاجراءات المتطورة المتخذة من قبل الملك ميسلم المحكم في فض النزاع بين الدولتين، ومهارة وحنكة سياسي لجش في ترسيم الحدود وحفر الخنادق واقامة منطقة حياد بين حدود الدولتين وجعل النصب فيها، التي احتوت على الكتابات الدالة على الحدود للحيلولة دون قيام اي نزاع في المستقبل، كذلك اقيمت على طول الحدود المعابد والأبنية المخصصة لعدد من الإلهة السومرية ذات الشأن الكبير، للحيلولة دون انتهاك حدود لجش، كل هذه الإجراءات والاحداث ذكرت قبل عصر انتمينا، الذي اصبح فيما بعد شاهد عيان وشريك في الصراع الجديد المثار من قبل حكام اوما، الذين انتهكوا الحدود وازالوا الابنية والمعابد والنصب ونشفوا مياه الخندق .
قاد انتمينا جموع مقاتلي مدينة لجش بنفسه، اذ كان ابيه اناناتم شيخاً كبيراً، في حين كانت اوما وحلفائها بقيادة (اورلوما)، كتب النصر إلى لجش مرة أخرى، وارجعت الحدود الى ما سبق، اي الى اتفاقية وترسيم ملك كيش ميسلم. كذلك استطاع انتمينا بحكمته السياسية ان يتغلب على المتربص للفرص حليف اوما حاكم مدينة (زبلام) الواقعة شمال الأخيرة المدعو (الـ) (IL)، الذي سيطر على اجزاء من ممتلكات لجش وجعل نفسه حاكماً على اوما، الا ان ذلك لم يدم طويلا اذ تمكن انتمينا سياسياً من اعادة الحدود الى ترسيم ميسلم بعد تدخل طرف ثالث لحل النزاع.
ان العمل الذي قام به انتمينا يستحق بجداره ان يطلق عليه لقب مؤرخ العراق الأول، الذي يصب في حقل كتابة التاريخ وتتبع احداثه وتدوينها بشيء من التفصيل على لوح مسماري وصل الى ايامنا هذه، ويستحق أن ينتزع من هيرودوتس (480-425 ق.م) لقب أبو التاريخ، لأنه سبقه بما يقارب ٢٠٠٠ سنة، ووصفه الباحث في المسماريات (صموئيل نوح كريمر) في كتابه من الواح سومر بأنه أول مؤرخ في التاريخ.

شارك هذا الموضوع: