دور المسكوكات النقدية في الكشف عن أيدولوجية الحاكم
“الملك سلوقس الأول مثالاً”
ا.د حسن حمزة جواد
كلية التربية للعلوم الإنسانية-جامعة كربلاء
تعد المسكوكات النقدية مصدر مهم من مصادر دراسة التاريخ، ولا يختلف اثنان في صحة تلك المعلومات التي تقدمها المسكوكات، تأتي أهميتها من كونها تمثل عملة الدولة الرسمية، المضروبة باسم الملك او الحاكم نفسه، كما انها تمثل مركز السيادة السياسية للدولة، وتعكس طبيعة التحولات السياسية التي تتعرض لها الدولة الحاكمة أيضاً، كذلك تفصح المسكوكات النقدية عن شعارات الدولة الرسمية، وتضبط تواريخ واسماء ومراسيم وشعارات حكامها، وتخلد المناسبات الخاصة بها، والانتصارات الفكرية والشخصية، اي ان النقود تساعد على الكشف عن جوانب تطور الدولة من الناحية السياسية والاقتصادية، مما دفع بالكثير من الباحثين في مجال الآثار والتاريخ لتأليف العديد من الكتب والفهارس الخاصة بالنقود، مثل مؤلفات نيويل (Newell)، المتخصص اغلبها بمسكوكات الدولة السلوقية، وغيره الكثير من الباحثين في هذا الجانب، الذين اخذوا على عاتقهم تصنيف وجمع المسكوكات النقدية. تبقى الأخيرة في معلوماتها مقتضبة وقليلة بالمقارنة مع ما توفره المصادر التاريخية الأخرى، وهذا هو عيبها الوحيد.
ضرب الملك سلوقس الأول (311-281 ق.م) باسمه العديد من المسكوكات النقدية في بابل وسلوقية دجلة وغيرها من المدن والعواصم السلوقية، يعد الملك سلوقس الأول مؤسس الامبراطورية السلوقية، التي شملت حدودها بلاد الرافدين وإيران القديمة وسورية القديمة واسيا الصغرى، انتهت هذه السلالة الحاكمة سنة ٦٤ ق. م، بعد ان اضعفتها الصراعات الداخلية والحروب على يد الرومان، فقدت في سنواتها الأخيرة اغلب ممتلكاتها واقتصرت على سورية فقط.
في أول الأمر كانت مسكوكات سلوقس الأول تقليد إلى مسكوكات سيده الاسكندر المقدوني، التي حظيت بشعبية واسعة وكبيرة في التعاملات الاقتصادية، احتوت مسكوكات سلوقس على صورة الاله زيوس كبير الألهة اليونانية، وعلى يده يقف طائره النسر، وهذا النوع عرف بزيوس ايتوفوروس، ثم استبدل سلوقس النسر بالآلهة نيكي ألهه النصر، وهو استحداث جديد لم يعرف من قبل ويعود إلى سلوقس، كما عرف هذا النوع بزيوس نيكيفوروس، في حين كان زيوس والنسر تقليد مقدوني قديم عرفته مملكة مقدونيا من قبل.
 ان ظهور الألهة نيكي على مسكوكات سلوقس له علاقة وارتباط بالانتصارات الكبيرة التي حققها في الاجزاء الشرقية، وكذلك على خصومه من بقايا ضباط الاسكندر المقدوني والمتمثلة بانتيجونيوس، الذي انتصر عليه في معركة ابسوس سنة 301 ق.م وضم على أثرها ممتلكات الأخير في كل من سورية وأجزاء من آسيا الصغرى. كذلك يعد ظهور الفيل على أحد أوجه مسكوكاته دليل على أهمية هذا السلاح في جيشه، والذي يعود له الفضل في تحقيق النصر على انتيجونيوس، بعد ان حصل على ٥٠٠ فيل في صفقة سياسية مع ملوك الهند، ان ضرب صورة الفيل على المسكوكات هو تقليد سلوقي بحث، فجاءت انواع تحتوي على فيل واحد او عربة يجرها عدد من الفيلة، وتستقلها الألهة نيكي الهة النصر، عرفت بالكوادريكا والبيكا، فيكون هنا الاثنان معاً الفيل ونيكي اللذان يعود لهما الفضل في تحقيق النصر لسلوقس.
لم يقتصر الأمر على زيوس، بل جعل سلوقس على مسكوكاته عدد كبير من الألهة اليونانية، وحملت بعضها عدد من الصفات المشتركة مع الألهة المحلية، وبذلك يكون سلوقس قد جمع تحت رعايته رعاياه من الشرقيين وانصاره من المقدونيين واليونانيين، الذين كانوا عصب الحياة في الممالك الهلنستية، التي قامت بعد وفاة الاسكندر المقدوني في بابل سنه ٣٢١ ق.م، وتقسمت امبراطوريته الى ممالك متصارعة متنافسة فيما بينها.
سك الملك سلوقس أنواع متعددة وفئات مختلفة من المسكوكات، منها الستاتير الذهبية، التي حملت صورة الألهة اثينا والألهة نيكي المجنحة، كذلك سك سلوقس مسكوكات فضية منها التيترادراخما، والدراخما والهيمي دراخما والأوبول، الحاملة لصور الألهة اليونانية، مثل زيوس وهرقل، وكذلك الفيلة السالفة الذكر، اما المسكوكات البرونزية فقد سكت بكميات كبيرة، وبلغت قيمتها الشرائية اكثر من قيمة معدنها، وهو خيار كثيراً ما كانت تلجأ له الدولة أيام الأزمات الاقتصادية، كما ان الستاتير والتيترادراخما مرتفعة القيمة اقتصر التعامل بها على المعاملات التجارية الكبيرة، والتي كثيرا ما ضربت في الحملات العسكرية، وفيها أشارة الى النصر المتحقق بتلك الحملات.
احتوت مسكوكات سلوقس الأول على كتابات ونقوش بسيطة منها عبارة سلوقس بازليوس وتعني الملك سلوقس، وكذلك على علامات عرفت بالمونوكرام بين اوساط المتخصصين بعلم النميات، فيها اشارة الى دور السك التي ضربت بها تلك المسكوكات، الا انه للأسف لم تحمل مسكوكاته اي اشارة صريحة وواضحة إلى دور السك، ولا الى تاريخ سكها، مما قلل من قيمتها التاريخية.
مما تقدم يمكن القول ان مسكوكات سلوقس الأول المضروبة في السنوات الأولى من حكمه كانت تقليد لمسكوكات الاسكندر المقدوني، الا ان ذلك لم يدم طويل اذ شق سلوقس طريقاً منفرداً، وذلك بإيجاد نوع خاص به، كذلك دلت الصور الخاصة بالألهة اليونانية على معتقدات وأفكار سلوقس الدينية، التي تدل على تمسكه بجذوره واصوله المقدونية وثقافته اليونانية.
 
للمزيد انظر:
  1. خلود محمد منير امين زاهدة، الموضوعات الدينية التي تظهر على القطع النقدية السلوقية، رسالة ماجستير غير منشورة (الجامعة الأردنية: كلية الدراسات العليا، 1994م).
  2. حسن حمزة جواد، مسكوكات ذهبية من مدينة سلوقية دجلة ستاتير الملك سلوقس الاول (311 – 281 ق.م) مجلة الباحث، العدد 38، السنة 2021م.
  3. ——-، احمد عبد الرضا لازم وكفاح عبد رسن طالب، البعد السياسي والديني لصورة الاله زيوس على مسكوكات مدينة سلوقية دجلة (305 – 281 ق.م) مسكوكات الملك سلوقس الأول مثالاً، مجلة الباحث، العدد الخاص بوقائع المؤتمر العلمي الدولي الثالث 18 نيسان 2024م.

شارك هذا الموضوع: