أخبار هولاكو في بغداد من لسان معاصريه
ذكر العمري في كتابه المسمى مسالك الأبصار في ممالك الأمصار في ترجمة صفي الدين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر المويسيقي حكاية هي اقرب للطرائف حيث قال : ذكر العم حسن الأربلي في تاريخه :جلست مع صفي الدين عبد المؤمن بالمدرسة المستنصرية، وجرى ذكر واقعة بغداد، فأخبرني أن هولاكو طلب رؤساء البلد وعرفاءها، وطلب منهم أن يقسموا دروب بغداد ومحالها وبيوت ذوي يسارها على أمراء دولته، فقسموها، وجعلوا كل محلة أو محلتين أو سوقين باسم أمير كبير، فوقع الدرب الذي أسكنه في حصة أمير مقدم على عشرة آلاف فارس اسمه «نانونوبن» .وكان هولاكو قد رسم لبعض الأمراء أن يقتل ويأسر وينهب مدة ثلاثة أيام، ولبعضهم يومين، ولبعضهم يوماً واحداً، على حسب طبقتهم. فلما دخل الأمراء إلى بغداد كان أول درب جاء إليه الأمير الدرب الذي أنا ساكنه، وقد اجتمع فيه خلق كثير من ذوي اليسار، واجتمع عندي نحو خمسين جارية من أرباب المغاني وذوات الحسن والجمال، فوقف نانونوبن على باب الدرب وهو متترس بالأخشاب والتراب، وطوقوا الباب وقالوا : افتحوا لنا وادخلوا في الطاعة ولكم الأمان، وإلا أحرقنا الباب وقتلناكم. ومعه النجارون وخلافهم وأصحابه بالسلاح .
قال صفي الدين عبد المؤمن : فقلت السمع والطاعة، أنا أخرج إليه . ففتحت الباب وخرجت إليه وحدي وعلي أثواب وسخة وأنا أنتظر الموت، فقبلت الأرض بين يديه، فقال الترجمان : قل له : أنت كبير هذا الدرب؟ فقلت : نعم، فقال : إن أردتم السلامة من الموت فاحملوا لنا كذا وكذا ، وطلب شيئاً كثيراً. فقبلت الأرض مرة ثانية وقلت : كل ما طلبه الأمير يحضر، وصار كل ما في هذا الدرب بحكمك ومن تريد من خواصك، فانزل لأجمع لك كل ما طلبت . فشاور أصحابه، ونزل في نحو ثلاثين رجلاً من خواصه فأتيت به داري، وفرشت له الفرش الخليفية الفاخرة، والسرر المطرزة بالزركش، وأحضرت له في الحال أطعمة فاخرة وشواء وحلواء وجعلتها بين يديه، فلما فرغ من الأكل عملت له مجلساً ملوكياً، وأحضرت الأواني الذهبية من الزجاج الحلبي وأواني فضة فيها شراب مروّق , فلما كان وقت العصر، وحضر أصحابه بالنهب والسبايا، قدمت له ولأصحابه الذين كانوا معه تحفاً جليلة من أواني الذهب والفضة ومن النقد ومن الأقمشة الفاخرة شيئاً كثيراً، سوى العليق، واعتذرت من التقصير، وقلت : جاء الأمير على غفلة، لكن غداً إن شاء الله تعالى أعمل للأمير دعوة أحسن من هذه , فركب وقبلت ركابه ورجعت فجمعت أهل الدرب من ذوي النعمة واليسار وقلت لهم : انظروا لأنفسكم، هذا الرجل غداً عندي وكذا بعد غد، وكل يوم أزيد أضعاف اليوم المتقدم، فجمعوا إلي من بينهم ما يساوي خمسين ألف دينار من أنواع الذهب والأقمشة الفاخرة والسلاح، فما طلعت الشمس إلا وقد وافاني، فرأى ما أذهله؛ وجاء في هذا اليوم ومعه نساؤه، فقدمت له ولنسائه من الذخائر والذهب النقد ما قيمته عشرون ألف دينار، وقدمت له في اليوم الثالث لآلىء نفيسة وجواهر ثمينة، وبغلة جليلة بآلات خليفية، وقلت: هذه من مراكب الخليفة. وقدمت لجميع من معه وقلت: هذا الدرب صار بحكمك، وإن تصدقت على أهله بأرواحهم فسيكون لك وجه أبيض عند الله وعند الناس، فما بقي عندهم سوى أرواحهم، فقال : قد عرفت ذلك، من أول يوم وهبتهم أرواحهم، وما حدثتني نفسي بقتلهم ولا سلبهم، لكن أنت تجهز معي إلى حضرة الأمير، فقد ذكرتك وقدمت له شيئاً من المستظرفات التي قدمتها إلي، فأعجبته، ورسم بحضورك . فخفت على نفسي وعلى أهل الدرب وقلت: هذا يخرجني إلى خارج بغداد، ويقتلني وينهب الدرب، فظهر علي الخوف وقلت : هولاكو ملك كبير، وأنا رجل حقير، مغن أخشى منه ومن هيبته . فقال : لا تخف ما يصيبك إلا الخير، فإنه رجل يحب أهل الفضائل . فقلت : في ضمانك أنه لا يصيبني مكروه؟ قال : نعم . فقلت لأهل الدرب : ما عندكم من النفائس فأتوني بكل ما تقدرون عليه. فأخذت معي من الذهب والفضة، وهيأت ماكل كثيرة طيبة، وأواني فاخرة كلها من الفضة المنقوشة والذهب، وأخذت معي ثلاث مغنيات من أجل ما كان عندي وأنفسهن للضرب، ولبست بدلة من القماش الخليفي، وركبت بغلة جليلة كنت أركبها إذا رحت إلى الخليفة . فلما رآني نانونوبن بهذه الحالة، قال لي : أنت وزير؟ قلت: لا، أنا مغني الخليفة ونديمه، ولكني لما خفت منك لبست القماش الوسخ، ولما صرت من رعيتك أظهرت نعمتي وأمنت وهذا الملك هولاكو ملك عظيم، وهو أعظم من الخليفة، فما ينبغي أن أدخل عليه إلا بالحشمة والوقار، فأعجبه مني هذا وخرجت معه إلى مخيم هولاكو، فدخل عليه وأدخلني معه، وقال لهولاكو : هذا الرجل الذي ذكرته لك – وأشار إلي . فلما وقعت عين هولاكو علي قبلت الأرض وجلست على ركبتي كما هو في عادة التتار. فقال نانونوبن : هذا كان مغني الخليفة وقد فعل معي كذا وكذا وقد أتاك بهدية . فقال : قد قبلتها ؛ فقبلت الأرض مرة ثانية، ودعَوْتُ له، وقدمت له ولخواصه الهدايا التي كانت معي، فكلما قدمت شيئاً منها يفرقه ثم فعل بالمأكول كذلك، ثم قال لي : أنت مغني الخليفة ؟ فقلت : نعم، فقال : أي شيء أجود ما تعرف؟ قلت : أحسن أن أغني غناء إذا سمعه الإنسان ينام ، فقال : غنّ لي الساعة حتى أنام، فندمت وقلت : إن غنيت له ولم ينم قال : هذا كذاب وربما قتلني، ولا بد من الخلاص منه بحيلة. فقلت: يا خوند الطرب بأوتار العود لا يطيب إلا بشرب الخمر، ولا بأس بأن يشرب الأمير قدحين أو ثلاثة حتى يقع الطرب في موقعه، فقال: أنا ما لي في الخمر رغبة، لأنه يشغلني عن مصالح ملكي، وقد أعجبني من نبيكم تحريمه، ثم شرب ثلاثة أقداح كبار، فلما أحمر وجهه أخذتُ عوداً وغنيته . وكان معي مغنية اسمها ضياء، لم يكن في بغداد أحسن منها صورة ولا أطيب منها صوتاً، فأصلحت أنغام العود، وضربت ضروباً جالبة للنوم مع زمر رخيم الصوت، وغنيت، فلم أتم النوبة حتى رأيته قد نعس فقطعت الغناء بغتة وقويت ضرب الأوتار، فانتبه، فقبلت الأرض وقلت : نام الملك. فقال: صدقت نمت تمن علي، فقلت: أتمنى على الملك أن يطلق لي على السمكية، قال : وأي شيء هي السمكية؟ قلت : بستان الخليفة. فتبسم وقال لأصحابه : هذا مسكين مغنّ قصير الهمة. وقال للترجمان : قل له : لم لا تمنيت قلعة أو مدينة ؟ أي شيء هذا البستان فقبلت الأرض وقلت : يا ملك العالم، هذا البستان يكفيني وأنا ما يجيء مني صاحب قلعة ولا صاحب مدينة . فرسم لي بالبستان وبجميع ما كان لي من الرتب في أيام الخليفة، وزادني علوفة تشتمل على خبز ولحم وعليق دواب تساوي دينارين، وكتب بذلك فرماناً مكمل العلائم، وخرجت من بين يديه، وأخذ لي نانونوبن أمراً بخمسين فارساً، ومعهم علم أسود. وهو كان علم هولاكو الخاص به برسم حماية داري؛ فجلس الأمير على باب الدرب، ونصب العلم الأسود على أعلى باب الدرب، فبقي الأمر كذلك إلى أن رحل هولاكو عن بغداد .قال الأربلي : فقلت له : كم نابك من المغارم في الثانية؟ قال: أكثر من ستين ألف دينار وذهب أكثرها ممن كان انزوى إلى دربي من ذوي اليسار، والباقي من نعم موفرة كانت عندي من صدقات الخليفة. فسألته عن المرتب والبستان. فقال : البستان أخذه مني أولاد الخليفة وقالوا هذا من إرث أبينا والعلوفة قطعها عني الصاحب شمس الدين الجويني، وعوضني عنها وعن البستان في السنة مائة ألف درهم.