الأفكار السياسية عند بروتاجوراس
اعداد : م.م زينب حمود كزار
كلية التربية للعلوم الانسانية
جامعة كربلاء
ان الفلسفة التي ظهرت قبل سقراط, قد قابلتها في النصف الثاني من القرن الخامس موجة من الشك, كان بروتاجوراس _ كبير السفسطائيين – هو أهم أعلامها. لقد عد عصر بروتاجوراس بأنه عصر عقلنه مشكلات الطبيعة
والمجتمع والدولة والإنسان, انه عصر التنوير بحق, لأنه فهم للقضايا والعلاقات المدنية, كما أنه فهماً جديداً لمكانة الإنسان في العالم..
اشتهر ” بروتاجوراس ” بقوله الشهير ” الإنسان مقياس كل الأشياء ” وهو قول غالباً ما فسر على أنه تأكد لذاتية كلية يمكن بمقتضاها لكل فرد أن يضع لنفسه قاعدته الخاصة بالنسبة للخير والشر, وذلك في السياسة كما في الاخلاق, لكن ” أسطورة بروتاجوراس” التي نقرؤها في محاورات أفلاطون, تسير في اتجاه مغاير كلياً. فهي تؤكد على الضرورة الحيوية, لامتلاك البشر المتجمعين للفن السياسي, أي فن العيش في المدن. وهو فن يفترض وجود الشعور المزدوج بالحق والشرف, وتعلم الاسطورة بان الاله زوس (Zeus) اراد صراحة أن يكون لكل إنسان نصيبه من هذا الشعور المزدوج: لأن المدن لا يمكن أن تبقى ” اذا كان البعض فقط قد تجردوا منه ” ان هذه الاسطورة تعبر عن الحس الاجتماعي الاكثر صلابة وبنفس الوقت عن قبول غير مبهم بالمسَلّمةِ الديمقراطية.
كانت فكرة بروتاجوراس أنه من المستحيل أن يصل الإنسان إلى معرفة موضوعية, وأن الإنسان هو مقياس كل شيء , وأن المعرفة نسبية , تتغير من فرد إلى فرد, فما يبدو لي حق فهو حق, وما يبدو لك هو الحق فهو الحق, وكلانا على حق, وأننا نعرف الأشياء معرفة نسبية تتغير من فرد إلى فرد, وهي تقوم على الدراك الحسي.
وقد شرحها افلاطون كما يلي ” ان الاشياء هي بالنسبة الي على ما تبدو لي وهي بالنسبة إليك على ما تبدو لك, وانت إنسان وانا إنسان” فالمقصود بالإنسان هنا الفرد من حيث هو كذلك لا الماهية النوعية ولما كان الافراد يختلفون سناً وتكويناً وشعوراً , وكانت الأشياء تختلف وتتغير فإن الإحساسات تتعدد بالضرورة وتتناقض: ” أليس يحدث أن هواء بعينه يرتعش منه الواحد ولا يرتعش الآخر, ويكون خفيفاً على الواحد عنيفاً على الآخر” ” وإذن فلا يوجد شيء هو واحد في ذاته وبذاته. ولا يوجد شيء يمكن أن يسمى أو يوصف بالضبط؛ لأن كل شيء في تحول مستمر” فما نحسه هو موجود على النحو الذي نحسه وما ليس في حسنا فهو غير موجود, وعلى ذلك تبطل الحقيقة المطلقة لتحل محلها حقائق متعددة بتعدد الأشخاص وتعدد حالات الشخص الواحد, ويمتنع الخطأ. ان الفرد مقياس النفع والضرر والخير والشر والعدل والظلم, غير أن هذا لا يعني ترك الأمور فوضى وإنكار الحكمة والحكيم, فإن من التصورات ما بعضه ” خير ” من بعضو فالطبيب حكيم ؛ إذ يستخدم العقاقير لاستبدال تصورات الصحيح بتصورات المريض, والأولى “خير” من الثانية, والسوفسطائي أو تلميذه حكيم ؛ إذ يحدث في السياسة مثل هذا الانقلاب, فما يسمى حقاً في العمل وهو النافع في وقت معين وظروف معينة.
الإنسان وحده عند بروتاجوراس بأحاسيسه ووعيه يقدم مقياساً للكائن النسبي والمتغير, وبذلك يحعل الحقيقة ممكنة. يكون الجوهر الإنساني للحقيقة قائماً في كل “مشاركة ” الناس الفرديين فيه على الرغم من تنوع واختلاف أحاسيسهم واحكامهم. لذلك غياب حقيقه واحدة انما بسبب طبيعتها ” البشرية” وهذا يعزى لتغير ونسبية كل الأشياء .لذلك فإن اختلاف الحقائق الفردية ينجم عن الطبيعة ” الإنسانية” التي ليس لها معدل واحد مطلق.
ويرى ” بروتاجوراس ” بنسبية معرفة القيم الأخلاقية, أي أن الفرد مقياس الخير والشر, فالقيم والمبادئ في مجال الأخلاق نسبية متغيرة بتغير الزمان والمكان, وتختلف باختلاف الظروف والأحوال , بل يرى” بروتاجوراس ” أن القيم الأخلاقية لمجتمع معين لا تكون صالحة لمجتمع آخر, لأن تلك القيم تعاقدية بين أفراده, فكل مجتمع يسن قوانينه الخاصة به دون مراعاة لقواعد ثابتة ومحددة.
أكد بروتاجوراس أيضا على تعدد الفضائل والرذائل, حيث يرى إن المبادئ الأخلاقية هي اجتماعية أصلا, فهو هنا يرى أن منشأها الحس العام, ويستبعد أي قوى خارجية مؤثرة في الاتجاه الأخلاقي للأفراد فهم يدعون إلى الفردية الكاملة, ومن هذا المنطلق دافع عن القوانين والتقاليد والأخلاق المرعية في مجتمعه.وفى كتابات ” بروتاجوراس ” – دليل أو مجموعة من الأمثلة – تتناول “فن التناقض” ومن المفترض أن يكون ” بروتاجوراس ” هو الذي قال إن حجتين متعارضتين يمكن تقديمهما حول أي حالة معينة، وهذا ما يهم هو “جعل الحالة الأضعف أقوى”. يمكن بالطبع اعتبار مثل هذه الشعارات بمثابة تعليمات في حيل المحامين – لتحويل الحق إلى خطأ – لكنها في حد ذاتها لا تكشف أكثر من أن التأكيد على قضية ما يمكن رفضه وأنه من الممكن المجادلة من شخص يبدو أنه ضعيف. موضع. وكون هذا ليس ممكنا فحسب ، بل شرعيًا ، يرجع ذلك إلى الغموض الفعلي للواقع. يقدم بروتاجوراس لأفلاطون عدة وجهات نظر نسبية: بعض الأطعمة مفيدة للإنسان ولكن ليس للحيوانات شيء جيد للحيوانات ولكن ليس للنباتات.
ان التوجه الجديد في الفكر السياسي عند بروتاجوراس ” الانسان مقياس كل شيء” ظهر معه مشكلة مهمة وهي التعارض بين القوانين الوضعية والقانون الاعلى حيث ذهب بروتاجوراس للبحث عن أخلاق وسياسة بعيدة عن تلك التي عرفت زمن آلهة الاوليمب, فركزوا اهتمامهم قبل كل شيء على صياغة القوانين التي تحكم عمل المؤسسات السياسية والحقوقية.
اكد بروتاجوراس ان القوانين من خلق الإنسان وان العدالة أمر تعاقدي, فقولة ان الإنسان هو مقياس كل شيء يكاد يكون مؤكد ان النظم الإنسانية يجب ان تتكيف مع مطالب الانسان المتغيرة.حيث كان بروتاجوراس يؤمن بان القانون معلم جيد يهدي الناس الى الطريق القويم للحياة , ولا يوجد تعارض في تعاليم بروتاجوراس بين الطبيعة والقانون ما دام احدهما لا يعترض سبيل الاخر, فالقانون في نظرة شيء اسمى لأن السماء تقره , وهو الذي أنقذ الناس من ” حالة الطبيعة” التي لم يكونوا فيها أحسن حالاً من الوحوش. كان بروتاجوراس أكثر اهتماما بالدولة منه بالفرد , ويربأ بنفسه عن أن يؤيد حقوق الرجل القوي المسلح بالكفاية في السيطرة على زملائه , بل يقرر أن لكل الناس قدراً متساوياً من العدالة والاحترام بمقتضى أوامر الإله زيوس, وأنهم جميعاً وفق هذه الأوامر قد وهبوا ” الفن السياسي” على قدم المساواة ولهذا يكون لكل منهم في مجال التدبير السياسي صوت واختصاص يساوي صوت غيره واختصاصه.
ان بروتاجوراس لا يتلائم مع الميتافيزيقيا .. مقياس كل الأشياء هو الكائن البشري، ويُفهم بدقة على أنه ذاتية الذات. لقد كانت تعاليم بروتاجوراس تسير ضد النظرة الدينية, لقد شكك بروتاجوراس في الآلهة والمعتقدات الدينية فبالنسبة للآلهة، ” لا يمكنني التأكد مما إذا كانت موجودة أم لا، أم ماذا يحبون أن يروا. لأن أشياء كثيرة تقف في طريق معرفه لهم ، كلا من عتامة الموضوع وقصر حياة الإنسان” أشهر مقولاته “الإنسان هو مقياس كل شيء”.وأخذ يشرح اسطورة بروميثوس, كيف أنزل الإله هرميس إلى الناس يحمل معه الاحترام والعدالة لتكون مبادئ للنظام وروابط للاتحاد في المعرفة.. فهو بذلك تكلم عن فن الحكم, ان هذا الذي يقدمه بروتاجوراس هو المطلب الأساسي للحياة الاجتماعية المنظمة, حتى تكون فيه الدولة المكان الأصلح لتدريب وتعليم الناس على طاعة واحترام القانون..
أثار بروتاجوراس مشكلة التعارض بين الاتفاق والطبيعة في مجال الأخلاق والسياسة, فقد استعملوا لفظة الاتفاق للدلالة على العنصر النسبي المتغير المصطنع أو الذي يرجع إلى الذات في حين استعملوا لفظة الطبيعة للدلالة على الوجود الموضوع الثابت.
ان تحقيق المثل الأعلى للدولة عند بروتاجوراس يقوم على عدم التعارض بين الطبيعة والقانون, فالقانون هو انتقال الإنسان من حالة التشتت والضياع إلى حالة الاستقرار وهذه هبة سماوية خالدة, فالفضائل السياسية عند بروتاجوراس في تحقق قوانين المدينة وبذلك يكون الإنسان مقياس الأشياء جميعاً..
من خلال محاورات افلاطون انه ربط بين الدولة والتعليم, وكان ينظر إليها على انها منظمة تعليمية فأوضح ان المدينة تشبه المعلم , وكما ان المعلم يعطى تلاميذه مختارات من الشعر الجيد مليئة بالمعلومات المفيدة وتجبرهم على استظهارها وتشكيل أنفسهم وفق ما تحتويه من صور, كذلك تضع المدينة أمام مواطنيها قوانين وتجبرهم على معرفتها والحياة على منهاجها, وفي نظرية الأصول الاجتماعية يفرق بروتاجوراس بين ثلاث مراحل في تطور البشرية, كانت المرحلة الأولى منها شيئاً أشبه بالحالة الطبيعية, عرف الناس فيها فنون الصناعة والزراعة , ولكنهم لم يعرفوا الفن السياسي للحياة المدنية, وبما أنهم كانوا مفترقين إلى المدن, فقد عاشوا فريسة للوحوش. وأجبرتهم الحاجة الصرف إلى تكوين المجتمعات المدنية, وهكذا وصلوا إلى المرحلة الثانية في التطور, اسسوا فيها المدن وسعوا الى الاتحاد والمحافظة على انفسهم, ولكن رغم معيشتهم في المدن فلم تكن لهم دراية بالفن السياسي فأخذ الواحد منهم يوقع الأذى بزملائه حتى أصابهم التشتت والهلاك وهنا جاءت المرحلة الثالثة فأنزل الإله زيوس الإله هرميس إلى الناس يحمل معه الاحترام والعدالة لتكون مبادئ للنظام وروابط الاتحاد في المدن التي شيدت حديثا. وهكذا برزت الدولة في نهاية المطاف.
يقول بروتاجوراس” وجود دولة يفرض انه لا يوجد انسان غير متمرس بالفضيلة ” انه يوافق على جميع المواطنين الاثينيين كالنجارين والاسكافيين والحدادين والتجار.. الخ, في المشاركة بشؤون المدينة ما دام يملكون الفضائل السياسية بدرجة كافية. وبما ان هذه الفضائل المطلوبة في الشؤون الخاصة والعامة يمكن تعليمها وتعلمها فان التربية الخاصة لكل اعضاء المدينة هي فضيلة تهم الدولة.ويربط بروتاجوراس مفهومه في تحصيل الفضيلة مع مسؤولية الإنسان عن افعاله يقدم تبريره الخاص لعقوبة المجرمين: ففي رأيه ” أن ذاك الذي يرغب في انزال عقوبة معقولة لا ينتقم لخطأ مضى, فما حدث لا يمكن الا يحدث, إنه ينظر إلىالمستقبل, ويرغب في أن يمنع المعاقب والذي يرى عقابه من اقتراف الخطأ مرة ثانية “.
وعلم الناس فن السياسة ,في اوح قترة للديمقراطية الاثينية في عصر بركليس واكد ان القانون والنظام ليس من طبيعة الانسان لكن اتفقوا عليها بعد تجارب مريرة ,وانها امور مطلقة نسبية مثل اللغة والعقائد .والانسان لا يتعلم من الطبيعة لكن للتنشئة الاجتماعية دور في حياة الانسان ليكتسب القيم.