لم يلق أحد من الزعماء العرب من هجوم الرئيس جمال عبد الناصر المتواصل قدر ما لقي الرئيس عبد الكريم قاسم (1914 ـ 1963) الذي كان رجل العراق الأول (1958 ـ 1963) فقد سلط الرئيس جمال عبد الناصر مدفعيته الإعلامية بالليل والنهار على الرئيس عبد الكريم قاسم واشترك الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه في توجيه القذائف التي لم يعهد التاريخ أن يتولاها الرؤساء والملوك بأنفسهم لكن الرئيس جمال عبد الناصر أخلص في عداوة الرئيس عبد الكريم قاسم كما لم يُخلص في عداوة أي إنسان آخر ومع أن الرئيس جمال عبد الناصر هاجم الملك سعود و الملك فيصل و الملك حسين بقسوة لفترات من الوقت فإن علاقته بهم انتهت إلى الوفاق، وإلى ما هو أكثر من الوفاق حتى لو كان في هذا الوفاق بعض النفاق لكن علاقته أو خصومته بالرئيس عبد الكريم قاسم لم تنته إلا بموت الرئيس عبد الكريم قاسم حين حُكم عليه بالإعدام في ذلك اليوم الذي انقلب عليه فيه زملاؤه.
أكثر ثقافة
من باب علم النفس أو السيكولوجي فقد كان الرئيس جمال عبد الناصر مُحقٌا في موقفه من الرئيس عبد الكريم قاسم فقد كان الرئيس عبد الكريم قاسم أكثر منه ثقافة وأكثر منه ارتباطا بالحركة الشيوعية الدولية لأنه كان شيوعيا مُنظٌما وماركسيا حقيقيا ولم يكن يرتدي عباءة زعيم وطني اضطرته الظروف إلى أن يستعين بالسوفييت من باب الاضطرار، كان الرئيس عبد الكريم قاسم أكبر في السن من الرئيس جمال عبد الناصر بأربع سنوات لكنه كان في ماضيه العسكري قد وصل إلى ما لم يصل عليه الرئيس جمال عبد الناصر ، ونجا مما لم ينجُ منه الرئيس جمال عبد الناصر مما يؤذي تاريخ العسكريين على وجه الخصوص فيما يتعلق بعلاقتهم بالمعارك.
كانت كل الظروف تهيئ للرئيس عبد الكريم قاسم حاضرا لا يقل مجدا عن الرئيس جمال عبد الناصر لولا أنه وُجد فيما سمٌاها الحجاج بن يوسف أرض الشقاق، وهكذا كان الرئيس جمال عبد الناصر محظوظا بشعب صبور كالشعب المصري على حين كان الرئيس عبد الكريم قاسم أقلٌ حظا مع شعبه الذي يعتبر المعارضة صفة من صفاته الأولى، ومع هذا فقد كانت المعركة بين الرجلين تُبشٌر بما لم يكن المنطق يُبشٌر به.
ظهر الرئيس عبد الكريم قاسم على ساحة العمل السياسي في وقت الذروة من مجد الرئيس جمال عبد الناصر حين دانت له دولة الوحدة التي كانت قد تأسست قبل أقل من خمسة شهور (أُعلنت الوحدة في 22 فبراير 1958 وقامت ثورة العراق في 14 يوليو 1958)، وعلى ما هو متاح في كل الأدبيات الناصرية المنضبطة فإن الرئيس جمال عبد الناصر فوجئ بثورة العراق وبدا كما لو أنه لم يكن مستعدا لنصر من هذا النوع المفاجئ..
دولة الوحدة
كانت دولة الوحدة قد جعلت الرئيس جمال عبد الناصر بين عشية وضحاها على حدود الناتو نفسه، ذلك أن لسوريا حدودا لا يُستهان بها مع تركيا التي هي عضو في حلف شمال الأطلنطي “الناتو” ومع أن تركيا لم تؤذ الرئيس جمال عبد الناصر في أي شيء، ومع أن عدنان مندريس وقف أوتوماتيكيا مع الرئيس جمال عبد الناصر ومصر في العدوان الثلاثي في 1956 فإن الرئيس جمال عبد الناصر كان حريصا على أن يتظاهر بالعداوة مع تركيا وكان يتحرش بتركيا بكل ما يمكن من التحرش لا لشيء إلا ليبدو وكأنه يُواجه أعداء قادرين مرتبطين بالمجتمع الغربي ارتباطا عضويا على نحو ما كان الأمر في علاقة تركيا بحلف الناتو وبالقواعد الأمريكية.
ها هي الثورة تقوم في العراق التي هي نقطة الارتكاز فيما كان يُسمٌى بحلف السنتو وهو المعروف عند العرب في أديباتهم بحلف بغداد، وكان هذا الحلف يضم بريطانيا بالنيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت لا تزال تفضل اللعب من وراء الستار وتقديم المساعدة بطريقة غير مباشرة وكان يضم مع بريطانيا تركيا التي هي عضو بالفعل في حلف الأطلنطي مع بريطانيا ومع أمريكا ويضم مع هاتين الأطلنطيتين ثلاث دول إسلامية هي الباكستان وإيران والعراق ويتخذ من بغداد مقرا له.
معاداة القوميات غير العربية
كان الحلف يُمهٌد للرئيس جمال عبد الناصر وللناصرية استنفار كل ما هو ممكن من قاعدة عربية معادية لما سماه بالقوميات غير العربية، وهي للأسف الشديد قوميات مرتبطة بالإسلام أو هي باختصار: قوميات إسلامية، فقد كان هذا الحلف (السنتو) يضم كما ذكرنا دول إسلامية غير عربية هي باكستان وإيران وتركيا وكأنه التجسيد الحي للصورة التي لجأ إليها خطباء الناصرية ومُنظٌروها لدول وصفوها زورا بأنها اجتمعت على العداء للقومية العربية وشاركها في هذا نوري السعيد في العراق! .. وها هي الثورة تحدث في العراق فتكون هذه الثورة العراقية مضطرة بحكم طبائع الأشياء (حتي لو لم تقتنع) إلى أن تخرج من حلف السنتو وإلا ما كانت ثورة ولا ثورة عربية ولا ثورة تقدمية.. ثم هي مضطرة بحكم طبائع الأشياء مرة أخرى أن تقترب من القاهرة وهي العاصمة التي لم تعد تضم مصر وحدها وإنما أصبحت تضم الدولتين العربيتين المحوريتين مصر وسوريا، ومن الحق أن الرئيس عبد الكريم قاسم ونظام الرئيس عبد الكريم قاسم أنجز هاتين الخطوتين في سرعة البرق، وأصبح الرئيس جمال عبد الناصر في لمح البصر وقد خلا الجو له من حلف بغداد ومن نوري السعيد ومن هذه الصورة التي كان لا يفتأ يُندٌد بوجودها.
عندئذ نشأت نواة أكبر مشكلة من مشكلات الفكر السياسي التي واجهت العالم العربي في تاريخه الحديث والمعاصر وهي أن الرئيس جمال عبد الناصر بنظامه ودعاوى هذا النظام لم يكن قادرا على أن يستفيد من هذا الوضع الجديد الذي أحدثه وجود الوحدة في دمشق ووجود الثورة في بغداد، ذلك أن الرئيس جمال عبد الناصر ونظام الرئيس جمال عبد الناصر كان لا يزال قطريا إلى أبعد حد، قاهريا إلى آخر مدى ولم يكن يعرف أي معنى من معاني التعاون ، فلم يكن يعرف الاندماج ولا الاستيعاب ولا الإيثار ولا التبادل ولا الاصطفاف ولا روح الفريق ولا روح الجماعة.
كان نظام الرئيس جمال عبد الناصر كما كان الرئيس جمال عبد الناصر نفسه سُلطويا إلى أقصى حدود السلطوية ومركزيا إلى أقصى حدود المركزية ومتمركزا حول ذاته إلى أقصى حدود التمركز، كان بلغة العلم البيولوجي ارتكازيا بلا قدرة على الجذب، كما كان متراكزا بدون أي قدرة على الامتداد أو الاستطالة أو التمدد أو الاتساع.
أن يطيع وأن يصدق
كان هذا التوصيف الفيزيقي – البيولوجي هو أصدق وصف لحالة الرئيس جمال عبد الناصر في تعامله مع عبد الكريم قاسم، كان يتصور أن على الرئيس عبد الكريم قاسم أن يُطيع وأن يستأذن وأن يخضع وأن يصفٌق وأن يمدح وأن يقتدي وأن دوره في الحياة لا يتعدى الطاعة والخضوع والاقتداء مع قدر من الاستئذان في التصفيق الحاد والمديح المتكرر.. ولم يكن الكادر الماركسي الرئيس عبد الكريم قاسم قادرا على القبول بمثل هذا حتى لو أنه كان لا يملك قوت يومه فما بالك وقد تسلم دولة ذات مقدرات عظيمة في ثرواتها وتاريخها وكوادرها وخبراتها وبنيتها وموازنتها ودخولها؟ فما بالك وقد وجد تنظيمه يسنده بالكلمة والسلاح وبالرؤية والمناقشة، وما بالك وقد وجد أن الروابط بين العراقيين والسوريين تجعلهم قد أدركوا مدى ما يُعانيه السوريون من الرئيس جمال عبد الناصر وما ينصحون به العراقيين من تجنب للرئيس جمال عبد الناصر وجبروت الرئيس جمال عبد الناصر الذي هو كفيل بأن يجعل من بغداد عاصمة مقهورة على نحو ما أصبحت دمشق مقهورة وتعاني القهر لكي تبقى القاهرة وحدها مقررة وقاهرة.
هكذا وجد الرئيس جمال عبد الناصر نفسه أمام جماهيره العربية عاجزا عن أن يضيف إلى أمجاده البطولية من خلال العراق، صحيح أن الثورة لقيت ترحيب الرئيس جمال عبد الناصر ونظام الرئيس جمال عبد الناصر وجهازه الإعلامي لكن الترحيب لا يعني الملكية ولا الاستيلاء وإنما يتطلب من الرئيس جمال عبد الناصر ما لم يكن قادرا عليه من المضي خطوات في سبيل الأخوة والصداقة بينما هو يعيش دور الزعامة المركٌبة التي لا يُرضيها إلٌا شيء واحد هو اتساع قاعدتها في الأرض التي تحكمها وفي الجماهير التي تؤمن بها.
ومن دون أن ندخل في أية تفصيلات نظرية أو عملية فإن الخلاف بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس عبد الكريم قاسم سرعان ما ظهر، وبدا الأمر وكان هذا الخلاف يُهدٌدُ زعامة الرئيس جمال عبد الناصر الذي لم يكن ليقبل بتهديد زعامته مهما كان الثمن، وهكذا تسارعت خطوات الخلاف بفضل الإعلام المصري القادر على تأجيج أي خلاف حتى من دون سبب جوهري، وكلما ازدادت حملات الإعلام اشتعالا كان غضب الرئيس جمال عبد الناصر يزداد اشتعالا، وكلما ازداد غضب الرئيس جمال عبد الناصر اشتعالا كانت حملات الإعلام تزداد اشتعالا، و هكذا كان الرئيس جمال عبد الناصر يُجيد تصوير نفسه في موقع رد الفعل أو في موقع المفعول به الذي لا يجوز له أن يصمت تجاه الاستفزاز أو تجاه الخطأ أو تجاه الانحراف عما يصوره هو بوصلة للعمل الصائب.
ضربة من عبد الناصر
ومن دون أن ندخل في أية تفصيلات من التفصيلات الكبيرة المتاحة عن طواعية في صُحُف تلك الفترة فقد كان من الطبيعي أن يشجع الرئيس جمال عبد الناصر مخابراته التي في دمشق والتي في القاهرة على أن توجه ضربة انقلابية ضخمة لنظام الرئيس عبد الكريم قاسم للخلاص منه، فإذا لم تكن الناصرية قد شاركت في إزاحة نوري السعيد وقتله فإن من واجبها الآن أن تزيح الرئيس عبد الكريم قاسم لكي يكون لها الحق في ان تقول إنها صانعة الثورة وليست باعثة لها فحسب.
وهكذا تورط نظام الرئيس جمال عبد الناصر بكل وضوح وقسوة فيما سُمي في الإعلام الناصري بثورة الموصل وفيما وصف في الإعلام العراقي بأنه الحركة التي قادها العقيد عبد الوهاب الشواف (1916 ـ 1959) في 8 مارس 1959 أي قبل مرور ثمانية شهور من عمر نظام الرئيس عبد الكريم قاسم وهي علامة على أن أمر هذه الثورات الثلاث: (23 يوليو 1952 و14 يوليو 1958 و8 مارس 1959) لم يكن وطنيا مائة بالمائة وإنما كان يستفيد أيضا من حركات توجيه عن بعد تملك الكثير من المقومات في العمل على الأرض وتحت الأرض.
بدأ العقيد عبد الوهاب الشواف حركته بثقة متناهية في إمكان نجاح التمرد على الرئيس عبد الكريم قاسم وأعلن ثورته من محطة إذاعية محلية لكن نظام الرئيس جمال عبد الناصر كله كان وراء هذه الثورة إلى حد أنه بشر بنجاحها في الإذاعات الكبرى التي كان النظام المصري يمتلكها.
نجح الرئيس عبد الكريم قاسم في أن يقصف الحامية التي كانت تضم قوات العقيد الشواف في الموصل، حتى جُرح الشواف نفسه ونقل إلى المستشفى فتصدى له أنصار الرئيس عبد الكريم قاسم وقتلوه ثم سرعان ما أعدم قاسم مجموعة من خيرة الضباط مع الشواف.
كان رد فعل الرئيس عبد الكريم قاسم على حركة العقيد الشواف عنيفا فقد حاكم 75 متهما من ضباط الجيش والمدنيين وصدرت الأحكام بإعدام 29 من الضباط والمدنيين وحكمت بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة علىل 27 من الضباط والمدنيين على حين برٌأت المحكمة 18 من الضباط والمدنيين.
وفي فبراير 1959 أعدم الرئيس عبد الكريم قاسم الطيارين الأربعة الذين حاولوا قصف وزارة الدفاع وفي 25 أغسطس 1959 أُعدم ستة آخرون كان قد صدر حكم بإعدامهم في 9 أغسطس 1959.
وفي 20 سبتمبر 1959 أعدم من اعتُبروا زعماء الحركة وكان من بينهم الزعيم ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سرى وآخرون بينما خُفٌضت أحكام الإعدام في 19 سبتمبر 1959 عن سبعة ممن كان قد صدر الحكم بإعدامهم. وهكذا فإن 22 ممن اتهموا بالاشتراك في ثورة العقيد الشواف أعدموا بالفعل.
قلب نظام الحكم
قبل هذا كان عبد السلام عارف الرجل الثاني في نظام الرئيس عبد الكريم قاسم قد أُبعد عن منصبه في 20 سبتمبر 1958 أي بعد عشرة أسابيع من قيام الثورة وعُيٌن سفيرا في ألمانيا الغربية لكنه عاد إلى العراق وفي 5 نوفمبر اتُهم بمحاولة اغتيال قاسم وقلب نظام الحكم وحوكم وحكم عليه بالإعدام في يناير 1959.. وبقي هكذا محكوما عليه بالإعدام إلى ان صدر عفو عنه في ديسمبر 1962.
من الطريف أن العقيد الشواف نفسه كان ضد الرئيس عبد الكريم من قاسم وعبد السلام عارف على حد سواء.
بعد محاولة انقلاب العقيد الشواف بشهور تعرض الرئيس عبد الكريم قاسم لمحاولة اغتيال جريئة في 27 أكتوبر 1959 قُتل فيها سائقه ومرافقه لكنه نجا من هجوم هذا الاغتيال الذي اشترك فيه الرئيس صدام حسين نفسه.
كانت عناصر نجاح الرئيس عبد الكريم قاسم الروتينية أو التقليدية جاهزة ومن الحق أنه لم يُفرٌط في إنجازها بأقصى سرعة فهو كما ذكرنا أعلن انسحاب العراق من حلف بغداد وبالتالي فقد الحلف مبرر وجوده في بغداد نفسها، وارتبط بهذا خروجه مما سُمٌى بالاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن وهو تحصل حاصل فقد أعلن التحول من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري مباشرة ومع أن معظم الناس يعتقدون أنه كان رئيسا للجمهورية فإنه لم يتول هذا المنصب وإنما أسنده إلى الفريق محمد نجيب الربيعي الذي ظل رئيسا للجمهورية حتى خلعه و خلفه عبد السلام عارف في ثورة فبراير 1963.
وقد اعتقل الرئيس عبد الكريم قاسم كل من أمكنه اعتقالهم من أفراد العائلة الملكية والنظام الملكي والمقربين من النظام السابق ، كما ألغى معظم المراسيم والقوانين التي صدرت في عهد نوري السعيد وكان جاهزا ببدائلها كما هي عادة الماركسيين، وأطلق سراح المعتقلين السياسيين، كما ألغى القرارات التي كانت قد صدرت بنزع جنسية بعض العراقيين وأعلن على عكس ما حدث في ثورة 23 يوليو في مصر عن إطلاق الحريات العامة والحريات الحزبية، بل إنه سرعان ما أصدر دستورا جديدا سُمٌي دستور 1958 وهو دستور مؤقت بالطبع، وقد استرضى الوطنيين الذين كان النظام السابق قد آذاهم بسبب حركة انقلاب 1941 وصدرت النصوص على أن هذه الحركة التي عُرفت باسم ثورة رشيد عالي الكيلاني هي حركة تحريرية وطنية، لكن المذهل أن السياسي العظيم رشيد علي الكيلاني نفسه الذي كان لا يزال على قيد الحياة تعرض للاتهام من نظام الرئيس عبد الكريم قاسم بعد ذلك.
على صعيد التنمية والاقتصاد أصدر الرئيس عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي وألغى ما أسماه نظام الاقطاع والعشائر، وأعلن عن انسحاب العراق من منطقة الجنيه الإسترليني، واستعاد بعض الأراضي التي كانت مُخصٌصة لشركات النقط لاستكشاف النفط بها (يُقال إنه استعاد 99% من هذه الأراضي) وعُني بخُطط الإسكان وتوزيع المساكن وإسكان الضباط وضباط الصف كما شرع في بناء المستشفيات والمدارس والطرق وبدأ خطط التسليح مع الاتحاد السوفييتي.
تفوقه على عبد الناصر
وبالإضافة لهذا كله فقد بدا الرئيس عبد الكريم قاسم زعيما عربيا ثاقب الفكر بعيد النظر حريصا على الفعل لا على الانفعال وكان هذا من أسرار تفوق خطابه على خطاب الرئيس عبد الناصر.
كان الرئيس عبد الكريم قاسم (رغم موقفه من الكويت) هو من بدأ في دعم حركات التحرير في ساحل عمان، والخليج العربي والجنوب العربي.
كان الرئيس عبد الكريم قاسم هو من دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية فكانت دعوته هذه دافعا مباشرا وسببا جوهريا لقرار الغرب الخفي بالتخلص السريع منه، وبخاصة أنه لم يتغاض عن الإيحاء بأن الرئيس عبد النصر والملك حسين لا يُشجٌعانه في هذه الخطوة، ومع هذا فقد نالت دعوته بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني صدى إيجابيا قاد بالفعل إلى إنشاء هذا الكيان فيما بعد قليل.
كانت المُحصٌلة النهائية لوجود الرئيس عبد الكريم قاسم في حكم العراق أن العرب فتحوا أعينهم على نموذج ناصري آخر، وصفه العرب الماديون في مجالسهم ومنتدياتهم بأنه أكثر جدية وأكثر جنونا وقادت المعركة الإعلامية بين الرجلين إلى تمزيق ثياب كل منهما.
وإذا كان هناك سبب حقيقي لنجاح الانفصال السوري عن مصر في سبتمبر 1961 فإنه يتمثل في وجود الرئيس عبد الكريم قاسم والخطاب القاسمي الفاضح لديكتاتورية الرئيس جمال عبد الناصر وبيروقراطيته وسوء إدارته في سوريا وفي غير سوريا، وكان العداء بين الرجلين والنظامين ساخرا ومعلنا وبخاصة بعد مشاركة مصر العلنية في تمرد أو ثورة العقيد الشواف (1959).
كانت نتيجة الهجوم الناصري تتمثل في اقتناع شعبي بعدم مناسبة الماركسية والفكر الماركسي وبالخوف من الماركسية والفكر الماركسي وكانت نتيجة الهجوم القاسمي أن عرفت الجماهير أن الناصرية تحمل من التزييف أكثر ممٌا تُحقٌق من الإنجاز، وهكذا سهٌل على السوريين أن يتخلصوا من الرئيس جمال عبد الناصر وكان من الطبيعي أن يكون هذا الخلاص (في النهاية كما في البداية وفي الظاهر كما في الباطن) لمصلحة البعث الذي حاربه الرئيس جمال عبد الناصر بلا هوادة قبل الانفصال وبعده.
أما في العراق فإن الاتجاهات القومية والبعثية توحدت ضد الرئيس عبد الكريم قاسم وانضم الناصريون إلى القوميين والبعثيين في هذا التوجه الذي انتهى بإعدام الرئيس عبد الكريم قاسم لا بإزاحته فحسب، وسلك العراقيون سبيلا آمنا حين عهدوا إلى عبد السلام عارف بالرئاسة فتولاها (1963 ـ 1966) ثم خلفه شقيقه عبد الرحمن عارف (1966 ـ 1968) ريثما رأى البعثيون أن ينفردوا بالعراق منذ ذلك الحين 1968 وحتى سقوط بغداد في 2003 أما الناصريون العراقيون فإنهم سرعان ما أحرقوا الناصرية تماما ذلك أن محاولة الانقلاب على عبد السلام عارف لم تأت إلا من الناصريين على الرغم من أن عبد السلام عارف كان بردا وسلاما على مصر والرئيس جمال عبد الناصر بعد التوتر “القاسمي” الذي أقض المضاجع الناصرية (1958 ـ 1963)