رحلة الكلمة (أهمية التعريف اللغوي والاصطلاحي في البحث التاريخي – الرواية إختياراً) 
أ.د. عمار محمد يونس 
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية / قسم التاريخ 
2024-2025 م 
———————————————————- 
    رحلـة الكلمـة في اللغـة العربيـة دلالـة عن حيويتـها ومرونتـها دون غيرها من اللغات،   وكلمـة “رواية” مثل غيرها من الكلمـات رحلت وتطورت منذ عصـر طفولتها مروراً بمرحلة شبابها وصـولاً إلى عصـر بلوغها اللغوي، فهناك كلمـات مرت بأطوار لغوية مختلفـة مـرتحلـة مـن الـمادي الـملموس الـى الـمعنوي الـمحسوس ومـن ثــم اســتقرت بشكلـها الاصطلاحي المتداول للدلالة على معنى آخر، وهذا ما أشرنا إليه في المقال السابق (رحلة الكلمة) من أن الكلمة بريئة في أصلها ونحن من يشحنها بالمعنى فصارت تسعى إلينا بصورٍ شتى وتصدر عنا بصورٍ شتى، وكلمة “رواية” هي مصدر من الفعل “روى” والذي يعني الري والشبع، واسم الفاعل منها “راوٍ” أي “ناقل الماء”، ومنها يمكن إدراك أهمية الماء في لغة أهل الصحراء.   
   كانت كلمة “رواية” في طورها المادي الملموس يراد بها “النقل”، لارتباطها بنقل الماء من البئر، لذا أطلقت على الوعاء “الحامل للماء”، والهاء في آخرها للمبالغة في كثرة الماء في الوعاء، وكذلك أطلقت “رواية” على الناقة أو البعير “الناقل للماء”، وهذا ماعُرفت به العربية في إطلاقها اللفظ على الشيء لقربه منها، وهكذا صارت كلمة “رواية” ذات دلالة مادية محسوسة في هذا الطور اللغوي “لحمل الماء ونقله”، فأطلقت على الجماد بوصفه الوعاء “الحامل للماء”، وعلى الحيوان بوصفه “الناقل للماء” أيضا،وكلاهما يراد به “حمل الماء ونقله”. وهنا صار لزاماً على الباحث أن يدرك كيفية التعامل مع كلمة مادية ملموسة ومن غير الممكن توظيفها في غير محلها.   
   العربية بوصفها لغةً امتازت بقدرتها على تجريد الكلمة لغوياً بغية الابتعاد بها عن دلالتها الملموسة والوصول بهـا إلى دلالـتها المحسوسة، فكمـا أطـلقت “رواية” للـدلالـة على “الحمـل والنقـل” في مرحلتها المادية الملموسة، استعارت اسم الفاعل منها “راوٍ” لتطلقه على “حامل الخبر والشعر” في مرحلتها المحسوسـة، وهكذا انتقلـت من مـاديتهـا الملموسـة إلى معنويتهـا المحسوسـة إنـتقـالاً مجازياً إذا جاز التعبير، فصار اسم الفاعل “راوٍ” للدلالة مجازاً عن “ناقل ومؤدي الخبر أو الشعر”، ومما تقدم جاز للباحث أن يوظفها كما هي في طورها المعنوي المحسوس، ومن الممكن التعاطي معها كما كانت في طورها المادي الملموس.  
   


     وبعد الإسلام تم التعامل مع “راوٍ” كما هي في مرحلتها الثانية المحسوسة للدلالة عن “حامل الحديث والشعر” حتى قيل عنه “روى الحديث والشعر رواية و ترواه”.وهنا صار حامل الحديث ومؤديه وحامل الشعر ومؤديه “راوياً”، و”الرواية” ليست سوى “طريقة حمل ونقل وأداء” وبهذا أخذت هذه اللفظـة “رواية” دلالتهـا الاصطلاحية بشرطهـا الأهـم وهو “تمام الحفظ”، حتى قيل “ورويته الحديث تروية، أي حملته على روايته وأرويته أيضا، وتقول أنشد القصيدة ياهذا ولا تقل له أروها ، إلا أن تأمره بروايتها أي استظهارها”. 
وما ان وصلت الكلمة الى مستقرها الاصطلاحي حتى صارت دالةً عن علوم الحديث والتاريخ والشعر مقتصرة غايتها على تلك العلوم، ومن غير الصحيح التعاطي مع الاصطلاح بشكل مغاير وتوظيفه بما لا يتوافق و دلالته الاصطلاحية.
   استقرت كلمة “رواية” للدلالة عن العلم وتمام الحفظ في معناها الاصطلاحي، وارتقت برقي اللغة العربية، فرحلت كلمة “رواية” من طورها المادي الملموس “نقل الماء وحمله” إلى طورها المعنوي المحسوس “راوٍ” و وظفته للدلالة عن “حامل الخبر والشعر” لتستقر في دلالتها الاصطلاحية و بصورتها النهائية لتعني “حمل العلم و أداؤه”، بوصفه ناقلاً للحديث النبوي الشريف ومؤديه وفق شروطه “حملاً وعِلماً واداءً” لترسم صورة مطابقة وأهمية الماء في حل أهل الصحراء وترحالهم.   



المصادر : 
——— 
– لسان العرب، ابن منظور الأفريقي، باب الراء مادة ” روى”، ط دار المعارف، القاهرة. 
– أساس البلاغة، الزمخشري، مادة “روى”، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م.  
– مصادر الشعر الجاهلي، الدكتور ناصر الدين الأسد، ط دار المعارف، القاهرة، 1956م . 
– منهج النقد التاريخي، الدكتور عثمان موافي، ط المؤسسة الثقافية الجامعية، الإسكندرية، 1976م.        
        – الكتابة التاريخية والمعرفة التاريخية، الدكتور عزيز العظمة،ط دار الطليعة، بيروت،1983م.     
                                 
   
 

شارك هذا الموضوع: