مقالة بعنوان أنواع الاستراتيجيات في البلاغة التداولية 
المحور الأوّل: الأستراتيجية التوجيهية
     وتُعرفّ بأنها: ((الأستراتيجية التي يرغب المرسل بها بتقديم توجيهات ونصائح وأوامر ونواهي يُفترض انها لصالح المخاطب أو المرسل إليه)).()
     وتجدر الإِشارة الى ان القيم التوجيهية بكل مسوغاتها لا تُعد أفعالاً لغوية فحسب، وانما تعد من الوظائف التي تُعنى بالعلاقات الشخصية بحسب تصنيف هاليداي، إذ يعد اللغة هي ((تعبير عن سلوك المرسل وتأثيره في توجيهات المرسل إليه وسلوكه)).()
     وقد صنَّف (باخ) الأفعال التوجيهية ضمن الأصناف الأربعة التي حددها للأفعال الكلامية وهي الأفعال التقريرية أو الوصفية والتوجيهية والألتزامية، وأفعال التعبير عن المشاعر وتشمل الأفعال التوجيهية عند باخ الأصناف الآتية:() ((الأستراتيجيات وعلاقتها بالنصّ والخطاب: عبد الكريم جمعات الأستراتيجيات الخطاب الحجاجي في الحديث))
  1.  الطلبات: وتأتي على شكل سؤال او تضرع او توسل او مناشدة او الحاح او دعوة او طلب او حث او استدعاء او ابتهال او حجاج. 
  2.  الأسئلة: وتأتي في الأمور (السؤال، الأستعلام، الأستجواب التشكك).
  3.  المتطلبات: وتمثل (العرض، التكليف، الأمر، الطلب، الارشاد، المنع، التعليم، الغرض).
  4.  التحريمات: وتمثل (المنع، الحظر، التحريم، التقييد).
  5.  أفعال النصح: وتأتي على اشكال منها (الحث، النصح، التحذير، الاقتراح، الإِنذار، التوصيات).
     ومثلَّتْ الأستراتيجية التوجيهية حضوراً مكثفاً في خطب الجمعة ويعتبر الفعل الانجازي- التوجيهي من خلال نتيجته إِلزاماً للمرسل إليه؛ لانه خاضع لسلطة المرسل؛ لان الأفعال التوجيهية قائمة على علاقات سلطوية بين المرسل والمرسل إليه وفي هذه الحالة هي مؤشر لنجاح هذه الأفعال.
  •  الأمر:
     فمن أمثلة نصّ خطبة للشيخ عبد المهدي الكربلائي، إذ يقول ((أوصيكم عبد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى، فإنها مفتاح سداد وذخيرة معاد، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب ((وأيقظوا بها نومكم، واقطعوا بها يومكم، وأشعروها قلوبكم، وأرحضوا بها ذنوبكم وداووا بها أستقامكم)) هكذا أيها الأخوة والأخوات أوصانا سيد المتقين أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام) بتقوى الله والتحرز عن الحرمات والمآثم)).() المجلد الثاني عشر/ الجزء الأول/ ص87.
    وقد ذكر ضمن محاور هذه الخطبة قول للإِمام السجاد(عليه السلام) في حفظ حقوق الجار ومحاسن الآداب والاخلاق الفاضلة التي ينبغي لشيعة أهل البيت(عليهم السلام) ان يتحلوا بها وتكون المعيار والميزان في المعاشرة فيما بينهم، ومن الامور الآخرى التي اشارَ إليها وأمرنا بالألتزام بها (كتمان الأسرار) لتكون علاقات اجتماعية وثيقة وراقية بين افراد المجتمع، وأشار الى ان هذه الأسرار متنوعة فيها حفظ لارواح الناس وممتلكاتهم وحقوقهم، وهذه الأسرار تارة تكون إجتماعية واخرى مالية وخرى عسكرية، واقتصادية، ومن الاخلاق الفاضلة التي يجب ان يتحلى بها الفرد المؤمن (ستر العورات) لان الأنسان معرض للخطأ، وقد يرتكب فاحشة او خطأ، فمن حقه عليك ان لا تذيع ذلك، فكلنا نقع في الخطأ، وكلنا عدنا صفات قبيحة وليس من الصحيح التحدث عن الأفراد او العوائل بكلام سلبي يشوه سمعتهم.()
  ومن الخطب المهمة التي لها صداها في المجتمع العراقي لأنها تلامس الواقع بكل حيثياته، خطبة السيد احمد الصافي(دام ظله) إذ يقول فيها.()
   ((إخوتي الأفاضل، أبنائي الأعزاء، آبائي الأجلاء، اخواتي المؤمنات، بناتي العفيفات، أمهاتي المربيات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
  أوصيكم جميعاً ونفسي الغارقة في بحار الخطايا والآثام بتقوى الله تبارك وتعالى والعمل بطاعتِهِ والأبتعاد عن معصيته فانه: ((فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يرَهُ، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يرَهُ)) وفقنا الله تبارك وتعالى للأخذ بطاعتِهِ، والابتعاد عن معصيته وألبسنا الله تعالى وإياكم لباس التقوى.
  لعلّ من المسائل المهمة التي أولاها الشارع المقدس أهمية كبيرة هو موضوع الأسرة لأهميته من جهة، وللآثار السلبية التي تبرز في حال عدم الأعتناء بالأسرة…
    وقد ركز الاسلام على العلاقة الاجتماعية بشكل خاص وهي كيف يتربى الانسان داخل الأسرة تربية اذا مازَجَّتْ الاسرة بهذا الولد الى الشارع يكون عنصراً نافعاً، تأدباً بآداب الأسرة، ثم آداب المدرسة.() خطب الجمعة (المجلد الثاني عشر/ج1) ص75- ص76- ص77.
    اشار السيد(حفظه الله) الى مسائل اجتماعية الى الدور الأساس في نجاح المحتمع وهم (الأسرة) لاسيما الوالدان واثرهما في تربية الأولاد، ولكن ما يعيشه الواقع الاسري من التفكك بسبب انشغال الوالدان بالدوام والعمل او بالشبكات التواصل لذلك نبّه كثيراً في خطب الجمعة الى دور الاسرة في قيام مجتمع ناضج بعيداً عن المشاكل والأخفاقات وما ينتج عنه من زرع بذور لمجتمع متفسخ خلقياً واجتماعياً.
 ومن الأمثلة على الاستراتيجيات التوجيهية خطبة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في باب الدفاع عن المقدسات والجهاد:
((أيها الاخوة والأخوات نعرضُ على مسامعكم الكريمة التوجيهات الصادرة من المرجعية العليا للمقاتلين الابطال في جبهات القتال، نذكر قبلها مقدمة فنقول:(
    يُشاركُ في هذه الأيام الآلاف من اخواننا وأحبتنا في القوات المسلحة ومن يساندهم من المتطوعين وأبناء العشائر في معارك ضارية لتخليص مناطق من محافظة الأنبار من سطوة الإرهاب الداعشي، وإِننا إذ نكرر بالغ الثناء عليهم وعظيم الاعتزاز بجهودهم والمباهاة بكل قطرة دم يبذلونها في سبيل الدفاع عن وطنهم وشعبهم ومقدساتهم، نجد من المناسب ان نذكر مقاطع من توجيهات المرجعية العليا لهم في رعاية حرمات الناس في مناطق القتال، تأكيداً لما لها من الاهمية البالغة، وأودّ ان اشرح بعض العبارات هنا في المقدمة ثم اذكر التوجيهات والنصائح.()
(خطب الجمعة المجلد الثاني/ الجزء الاول، ص315، 316.)
 
     أيها الاخوة والأخوات نلاحظ في التعبير الوارد من المرجعية الدينية العليا أنها عبرّت عن المقاتلين بأنها أحبة المرجعية الدينية العليا هؤلاء المقاتلون هم احباء المرجعية الدينية العليا، فقد بينّت منزلتهم ومقامهم ثم بينت منزلة ومقام بطولاتهم وتحاتهم فذكرت في البداية الثناء البالغ لهذه التضحيات والبطولات، ثم ترقت في بيان منزلة هذه التضحيات والبطولات، ثم سمت بدمائهم بل بكل قطرة دمٍ تُسال من أي شهيد او جريح فعبّرت بالمباهاة…
  ثم هناك التوجيهات والنصائح، أيها الاخوة والأخوات سبق ان صدرت الى المقاتلين في ساحات الجهاد وجبهات القتال وهي كالآتي: 
 ((فالله في النفوس، فلا يستحلن التعرض لها بغير ما أحلَّهُ الله تعالى في حالِ من الاحوال، فما أعظم الخطيئة في قتل النفوس البريئة وما أعظم الحسنة بوقايتها واحيائها، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وان لقتل النفس البريئة آثار خطيرة في هذه الحياة وما بعدها، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) شدة احتياطه في حروبه في هذا الأمر…
((الله الله في حُرمات عامة الناس ممن لم يقاتلوكم، لا سيما المستضعفين من الشيوخ والولدان والنساء، حتى إذا كانوا من ذوي المقاتلين لكم، فإِنه لا تحل حرمات من قاتلوا غير ما كان معهم من أموالهم، وقد كان من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه كان ينهي عن التعرض لبيوت أهل حربه ونسائهم وذراريهم رغم اصرار بعض من كان معه من الخوارج على استباحتها)).() نفس الخطبة ص231
     تُفصح الخطبة في بنيتها الأستهلالية على مقدمات متمثلة بأوامر حجاجية بأفعال الأمر- الايعازية الصريحة المباشرة لتوجيه المقاتلين في ساحات المعارك في الألتزام بطاعة الله (سبحانه وتعالى) والعمل بفرائضِهِ وكتابه وسُنِنِه وبمخالفتها يكون الخسران.
    وتبدأ العملية التخاطبية ضمن هذهِ الأستراتيجية في التواصل مع الذات والآخر في الألتزام بأوامر وتوجيهات المرجعية العليا في اثناء الحرب مع الطرف المعادي، وهو بالضرورة يُحيل الى مجموعة اهداف منطقية يترتب عليها أمور كثيرة، وفي ذلك تعظم للدولة والوقوف على الأسس القويمة التي يتحقق بها أمن الوحدات العسكرية بين الطرفين والناس الأبرياء بينهم ثم نلحظ توالي أفعال الأمر الأنجازية والربط بين المقدمات والآليات الحجاجية التي سهلت وظيفة المحُاجج.














المحور الثاني: الأستراتيجية التضامنية
    وتعرف بإِنها ((الاستراتيجية التي يُحاولُ المرسل فيها ان يجسد درجة علاقته بالمرسل إليه ونوعها، وان يعبّر عن مدى احترامه لها ورغبته في المحافظة عليها او تطويرها بإزالة معالم الفروق بينها… والتقرب من المرسل إليه وتقريبه)).(
    وفيها يكون طرف العملية التواصلية (المرسل- المرسل إليه) من الأقران لغة لتأسيس العلاقة الودية بين طرفي الخطاب، ولتفعيل التضامن في علاقات المجتمع وكسب المحبة والتودد بينهم وبين حاكمهم وتحسين صورة راعي الرعية)).
   وتتجسد الاستراتيجية التضامنية من خلال علامات لغوية معينة تشير الى رغبة المرسل في التضامن مع المرسل إليه، وتعد هذه العلامات اللغوية من الوسائل اللسانية التي يجعلها المرسل علامة لتوجيه الخطاب الى المرسل إليه من الناحية النفسية والإجتماعية وتشمل(الضمائر، الأسماء، الاعلام، الالقاب، والكنى).
   ولعل الحديث عن الاستراتيجية التضامنية في خطب الجمعة يتطلب حديثاً طويلاً، فأغلب خطب الجمعة حوت استراتيجيات تضامنية ومن أبرز الأمثلة على ذلك، نصّ خطبة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في ضرورة التضامن مع الشعب والحكومة معاً لبناء مستقبل آمن للعراق إذ يقول.() 
  ((أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي، بتقوى الله تعالى، وأسمعوا لما وعظكم به، واذا سمعتم فَعُوا، واذا وعيتم فاعملوا، واذا عملتم فأخلصوا، فإنما هي حُجج الله تقام عليكم، وبينّاته تُتلى وتُذره تُقدّم، فإِن اعرضتم عن سماعها كنتم من الغافلين، وأن أصنعتموها بعد العلم بها كُتبتم من الخاسرين فمن وسائل النجاح في الاختبارات والابتلاءات
الامر الأول: هو استمداد القوة من الله تعالى في مواجهة هذه الامتحانات.
الامر الثاني: هو الشعور المؤمن أن المحنة والأزمة والابتلاء الذي يمُّر به هو بعين الله تعالى، وهو ناظرٌ إليه.
الامر الثالث: هو الإِصلاح ومحاربة الفساد والدعوة الى الله تعالى كما اشارت الى ذلك الكثير من الآيات القرآنية، والصلاح إنما يبدأُ من النفس، لذلك في هذه الدعوة لابُدّ من ان ندعو أنفسنا، نبتدئ بأنفسنا ونحاول أن نعالج ما فيها من الفساد و الأنحراف، ثم نتوجه الى الآخرين وندعوهم الى الصلاح وننهاهم عن الفساد.
الامر الرابع: الابتعاد عن المعاصي واللهو والعبث والغفلة والانتقال بطاعة الله تعالى.
الامر الخامس: وهو التوبة والاستغفار والدعاء والتضرع الى الله تعالى والاستعانة به في مثل هذه الأمور في مثل هذه الازمات والامتحانات والمسألة الاخيرة المهمة هي مسألة ترشيد الاستهلاك، لا حظوا النمط الاستهلاكي، والابتعاد عن النمط الانتاجي المطلوب ان نتوجه نحو الانتاج.() خطب الجمعة المجلد الثاني عشر/ ج1/ 62،63،64،65
   من شأن هذه الاستراتيجية ان تساوي بين درجات اطرافه وان تقلّص المسافات المتباعدة بين النفوس، فتؤثر في طبيعة العلاقة الاجتماعية بين الاطراف وهنا تحقق للتضامن سمته الغالبة في الاحترام والتهذيب والتودد لكسب الطرف الآخر، وقد برز هذا النوع من الخطاب التضامني في خطبة الشيخ لكافة ابناء المجتمع بمختلف شرائحهم ومستوياتهم الثقافية والمادية، وكل هذه المسائل التي تطرق إليها هي علامات اشارية تجسد درجة التضامن من التعامل الاخلاقي: ((لان للتعامل الاخلاقي الاولوية في الاستراتيجية التضامنية، وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن بالتخلق)).
  ومن امثلة الاستراتيجية التضامنية ايضاً خطبة السيد أحمد الصافي()
((مطالبة الحكومة بالعمل على كشفِ مخططات الارهابيين وإِلقاء القبض عليهم وعلى من يدعمونهم وتقديمهم الى العدالة واتخاذ الاجراءات الضرورية لمنع وقوع هذه المآسي الفظيعة..
    فقد تكررت في السنوات الماضية هذه المطالبة عقب حوادث مماثلة، ولكن تلك المطالبات لم تحقق شيئاً في ظل غياب الرؤية الصحيحة لأصحاب القرار وتفشي الفساد والمحسوبيات وعدم المهنية في مختلف المفاصل، بالرغم من كل النصح المرجعي والضغط الشعبي، ولا سيما في العام المنصرم بإِحداث تغير جوهري في أداء المسؤولين وقيامهم بمكافحة الفساد بصورة جدية، وتطبيق ضوابط مهنية صارمة في التعينات الحكومية ولا سيما في المواقع والمناصب المهمة كالمهام الامنية والاستخبارية)).() (خطب الجمعة/ مج2/ ج2/ ص36)
   فالبعُد التضامني في الخطبة تبين حرص المرجعية العليا في ضرورة تضامن الحكومة مع الالتفات الى أمور وقضايا سياسية وعسكرية وامنية هامة لبناء بلد يعاني من الارهاب والدمار والاعداء، ويتجلى هذا البعُد في الأحترازات الامنية التي ينبغي ان تقوم بها السلطات لحماية ارواح الناس الابرياء والحدَّ من الانفجارات التي تحصد ارواح الشعب البرئ وضرورة محاسبة المتخاذلين والخونة والارهابيين.
  ومن هنا تكون الاستراتيجية التضامنية تأليفاً لهم بطريقة تطرح إشكالاً هاماً فيها أمن وصلاح بلد يعاني من الارهاب والدمار.




















شارك هذا الموضوع: