لقد مرت البلاغة العربية منذ تاريخ نشأتها الطويل بمسيرة تاريخية معرفية استحكمت الخطاب (القول) في جميع مراحها التي مرّت بها، بدءًا من الجذور الأولى للقول البلاغي عند العرب وحتى مراحل تقنينها واستقرار مصطلحاتها، فبرز علماء لها أثرهم الواضح وبصمتهم البلاغية- النقدية في تاريخ البلاغة، فكان لمؤلفات عبد القاهر الجرجاني (471هـ) الأثر الكبير في استقرار مصطلحات ومفاهيم بلاغية التي أكدّ فيها على دور المخاطب، ثم اعقبته مرحلة الاستقرار والاجترار عند السكاكي (ت626هـ) في كتابة المشهور (مفتاح العلوم)().
وهناك من يرى ان البلاغة بعد السكاكي وصلت مرحلة الجمود والانحسار التي استبدت بآراء منطقية، فالمرحلة التي تلتها لشرّاح المفاتيح التي وُسمت بالتلخيصات لم تقدم إضافة جديدة تُحسب في تاريخ البلاغة، الى ان وصلنا الى بدايات القرن العشرين حتى بدأت البلاغة تدخل في مضامين جديدة وتنضوي تحت علوم حديثة، فارتبط مفهومها بمنهج نقدي سُمي بـ(الاسلوبية) ومرة رُبطت بعلامات سيميائية ومن هنا قادها الى الوصل مع لسانيات النصّ والحجاج.
هذا ما أطلق عليه بـ(الموضة الأكاديمية) التي تجذب الأبصار وتغوي العقول().
وخلال تلك المداخلات النقدية التي أُدخلت فيها البلاغة، حاول أحدّ النقاد البلاغيين العرب ان يضع البلاغة في دائرة جديدة وسمها بـ(البلاغة العامة)()التي تحتضن مختلف أنواع البلاغات من (القرآنية والأدبية والإنشائية) فأمدتها بآليات الاشتغال مع الحفاظ على خصوصية مقوماتها ومميزاتها، حيث التفاعل التخييل بالتداولي الحجاجي لذا نراه يصرّح بقوله:
((بذل بلاغيون محدثون كبار جهدًا فلسفيًا ومخبريًا ان صّح التعبير، في بيان مدى صلابة الأساس العلمي لقيام بلاغة عامة بوصفها علمًا كليًا يستوعب ثمار اللسان وعلوم الإنسان))().
ومن هنا، فالناقد محمد العمري يرى ان البلاغة هي العلم الذي يتناول الخطاب الاحتمالي المؤثر تخييلاً أو تداولاً أو هما معًا، وقولنا تخييلاً أو تداولاً صيغة أخرى لقولنا بمناسبة قراءة التراث، مناسبة أو إغرابا أو هما معًا().
ولذلك أوجد مفاهيم كثيرة ومتعددة تنضوي تحتها البلاغة سمّاها مرة ((البلاغة العامة)) وتارة “النسق المصطلحي” وأخرى ((الخريطة النصّية))().
ومن هذا المنطلق أخذ الباحث الناقد د. عماد عبد اللطيف على عاتقه إيجاد مصطلح بلاغي يشمل بلاغة المخاطب أطلق عليه ((بلاغة الجمهور))() وقصد بها المخاطب ورود أفعالِهِ التي ينتجها المستمع إثناء تلقيه الخطاب الأصلي الذي يستهدف خدمة المتكلم؛ فهو عنده الخطاب الموازي اللغوي وغير اللغوي الذي ينتجه ويلقيه في وجه المتكلم ليؤثر فيه ويضطره لتحيين خطابه, ومن ثم الاستماع إلى خطاب مضاد يعكس وجهه السلطوي الخفي أمام ذاته، وفي دائرة محيطة وما يتجاوزها، أي سلطة الخطاب الأصلي الذي تنتجه السلطة الحاكمة في مقابل سلطة الجمهور، وهو بدوره في زمن استجابات يشكل قوة مضادة وبنفس القدر ينتج معان ومواقف وآراء وتوجيهات ويسعى لنشرها وفرضها..()
ويرى د. عماد عبد اللطيف ان مفهوم “بلاغة الجمهور”يمثلُ حقلاً معرفيًا، ينضوي تحته كم هائل من مادة البحث وعددًا لانهائيًا من الموضوعات، تشمل هذه الموضوعات الظواهر المرتبطة بالإقناع والتأثير في الاستجابات التي ينتجها الجمهور في فضاءات مختلفة، فمصطلح “بلاغة الجمهور” هو الحقل المعرفي الذي يدرس العلاقة بين هذه الاستجابات والسلطة والخطاب من ناحية أخرى وتطوير هذه الاستجابات لتكون استجابات بلاغية على تنوع هذه الاستجابات سواء أكانت لفظية أم غير لفظية، فردية أم اجتماعية مكتوبة أم مسموعة أم مرئية، ويمكن القول ((حيثما وجدت استجابة جماهيرية، وجدت بلاغة الجمهور، بوصفها مادة، وحيثما مارست استجابات الجمهور من منظور الإقناع والتأثير وجدت بلاغة الجمهور بوصفها علمًا))().
وفي هذا الصدد ميّز الدكتور عماد عبد اللطيف بين ثلاثة انواع() من استجابات الجمهور هي:
(1) الاستجابة الآنية المباشرة.
(2) الاستجابة الآنية غير مباشرة.
(3) الاستجابة اللاحقة.
أما الموضوعات التي تُدرس ضمن إِطار بلاغة الجمهور هي()
الخصائص اللغوية والبلاغية للخطاب غير السلطوي.
الأغراض التي يسعى الخطاب غير السلطوي لتحقيقها والاستراتيجيات والتقنيات التي يوظفها لتحقيق هذه الأغراض.
أثر نوع الخطاب (ديني- سياسي) والسياق إلى ينشأ فيه، وطبيعة العلاقة بين المتكلم والمخاطب مثل (حاكم، محكوم، واعظ، متدين)
دور المخاطب في عملية الاتصال.
أنواع المخاطب (نصيّ، فعلي).
طبيعة استجابة المخاطب (لفظية- غير لفظية، مباشرة، غير مباشرة).
بعد كل ما عُرض نفهم أن مصطلح “بلاغة الجمهور” يحيلُ على مفاهيم كثيرة، منها ما يشيرُ الى نسق محدد من الأفكار والتصورات والإجراءات التحليلية تشمل مناهج مختلفة منها الأسلوبية والبنيوية التكوينية والمناهج النفسية، أما الرؤية الثانية فتربط في التمييز بين المناهج الكمية