أثر الاشتقاق في التفسير قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ أنموذجًا
أ. د نجاح فاهم العبيدي
قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29].
تشكِّل متوالية ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ وقفةً استفهاميَّةً لدى متلقي الخطاب القرآني، تحتاج إلى إعمال فكْرٍ وكدِّ نظر على مستوياتٍ متعدِّدة منها: ماهيَّة الروح ومكنونها، ونسبة النفخ إلى الذات المقدَّسة، ومعنى التبعيض من الروح المضافة إلى واجب الوجود، الذي يظهر من حرف المعنى (من)، فكل ذلك كان يُشكِّل عقباتٍ معرفية تواجه تلقي مستقبل الخطاب القرآني، ومن هنا كان لا بدَّ من الإبانة عن المقاصد التي تكتنف هذه الكيفية، بحيث ينجلي الغموض عن مستوياتها اللغوية والمعرفية .
وممَّن تصدَّى لتحليل هذه الآية الكريمة من الخطاب القرآني هو أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) (ت: 148 هـ)، وذلك في محطَّاتٍ متعدِّدة منها: ما قاله في جوابٍ لسؤالٍ ورد عن هذه الآية الكريمة، وذلك في قوله: ((إِنَّ الرُّوحَ مُتَحَرِّكٌ كَالرِّيحِ؛ وإِنَّمَا سُمِّيَ رُوحًا لأَنَّه اشْتَقَّ اسْمَه مِنَ الرِّيحِ، وإِنَّمَا أَخْرَجَه عَنْ لَفْظَةِ الرِّيحِ؛ لأَنَّ الأَرْوَاحَ مُجَانِسَةٌ لِلرِّيحِ، وإِنَّمَا أَضَافَه إِلَى نَفْسِه؛ لأَنَّه اصْطَفَاه عَلَى سَائِرِ الأَرْوَاحِ كَمَا قَالَ لِبَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ بَيْتِي، ولِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ خَلِيلِي وأَشْبَاه ذَلِكَ، وكُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مُحْدَثٌ مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ))() .
فالإمام الصادق (عليه السلام) استعان بوسيلة الاشتقاق اللغوي من أجل الكشف عن ماهيَّة الروح، فأبان الأصل الذي اُشتقت منه وعلة ذلك الاشتقاق، فالأصل اللغوي هو الريح، وإنَّما اُشتُقَّ منه للمشابهة والمجانسة مع الريح، وأمَّا الإضافة إليه سُبحانه فهي للاصطفاء القاضي بالتشريف والتكريم على من سواه، ولتأكيد هذا المعنى ضرب أمثلةً له من قبيل بيتي وخليلي . أمَّا معنى التبعيض من الذات المقدَّسة فهو مرفوض تمامًا؛ لأنَّ هذه الروح، وهي روح آدم (عليه السلام) مخلوقة، مصنوعة، محدثة، لها ربٌّ يُدبِّرُ أمرها بخلاف الذات المقدَّسة التي لا يجوز عليها شيء من ذلك .
أمَّا عن المجانسة بين الريح والروح، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام) في موضعٍ آخر: ((الريح، هواء إذا تحرك سُمِّي ريحًا، فإذا سكن سُمِّي هواء وبه قوام الدنيا، ولو كفَّت الريح ثلاثةَ أيامٍ لفسد كلُّ شيءٍ على وجه الأرض ونتن؛ وذلك أنَّ الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كلِّ شيء وتطيبه، فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]))() .
فوجه المجانسة في ((أنَّ الروح متحركٌ سريعًا في جميع أجزاء البدن، ويجري آثاره في تجاويف أعضائه فيصلح البدن ويحيى ما دام فيه، كما أنَّ الريح متحركٌ سريعًا في أقطار العالم، ويجري آثاره فيها فيصلح العالم بجريانه ويموت بفقدانه، فالروح بهذا الاعتبار يشابه الريح فيكون منفوخًا كالريح))() .
فعن طريق بيان الأصل الاشتقاقي استطاع الإمام (عليه السلام) أن يُفسِّر صفةَ الروح بما يتلاءم ومعطيات الفهم في ذلك العصر، وتمَّ له ذلك بعد أن أرجعها إلى أصلها اللغوي (الريح)، ثمَّ من طريق المشابهة استطاع أن يصوغ فهمًا للروح نستطيع أن نوجزه بالقول: إنَّ الروح شيءٌ خفيٌّ متحركٌ داخل في كلِّ جزيئات الجسم به قِوام الحياة.
وهذا البيان الاشتقاقي قد أكَّده علماء اللغة في معجماتهم، ومن جملة ما قالوا فيه: ((رَوَحَ، الرَّاءُ وَالْوَاوُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ كَبِيرٌ مُطَّرِدٌ، يَدُلُّ عَلَى سَعَةٍ وَفُسْحَةٍ وَاطِّرَادٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ الرِّيحُ . وَأَصْلُ الْيَاءِ فِي الرِّيحِ الْوَاوُ، وَإِنَّمَا قُلِبَتْ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا . فَالرُّوحُ رُوحُ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيحِ، وَكَذَلِكَ الْبَابُ كُلُّهُ . وَالرَّوْحُ: نَسِيمُ الرِّيحِ، وَيُقَالُ: أَرَاحَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَنَفَّسَ، وَهُوَ فِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَيُقَالُ أَرْوَحَ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ: تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ، وَالرُّوحُ: جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، قَالَ اللَّهُ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ): ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193] . وَالرَّوَاحُ: الْعَشِيُّ; وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِرَوْحِ الرِّيحِ، فَإِنَّهَا… فِي الْأَغْلَبِ تَهُبُّ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَرَاحُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ مِنْ لَدُنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى اللَّيْلِ، وَأَرَحْنَا إِبِلَنَا: رَدَدْنَاهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ))()، والريحُ: نسيم الْهَوَاء، وَنسيم كلِّ شَيْء، وَهِي مُؤَنّثَة()، ((ويوم راح، وليلة راحة . وتقول: هذه ليلة راحه، للمكروب فيها راحه، وريح الغدير: ضربته الريح، وغصن مروح… وطعام مرياح: نفاخ يكثر الرياح في البطن واستروح السبع واستراح: وجد الريح، وأروحني الصيد: وجد ريحي، وأروحت منه طيبًا، وأروح اللحم وغيره: تغيَّر ريحه، وأراح القوم: دخلوا في الريح))().
أمَّا عن مفهوم (النفخ) فإنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) يُوضِحه في حوادثٍ تفسيريَّةٍ أُخرى منها: قوله: ((خلق خلقًا وخلق روحًا، ثمَّ أمر الملك فنفخ فيه، وليست بالتي نقصت من الله شيئًا، هي من قدرته تبارك وتعالى))() .
أي إنَّ النفخ كان بواسطة ملك من الملائكة، وهذا يتناسب مع المعنى الحقيقي لمفهوم النفخ الذي يقتضي بثَّ شيءٍ في شيءٍ، ويؤكِّد هذا المعنى الإمام الباقر (عليه السلام) (ت: 114 هـ) فيما روي عن محمد بن مسلم قوله: ((سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله () : ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ قال: روح اختاره الله واصطفاه وخلقه إلى نفسه وفضَّله على جميع الأرواح، فأمر فنفخ منه في آدم))().
ثمَّ إنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكِّد في رواياتٍ كثيرةٍ على نفي معنى التبعيض من حرف المعنى (من)، وممَّا جاء بهذا المعنى ما ورد ((عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ عَنِ الأَحْوَلِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) عَنِ الرُّوحِ الَّتِي فِي آدَمَ (عليه السلام) قَوْلِه: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ قَالَ هَذِه رُوحٌ مَخْلُوقَةٌ لِلهِ، والرُّوحُ الَّتِي فِي عِيسَى مَخْلُوقَةٌ لِلهِ))()، ومن ذلك أيضًا ما ورد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ((قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَمَّا يَرْوُونَ أَنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه؟ فَقَالَ: هِيَ صُورَةٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، واصْطَفَاهَا اللَّه واخْتَارَهَا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ فَأَضَافَهَا إِلَى نَفْسِه كَمَا أَضَافَ الْكَعْبَةَ إِلَى نَفْسِه والرُّوحَ إِلَى نَفْسِه فَقَالَ: (بَيْتِيَ) ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾))() .