التفكير الناقد ودوره في عملية التدريس الجامعي
التّفكير من الموضوعات التي أثارت العلماء والباحثين، حتى باتَ من أكثر الموضوعات دراسة وبحثًا في مجال التعليم، وتبرز أهميته بنحو عام في حياة الإنسان وفي عملية التّدريس بنحو خاص، فهو عملية يُنظّم بها العقل خبراته، ومعلوماته، ومعارفه، بطريقة مختلفة كحلّ مشكلة معينة، أو إدراك مشكلة جديدة، والتفكير ينتمي إلى أعلى مستويات التنظيم المعرفي، وبه يصبح التدريسي أكثر قدرة على مواجهة الصعوبات والمشكلات التعليمية وغيرها من المشكلات، التي تعترض سبيله في العملية التدريسية. 
والتفكيرُ مسألةٌ لها مكانة رئيسة في تدريس العلوم كافة، وهو من أهم الصفات التي تميّز التدريسي في الجامعة، فحاجته إلى التفكير أمر مهم يلازمه في العملية التدريسية؛ لأنَّ مهمة التفكير تكمن في إيجاد حلول مناسبة للمشكلات النظرية والعملية المُلحّة التي يواجهها التدريسي في عمله وتتجدد باستمرار، فالتفكير يمثل عملية ذهنية نشطة ومتواصلة يقوم بها التدريسي ما دام عقله يعمل، ممّا يدفعه للبحث عن طرائق وأساليب جديدة تُمكّنه من تجاوز الصعوبات والعقبات التي تبرز، ويحتاج لاتخاذ قرار ما نحو هدف تربوي يريد تحقيقه، ويتيح له ذلك فرصًا للتقدم والارتقاء (السلمان، 2008).
         وإنَّ التفكير يختلف بحسب اختلاف نوع المهمة المراد التفكير بها، فهناك تفكير ناقد يعمل على تقييم مصداقية أمور موجودة، ويقبل الموجود، ولا يعمل على تغييره، ويتحدد بالقواعد المنطقية، ويمكن التنبؤ بنتائجه، وهذا التفكير لا يقل أهمية عن أيّة حركة يُؤَديها أي عضو في جسم الإنسان، كالمشي، والوقوف، والجلوس، وتحريك اليدين، والقدمين، وهو مطلب طبيعي للإنسان يساعده على الاستمرار في حياته (سويد، 2003).
        والتفكير الناقد أحد أبرز أنماط التفكير التي تسعى الكليات التربوية إلى تعليمه، وهو نشاط عقلي يصف الكيفية التي يكون التفكير بها، وتعلّمه يعني أحد أمرين هما: تعلم الاستفسار أي متى يكون السؤال، وما ينبغي أنْ يُسأل، وتعليم التفسير، ومتى تُستخدم الأسباب، وما طرائق التفسير التي ينبغي أنْ تُستخدم (عصر، 1999).                                                                                                                        
       وقد ساد التفكير الناقد العلوم والآداب والثقافات الإنسانية كافة، حتى كان النقد يعلّم في المدارس والجامعات في حقل اللغة العربية وعلم مصطلح الحديث الشريف، وقد ظهر في ظل المنهج الإسلامي النقدي والتجريبي مئات العلماء والمفكرين في مجالات المعرفة المختلفة، وقد سلك علماء الحديث الشريف طريقًا واضحًا قائمًا على التفكير الناقد، إذ درسوا أسانيد الأحاديث (سلسلة رواتها)، وأحوال رجالها كما درسوا متونها، وعرضوها على آيات القرآن الكريم؛ ليتحققوا من عدم معارضتها، ولم يقبلوا الروايات على حالها، فميَّزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها، وأبعدوا عنها الأقوال الضعيفة، وبيَّنوا الأقوال الموضوعة على رسول الله ، ونبَّهوا المسلمين إلى أخطارها وأبعدوها عن الدين، فحفظوا بجهودهم هذه السنة النبوية من التحريف (ريان، 2011). 
       ويتضمن التفكير الناقد مهارات متعددة منها: مهارة التنبؤ بالافتراضات، ومهارة التفسير، ومهارة الاستنباط، ومهارة الاستنتاج، ومهارة تقييم المناقشات، ممّا يدعو إلى ضرورة أنْ تسعى المناهج الحالية إلى إكساب مهارات الاستنباط، والاستنتاج، واختبار الفرضيات، وتقييم المواقف التعليمية، والتنبؤ بالحلول الممكنة دون أن يكون هنالك تحيز في الحكم على النتائج المستخلصة(عفانة، 1998).                                     
ومهارات التفكير تتطلب استراتيجيات تهدف إلى بناء روابط بين المعرفة الجديدة والمعرفة السابقة، مما يسهم في تنمية المهارات ما وراء المعرفية التي تتيح ضبط التفكير، أو ما يُعرف بـ “تعلم التعليم”. هناك علاقة وثيقة بين التفكير والتعلم، حيث تتضمن أساليب التعلم بُعدين رئيسيين: الأول هو الإدراك الذي يشمل عمليات التفكير، والثاني هو معالجة المعلومات، الذي يعبر عن الطريقة التي يتبعها الفرد لمعالجة المعلومات منذ لحظة استقبالها وحتى تخزينها.     
 وتُعدّ القدرة على التفكير الناقد متطلبًا رئيسًا لجميع فئات المجتمع، إذ إنَّ الفرد الذي يمتلك هذه القدرة يكون مستقلًا في تفكيره، ومراقبًا له، ومتحررًا من التبعية، ولمهاراته أهمية تعود على التدريسيين، فهي تساعدهم على معرفة أنماط التعلّم المختلفة واستخدامها في العملية التعليمية والتعلّمية، وزيادة دافعيتهم ونشاطهم للعمل، والتخلص من الطرق التقليدية التي تعتمد على الإلقاء، وجعل عميلة التّدريس عملية تتصف بالإثارة والمشاركة والتعاون بينهم وبين الطلبة (سعادة، 2009). 
      ويُعدُّ التفكير الناقد المفتاح لحلّ المشكلات اليومية التي تواجه التدريسيين، فإذا لم يستخدم هؤلاء التدريسيون التفكير الناقد يصبحون جزءًا من المشكلة، وعادة ما يتعرض التدريسيون لمواقف يضطرون فيها لصنع القرارات الحاسمة، والتكيّف مع هذه المواقف الجديدة، وتحديث المعلومات بشكل مستمر، هو المبرر للتفكير الناقد (علي،2011).
وقد يكون التدريسيون مهتمين بتدريس مهارات التفكير المختلفة، مع تدريس ما تحتويه المناهج الدِّراسيّة من معلومات، إذ يمكن القيام بكلا الأمرين إلّا أنَّه في الماضي يُركّز التدريسيون في تدريسهم على محتوى المنهج التعليمي سواء أكان منهج اللغة العربية، أم التاريخ، أم الفيزياء، أم الجغرافيا، أم غيرها، على الرغم من أنَّ التدريسيين قد يدّعون بأنَّهم يدرّسون طلبتهم كيف يفكرون إلّا أنَّ معظمهم يقول: إنَّ ذلك يجري على نحو غير مباشر، أو ضمني أثناء تدريسهم محتوى المادة، وقد أخذ التربويون يشكّكون أكثر فأكثر في فاعلية تدريس مهارات التفكير بهذه الطريقة؛ ذلك أنّ معظم الطلبة لا يكتسبون حقًا مهارات التفكير المرادة، ممّا جعل كثيرًا من التدريسيين يهتمون بشأن تدريس هذه المهارات بطريقة مباشرة ( فشر، 2011).     
  وهناك خصائص عديدة من المفترض أنْ تكون متوافرة في التدريسي الجامعي؛ لكي يـقوم بأدواره بنجاح من أهمها الخصائص العقلية، فالتدريسي الناجح هو الذي لديه مهارات عالية في التفكير العلمي، والتفكير الإبداعي، وحلّ المشكلات، والتحليل، والقدرة على التكيف مع الظروف الحالية، والمرونة في معالجة واتخاذ القرارات، فضلًا عن التفكير الناقد (دافيدوف، 2003).                      
         إنَّ نقطة البداية تتمثل في تنمية التدريسي ذاته، وتهيئتها، وتزويدها بالمعارف، والمهارات، والاستراتيجيات الضرورية؛ لتعليم التفكير الناقد سواء أكان يمتلكها فيُنَمّيها، أم لا يمتلكها فيجري مساعدته على اكتسابها، وقبل ذلك تنمية ميول واتجاهات إيجابية لديه نحو تعلّم وتعليم هذا النوع من التفكير، ممّا يسهم في صقل مهاراته، والارتقاء بقدراته في التحول في أساليبه التدريسية من الطرق التقليدية المعتمدة على الحفظ، أو التلقين إلى طرائق أكثر حداثة ذات منحنى توجيهي تطبيقي تعزز قدرة الطلبة الذاتية على الاستكشاف، والتحليل، ومواصلة الاطلاع في إطار من التعاون، والتنسيق، والتفاعل مع الآخرين؛ ليتمكن التدريسي من الأخذ بأيدي الطلبة نحو الهدف المنشود، ويُنمّي في داخلهم حب التعلّم وفضول الاستطلاع والسؤال، كل هذا يوفره التدريسي إذا كان يمتلك مهارات التفكير الناقد التي تجعل الطلبة ينظرون لِمَا حولهم بنظرة ثاقبة شاخصة ناقدة لا تتقبل الموجود كما هو، بل تحاول التعرف عليه قدر الإمكان (علي، 2011). 
وفي ختام هذا المقال نرى أنَّ شريحة التدريسيين في الجامعات هي عامل فعّال وبارز في المجتمع ومسألة امتلاكهم لمهارات التفكير الناقد وممارستهم لها، أمر مهم للغاية لِمَا له من تأثير في طلبتهم إيجابًا وانعكاس ذلك على العملية التعليمية في الجامعات العراقية، ونظرًا لأهمية التّفكير الناقد في التّدريس، فالجامعات هي المسؤولة عن إيجاد التدريسي القادر على مواجهة التّحديات، وتحمّل المسؤولية، واتخاذ القرار، وبناء الشخصية المتكاملة القادرة على البناء والمشاركة في مجتمع تسوده روح الديمقراطية، ممّا ينعكس في تنمية قدرة الطلبة على التفكير، إذ يساعدهم على التغلب على مشكلات الحياة التي تواجههم وعلى زيادة تحصيلهم الدّراسي، مثلما أنَّ التوجهات المعاصرة للعملية التعليمية، في كثير من بلدان العالم تعطي اهتمامًا كبيرًا للأستاذ الناقد، وتجعله أساسا يساعد على تعليم الطلبة مهارات التفكير الناقد، الأمر الذي يسهم في إعداد طلبة قادرين على التأقلم في مجتمع دائم التغيّر، وقادرين على حلّ المشكلات، وإصدار الأحكام، واتخاذ القرارات المناسبة. 
قائمة المراجع  
دافيدوف، ليندال (2003). مدخل إلى علم النفس (سيد الطوب محمود عمر، ونجيب حزام، مراجعة وتقديم، فؤاد أبو حطب، مترجم). ط4 ، القاهرة: الدار الدولية للنشر والتوزيع.
ريان، محمد هاشم (2011). التفكير الناقد والتفكير الإبداعي. الكويت: مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع.
سعادة، جودت أحمد (2009). تدريس مهارات التفكير. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع.
السلمان، ميثم (2008). التفكير. ط2، بيروت: مؤسسة أحمد للمطبوعات.
سويد، عبد المعطي (2003). مهارات التفكير ومواجهة الحياة. العين: دار الكتاب الجامعي.
عصر، حسني عبد الباري (1999). الفهم عن القراءة، طبيعة عملياته وتذليل مصاعبه. مصر: مركز الإسكندرية للكتاب.
عفانة، عزو (1998). مستوى مهارات التفكير الناقد لدى طلبة كلية التربية بالجامعة الإسلامية بغزة، مجلة البحوث والدّراسات التربوية الفلسطينية، 1 (1) 41-49.
علي، رفاه مهدي (2011). التفكير الناقد وعلاقته بأساليب التعامل مع الضغوط النفسية لدى معلمي كربلاء. رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة كربلاء، كربلاء المقدّسة.
فشر، ألك (2011). التفكير الناقد (وفاء العي، مترجم). العين: دار الكتاب الجامعي.                                                                                      

شارك هذا الموضوع: