المحاضرة الخامسة (حذف عامل المنادى)
هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي
– قال سيبويه: ((وذلك قولك: أخذته بدرهم فصاعِدًا، وأخذتُه بدرهم فزائِدًا. حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه؛ ولأنّهم أَمِنوا أن يكون على الباء، لو قلت: أخذتُه بصاعِدٍ كان قبيحًا؛ لأنّه صفةٌ ولا تكون في موضع الاسم، كأنّه قال: أخذتُه بدرهم فزادَ الثمنُ صاعِدًا، أو فذَهَبَ صاعِدًا.
ولا يجوز أن تقول: وصاعِدٍ؛ لأنّك لا تريد أن تُخبر أن الدرهم مع صاعدٍ ثمنٌ لشيء، كقولك: بدرهمٍ وزيادةٍ، ولكنّك أخبرت بأدنى الثمن فجعلته أوّلًا، ثمّ قروت شيئا بعد شيء لأثمانٍ شتّى. فالواو لم تُرِدْ فيها هذا المعنى، ولم تُلْزِم الواو الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر. ألا ترى أنّك إذا قلت: مررتُ بزيدٍ وعمرٍو، لم يكن في هذا دليلٌ أنّك مررت بعمرٍو بعد زيد. وصاعِدٌ بدلٌ من زادَ ويزيدُ.
وثمّ بمنزلة الفاء، تقول: ثمّ صاعدا، إلّا أنّ الفاء أكثر في كلامهم)).
الأساليب العربيّة التي تعرض سيبويه لتحليلها ولا سيما تلك الأساليب التي يظهر فيها ما سمّيناه: (الاستغناء، أو الاكتفاء، أو الحذف، أو المضمر) وهو يعبّر عنه بعبارة: (هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي)، لاحظوا أعزائي عبارة (إضمار الفعل المتروك إظهاره) بمعنى أنّ هذا الفعل مستغنى عنه، وأنّه لا حاجة إلى إظهاره في الكلام، وهكذا جاءت العادة في استعمال مثل هذه الأساليب في محاورات الناس اليومية أو في المناسبات، أو نمط من التعبير، ومعنى (في غير الأمر والنهي) أنّه في الأسلوب الخبريّ، أي: إنّ سيبويه هنا يستعرض طائفة من الأساليب الإخباريّة التي جاء فيها الفعل محذوفًا أو كما يعبّر هو عنه (مضمرًا) أو (متروكًا إظهاره)، فيمثّل، وهذه هي طريقته بعد أن يسوق عنوان الباب يبدأ بالأمثلة وليس بالقاعدة أو تقرير القاعدة، بل يبدأ بالأمثلة، فهو يتناول أساليب العرب ليشرحها للطلبة الدارسين للعربيّة ومن أجل أن يتفطنوا إلى أنماطها وإلى صيغها وإلى فهم المقصود بها، فيمثّل لـ(ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي) ويقول: (وذلك قولك)، هو في الواقع هذا كلام للعرب في حياتهم اليوميّة ومن العبارات التي تتوارد في عمليّات البيع والشراء، وما إلى ذلك، ولكن هو يقول للمخاطب: (وذلك قولك)، بدل أن يقول (وذلك قولهم).
(أخذته بدرهم فصاعِدًا)، أي: اشتريت هذه البضاعة، أو هذه السلعة، أو هذا الشيء بدرهم فأكثر، أي: إنّ الحدّ الأدنى هو الدرهم، وقد يكون أزيد من ذلك، و(وأخذتُه بدرهم فزائِدًا)، فكلمة (زائد) هنا مرادفة لكلمة (صاعد).
(حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه)، أيّ فعل يتحدّث عنه سيبويه هنا؟، يتحدّث عن الفعل الذي نصب به اسم الفاعل (صاعد، أو زائد)، ولاحظوا أنّ هذا الاسم المنصوب نكرة وليس معرفة، وقع بعد جملة فيها: (فعل، وفاعل، ومفعول به وهو الضمير، وجارّ ومجرور متعلّق بالفعل)، ثمّ جاءت كلمة (فصاعدا، فزائدا) منصوبة، ولكن ليس بالفعل (أخذته)، وإنّما بفعل يقدّره النحويّون، وقد حذفه العرب في هذه العبارة استغناءً عنه، فقال سيبويه: (حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه).
(ولأنّهم أَمِنوا أن يكون على الباء)؛ لأنّ العرب أَمِنوا أن يكون الاسم متأثّرا بالباء التي اتّصلت بكلمة (درهم)، فقال: (أَمِنوا أن يكون على الباء)، يعني أنّ الباء لا يمكن أن تكون جارّة لكلمة صاعد، والفاء هنا ليست عاطفة حتّى يكون تفسير الكلام: بدرهمٍ وصاعدٍ، فلا معنى للعطف هنا، فقال: (لأنّهم أَمِنوا أن يكون على الباء)، أي: كلمة (صاعد) ليست واقعة تحت تأثير (الباء) التي جرّت كلمة (درهم).
(لو قلت: أخذتُه بصاعدٍ كان قبيحا؛ لأنّه صفة ولا تكون في موضع الاسم)، وراد بـ(الصفة) هنا (الحال)، و(الحال) ملازم للنصب، ولو كان أراد (النعت)، لكان نعتا مجرورا، كأن نقول مثلا: (أخذتُه بدرهمٍ جديدٍ، أو زائفٍ، أو مغشوشٍ)، لكنّ كلمة (صاعد) هنا ليست من صفات الدرهم، فالدرهم لا يصعد ولا ينزل، وإنّما السعر هو الذي يصعد وينزل، وهنا سيبويه يتسامح في استخدام (المصطلحات)، فقد استعمل (الصفة)، وأراد بها (الحال)، وهو يسمّي (الحال) في كثير من المواضع (صفة)؛ لأنّ الحال هو في حقيقته وصف لصاحب الحال، وصاحب الحال هنا ليس الدرهم؛ لأنّ الدرهم نكرة والحال لا تأتي من النكرة، وإنّما صاحب الحال هنا أيضا محذوف مع الفعل، (كأنّه قال: أخذتُه بدرهم فزادَ الثمنُ صاعِدًا، أو فذَهَبَ صاعِدًا)، فسيبويه هنا يحلّل العبارة على معناها الخفي غير الظاهر في اللفظ، على معناها الذي يحتمله اللفظ.
(ولا يجوز أن تقول: وصاعِدٍ؛ لأنّك لا تريد أن تُخبر أن الدرهم مع صاعدٍ ثمنٌ لشيء، كقولك: بدرهمٍ وزيادةٍ)، فكما قلت لكم إنّ (الفاء) هنا ليست حرف عطف، وإنّما هي استئنافيّة، فلا نقول: (وصاعدٍ)، فسيبويه يحرص على توضيح المعنى بحسب ما يقتضيه اللفظ، فهو يقول: (لأنّك لا تريد أن تُخبر أن الدرهم مع صاعدٍ ثمنٌ لشيء)، أي: إنّ الفاء ليست عاطفة، كما لو قلت: (بدرهمٍ وزيادةٍ).
(ولكنّك أخبرت بأدنى الثمن فجعلته أوّلًا)، وهو الدرهم، (ثمّ قروت شيئا بعد شيء لأثمانٍ شتّى)، أي: أتبعت، (فالواو لم تُرِدْ فيها هذا المعنى ولم تُلْزِم الواو الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر. ألا ترى أنّك إذا قلت: مررتُ بزيدٍ وعمرٍو، لم يكن في هذا دليلٌ أنّك مررت بعمرٍو بعد زيد)، فقد يكون المرور بهما سوية، أو متعاقبين، فليس بالضرورة أن يكون ثانيهما هو الأخير، كما جاء في القرآن الكريم: ((ربّ موسى وهارون)) أو (هارون وموسى)، فقدم هارون على موسى، و(موسى) هو النبيّ الأوّل، (ألا ترى أنّك إذا قلت: مررتُ بزيدٍ وعمرٍو، لم يكن في هذا دليلٌ أنّك مررت بعمرٍو بعد زيد وصاعِدٌ بدلٌ من زادَ ويزيدُ).
و(ثمّ) بمنزلة الفاء في العطف، تفيد الترتيب، وليست مثل الواو، (الواو) لا يشترط فيها أن ترتّب المعطوفات بحيث يكون الثاني بعد الأوّل، أمّا الفاء لا بدّ فيها من الترتيب فأنت تقول مثلا: (دخل زيد ثمّ عمرو)، معنى ذلك أنّ عمرو حضر بعد زيد، وتقول: (حضر زيد فعمرو)، يعني هذا أنّ زيدا قد حضر قبل عمرو، هذا ما تشترك فيه الفاء و(ثم) في الترتيب، لكن يقولون أنّ الفاء تفيد التعقيب و(ثم) تفيد التراخي، كما هو معلوم أو كما اعتاد النحويون أن يقولوا به، ولكن قطعا هذا ليس قاعدة مطردة؛ لأنّ (ثم) قد لا تفيد التراخي، وقد تفيد التراخي البعيد جدا، وكذلك الفاء قد تفيد مسافة زمنية طويلة بين الأمرين، أحيانا في التعبير القرآني نجد مثل هذا، لكن اعتاد النحويون أن يقولوا إنّ (ثم) تفيد التراخي وإنّ الفاء تفيد التعقيب، يعني بين المعطوف والمعطوف عليه.
سيبويه يقول: (وثمّ بمنزلة الفاء)، أي تفيد التوالي (تقول: ثمّ صاعدا، إلّا أنّ الفاء أكثر في كلامهم) يعني أخذته بدرهم فصاعدا، تقول أخذته بدرهم ثم صاعدا، يعني ثمّ زاد الثمن، أو ثمّ ذهب الثمن صاعدا، (إلّا أنّ الفاء أكثر في كلامهم)، وإن كنت أنا -الدكتور صاحب- شخصيا أعتقد أنّ الفاء هنا ليست للعطف ربّما تكون هذه القضية قد فاتت على سيبويه وهو ليس بالسهل أن تفوت عليه مثل هذه الأشياء، فالرجل نابغ ومدقق، ولا محالة أنّه راجع ما كتبه في الكتاب، لكن لم يَرِد شيئا من هذا في كلام العرب،… وعلى أية حال تبقى هذه المسألة موضع نقاش.
– قال سيبويه: (وممّا ينتصب في غير الأمر والنهي على الفعل المتروك إظهاره قولك: يا عبدَ اللهِ، والنداءُ كلُّه. وأمّا يا زيدُ فله عِلّةٌ ستراها في باب النداء إن شاء الله تعالى، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم هذا في الكلام، وصار [يَا] بدلاً من اللفظ بالفعل، كأنّه قال: يَا، أُريدُ عبدَ الله، فحذف أُريدُ وصارت [يَا] بدلاً منها؛ لأنّك إذا قلت: يا فلانُ، عُلم أنّك تُريده.
وممّا يدلّك على أنّه ينتصب على الفعل وأنّ (يا) صارت بدلا من اللفظ بالفعل، قولُ العرب: يا إيّاك، إنّما قلتَ: يا إيّاك أعني، ولكنّهم حذفوا الفعلَ وصار [يا، وأيَا، وأيْ] بدلا من اللفظ بالفعل
وزعم الخليل رحمه الله أنّه سمعَ بعض العرب يقول: يا أنت. فزعم أنّهم جعلوه موضع المفرد. وإن شئت قلت: [يا] فكان بمنزلة يا زيدُ، ثمّ تقول: إيّاك، أي: إيّاك أعني. هذا قول الخليل رحمه الله في الوجهين).
(وممّا ينتصب في غير الأمر والنهي على الفعل المتروك إظهاره قولك: يا عبدَ اللهِ)، هنا دخلنا في أسلوب آخر غير أسلوب الإخبار يقول هو: (في غير الأمر والنهي)، أي هو أسلوب إنشائي صحيح، وإن كان النحويّون في تأويلهم لأسلوب النداء يحولونه من أسلوب إنشائي إلى أسلوب خبري، وهذه مشكلة في الواقع جدليّة في تأويل النحويين لأسلوب النداء، فسيبويه هنا والنحويون عامة يرون أن المنادى في عبارة (يا عبدَ الله) منصوب بفعل تقديره (أنادي عبد الله)، وعبارة (أنادي يا عبد الله) هنا عبارة إخباريّة، في حين أنّ كلامنا حينما نقول: (يا عبد الله) لا نخبر أحدا، بذلك وإنّما ندعو عبد الله للالتفات أو الحضور، فهو في الواقع أسلوب إنشائي ولا علاقة له بالأسلوب الخبري، ولكن هكذا تأوّل النحويّون أسلوب النداء، كأنّما هو يقول: أنادي عبدَ الله.
يقول سيبويه: (والنداء كله) ما معناه أنه منصوب على فعل متروك إظهاره، لا يجوز إظهاره أبدا، أمّا إذا قلت: (أنادي عبد الله)، فهذا أسلوب آخر، هذا ليس نداء، أنت تخبر الذين بجنبك أنّك تنادي عبد الله، وعبد الله ليس موجودا ولا يسمعك، فإذا أردت مناداته تقول: (يا عبد الله)، ومعلوم أنّه ليس كلّ منادى منصوبا، فالمنصوب المنادى المضاف أو الشبيه بالمضاف أو النكرة غير المقصودة، أمّا إذا كان مفردا مثل: (عمرو، وزيد)، فهو يبنى على ما يرفع به، فتقول مثلاً كما في قوله تعالى: ((يا شعيبُ لنرجمنّك ومن معك))، وقوله: ((يا موسى إنّي لا يخاف لديّ المرسلون))، وقوله: ((يا نوحُ جادلتنا فأكثرت جدالنا))، ((يوسفُ أعرض عن هذا))، هذا كلّه منادى مبنيّ على الضمّ، لأنّه علم مفرد، والمفرد هنا ليس مقابلا للمثنّى والجمع، بل هو مقابل للمضاف.
(وأمّا يا زيدُ) هنا مبنيّ على الضمّ، يعني ليس منصوبا بفعل متروك إظهاره، لكن النحاة سيؤولونه على أنّه مبني على الضمّ في محل نصب، هم لماذا قالوا مبني ولم يقولوا مرفوع؟؛ لأنّ حركة الضمّ هنا حركة بناء؛ فالمنادى يجب أن يكون منصوبا؛ لأنّه في مفهومهم (مفعول به) لفعل محذوف تقديره (أنادي)، فهنا قال: (وأمّا يا زيدُ فله عِلّةٌ)، أي: بناؤه على الضمّ وليس منصوبا حتّى يدخل في مبحث الفعل المتروك إظهاره، ولو أنّ معترضا اعترض، وقال ما الشأن في كلمة (يا زيدُ) لم ليست منصوبة فهل هناك فعل معها أو لا، فـ(له علة ستراها في باب النداء إن شاء الله تعالى)، هو سيبحث باب النداء في سياق المنصوبات من المفعولات مثل: (المفعول المطلق، والمفعول لأجله، والمعول معه…).
(حذفوا الفعل)، أي في المنادى كما في: (يا عبدا الله) أو كما في قول الشاعر:
يا ركبا إما وصلت فبلغا……………..
يا كوكبا ما كان أقصر عمره وكذاك عمر الكوكب الأسحار
فالمنادى هنا منصوب كما ترون، لماذا؟ لأنّه نكرة غير مقصودة، وكذلك إذا كان مضافا، مثل: (يا عبدَ الله).
يقول سيبويه: (حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم هذا في الكلام، وصار [يَا] بدلاً من اللفظ بالفعل، كأنّه قال: يَا، أُريدُ عبدَ الله، فحذف أُريدُ وصارت [يَا] بدلاً منها؛ لأنّك إذا قلت: يا فلانُ، عُلم أنّك تُريده). هذا هو تقدير سيبويه لأسلوب النداء، وأنّه هناك فعل محذوف، طبعا لو كان لدينا متّسع من الوقت لناقشنا هذه المسألة باستفاضة وبيّنا أنّ هذا التأويل في الواقع في عبارة النداء الذي أوّله بها الخليل بن أحمد، هو تفسير معنى وليس تفسير إعراب، وسيأتي ربّما الكلام فيما بعد بهذا الخصوص، لكن ليس بالفهم الذي عبّر به سيبويه.
يقول سيبويه: (وممّا يدلّك على أنّه ينتصب على الفعل وأنّ (يا) صارت بدلا من اللفظ بالفعل، قولُ العرب: يا إيّاك، إنّما قلتَ: يا إيّاك أعني، ولكنّهم حذفوا الفعلَ وصار [يا، وأيَا، وأيْ] بدلا من اللفظ بالفعل).
و(ممّا يدلّك على أنّه)، أي: المنادى، (ينتصب على الفعل)، أي: الذي قدّره بـأدعو أو أريد، (وأنّ (يا) صارت بدلا من اللفظ بالفعل، قول العرب: يا إيّاك)، ونحن طبعا لم نسمع في شعر العرب: (يا إيّاك)، يقولون: يا هذا، ولا في القرآن الكريم وردت (يا إيّاك)، ولا نعتقد أنّ سيبويه يلفّق على العرب شيئا، لكن لا أدري هو سمع: (يا إيّاك).
(إنّما قلت يا إيّاك أعني) يعني بدل (أدعو) صارت (أعني)، وجعلها بعد (إيّاك)، لأنّ إيّاك ضمير نصب منفصل لا يجوز أن يتقدّم عليه الفعل، مثل قوله تعالى: ((إيّاك نعبد وإيّاك نستعين))، لو تقدّم الفعل، لصار ضميرا متّصلا، وصار: (أعنيك، وأريدك)، طبعا لا مانع من أن يقال: (أريدك، وأعنيك)، لكن مع النداء لا يمكن أن يكون الضمير المتّصل منادى، فيقول: (يا ك)، فهي لا تعني شيئا، فاضطروا أن يستخدموا ضميرا منفصلا ويقولون: (يا إيّاك)، ثمّ يقول: (ولكنّهم حذفوا الفعل) الذي هو (أعني)، (وصار يا وأيا وأيْ) طبعا (أيا) أسلوب آخر للنداء معه الهمزة (همزة التنبيه)، وكذلك (أيْ)، أسلوب نداء أيضا كما تعلمون، (بدلا من اللفظ بالفعل)، هذا هو تأويل سيبويه أو تفسيره لأسلوب النداء.
(وزعم الخليل رحمه الله أنّه سمعَ بعض العرب يقول: يا أنت. فزعم أنّهم جعلوه موضع المفرد. وإن شئت قلت: [يا] فكان بمنزلة يا زيدُ، ثمّ تقول: إيّاك، أي: إيّاك أعني. هذا قول الخليل رحمه الله في الوجهين).
(وزعم الخليل رحمه الله أنّه سمعَ بعض العرب يقول: يا أنت) طبعا هنا إشكاليّة؛ لأنّ (أنت) ضمير رفع منفصل، فكيف يقع في موضع المنصوب الذي هو المنادى؟، وقبل قليل مثّل بقول العرب (يا إيّاك)، كيف صار (يا أنت)؟، هو ورد بالشعر طبعا كما هو معلوم، مثل:
يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا أنت الذي طلقت عامَ جعتا
في شعر شعبيّ طبعا، يعني ممّا يقال: (في التندّر في المعابثة في الهجاء العابر إلى آخر ذلك)، فقال: يا أنت، يفترض أن لا يأتي ضمير الرفع المنفصل هنا بعد (يا) النداء؛ لأنّ (يا) النداء تقتضي أن يكون ما بعدها اسما منصوبا، وهنا يفترض أن يستخدم ضمير النصب (إيّاك أو إيّاي أو إيّاه)، ولكن بما أنّ النداء يوجّه إلى مخاطب، لنقول: (يا إيّاك)، (فزعم [الخليل] أنّهم جعلوه موضع المفرد)، أي: مع (يا زيدُ أو يا عمرو)، أي: المنادى المفرد، بدلا من أن تقول: (يا زيدُ، يا عمرو، يا خالدُ يا هذا)، كما ورد في التعابير العربيّة، قالوا: (يا أنت)، فجعلوا (أنت) موضع المفرد.
(وإن شئت قلت [يا]) تنادي تقول (يا) هكذا (فكان بمنزلة يا زيدُ)، يعني: (يا أنت)، فكأنّما هو بمنزلة (يا زيد)، ثمّ تقول: (إيّاك، أي: إيّاك أعني)، (هذا قول الخليل رحمه الله في الوجهين)، يعني وجه يأتي فيه بعد (يا) ضمير نصب منفصل، والوجه الآخر: أن يستخدم ضمير الرفع، كأنّما كان اسما ظاهرا.
– وفي السياق نفسه يستمرّ سيبويه في شرحه فيقول (ومن ذلك قول العرب: مَنْ أنت زيدًا، فزعم يونس أنّه على قوله: مَنْ أنت تذكرُ زيدًا، ولكنّه كثر في كلامهم واستعمل واستغنوا عن إظهاره، فإنّه قد عُلم أنّ زيدًا ليس خبرًا [ولا مبتدأ]، ولا مبنيًّا على مبتدأ، فلا بدّ من أن يكون على الفعل، كأنّه قال: مَنْ أنتَ، معرِّفا ذا الاسمَ، ولم يحمل زيدًا على مَنْ ولا أنتَ. ولا يكون مَنْ أنتَ زيدًا إلّا جوابًا، كأنّه لمّا قال: أنا زيدٌ، قال: فَمَنْ أنتَ ذاكِرًا زيًدا).
(ومن ذلك قول العرب)، أي: من أساليب حذف الفعل الذي ينصب مفعولا، أو ينصب اسمًا والفعل مضمر، طبعا هذا ليس نداء هنا، فقد ترك النداء، إنما قال: (من ذلك) أي: من أساليب حذف الفعل وإبقاء عمله في الاسم الذي يفترض أن يقع بعده، قال: (من ذلك قول العرب: مَنْ أنتَ زيدًا)، وفحواه كما ينقل عن يونس، فيقو: (فزعم يونس أنّه على قوله: مَنْ أنتَ تذكرُ زيدًا)، كما نقول: (ما شأنك وزيد)، وباللغة الدارجة نقول: (شجابك على زيد) في الفصيح يقولون: (مَنْ أنتَ زيدًا)، وهذا طبعا أسلوب مختصر كما ترون، فزعم يونس أنّ تفسيره: منَ أنتَ تذكرُ زيدًا)، ولكنّه، أي: هذا الأسلوب أسلوب الاعتراض أسلوب التنبيه، (كثر في كلامهم واستعمل واستغنوا عن إظهاره)، أي: عن إظهار الفعل، لاحظوا تكرار مصطلح (استغنوا)، أو (إضمار الفعل المتروك إظهاره) كما يسمّيه في عنوان الباب، فسيبويه حينما يعبّر عن فكرة، بعبارة (المتروك إظهاره)، بمعنى الذي حذف وجوبا لا جوازا، الذي لا يجوز التصريح به.
يقول: (واستغنوا عن إظهاره، فإنّه قد عُلم أنّ زيدًا ليس خبرًا [ولا مبتدأ]، ولا مبنيًّا على مبتدأ) كالتوابع، حتّى يكون مرفوعا، (فلا بدّ من أن يكون على الفعل) أي: النصب على الفعل، (كأنّه قال: مَنْ أنتَ، معرِّفا ذا الاسمَ)، أي: تتعرّض لهذا الاسم، (ولم يحمل زيدًا على مَنْ ولا أنتَ)، أي: لم يحمل المتكلّم زيدا على (مَنْ) حيث يكون خبرا لـ(مَنْ)، يعني: (منْ زيدٌ)، ولم يحمله على (أنتَ)، أي: أنت زيدٌ، وإنّما حمله على فعل محذوف تقديره (معرِّفًا، متحدِّثًا)، أو (تذكره بسوء)؛ لأنّ الذي يذكره بالخير لا يقال له: منْ أنتَ زيدًا، إنّما الذي يريد أن يذكره بسوء، يقال له ذلك، (ولا يكون مَنْ أنتَ زيدًا إلّا جوابًا، كأنّه لمّا قال: أنا زيدٌ، قال: فَمَنْ أنتَ ذاكِرًا زيًدا)، وليس زيدا هو الذي يقول أنا زيد، وإنّما أحدهم تحدّث عنه، فقيل له: فمَنْ أنْتَ ذاكرا زيدا.
(وبعضهم يرفع)، يعني بعض المتكلّمين وهذه طبعا لهجة لا محالة، فلا يمكن لابن اللهجة أن يتكلم في آن واحد بأسلوبين.