قريش وسيادتها على مكة
احتلت قريش أهمية كبيرة في الأخبار والروايات التاريخية سواء قبل الإسلام ام بعده ، لوجودها في مكة وما تحتله من أهمية في نفوس العرب ، وجود بيت الله الحرام الذي أصبح محج العرب ، وكانت هي سادنة الكعبة ، أما في الإسلام لارتباطها بنبيِّ الرحمة محمد       ( صلى  الله عليه وآله وسلم ) ، ولعلّ قريشاً لا تعرف في الجاهلية دار مقامة غير مكة وضواحيها (( إلا ما يشير إليه النسّابون من أن بعض بطونها استوطنت أقاليم أخرى خارج الحجاز، وانتمت إلى قبائلها، حتى نسي أصلها، أو كاد؛ كبنانة وعائذة، وسكنوا في بني شيبان، وبني جشم بن الحارث بن لؤي، وسكنوا في هزان من ربيعة، وبني ناجية، وسكنوا في عمان، وبني عوف بن لؤي وسكنوا في غطفان)) () .
ومن الجدير بالذكر أنَّ قريشاً انقسمت على قسمين كبيرين في عهد قصي : قريش الأباطح والظواهر ، (( وقسم ثالث من قريش ظلوا بداة جفاة ، وهم حرس قوافلهم الذين كان يتخذونهم من الأعراب ))() فهم ليس بأبطحية ولا ظاهرية .
إنَّ قُرَيش الأباطح ويُقال قريش البِطَاحِ() وهم بقية بطون قريش الصريحة الَّذين دخلوا مع قصي أَبَاطِحَ مَكَّةَ وسكنوا فيها إلاّ محارب بن فهر والحارث بن فهر وتيم الأردم بن غالب ومعيص بن عامر بن لؤي فهؤلاء يدعون الظواهر فأقاموا بظواهر مكة ، وقُرَيشُ الظَّواهِرِ الّذين لم يهبطوا مع قصي إلى الأباطح بل َنزِلوا مَا حَوْلَ مَكَّةَ إلا رهط أبي عبيدة بن الجراح ، نزلوا الأبطح فهم مع المطيَّبين  () ، وأشار إلى المطيبين البلاذري(ت 279ه ) فهم  ((  بنو عبد مناف، وأسد بن عبد العزى، وزهرة، وتيم بن مرة، والحارث بن فهر)) () ، فأمكن بذلك التأكيد على أن قريش البطاح والظواهر بما جسَّده الشاعر ذكوان () مولى عمر بن الخطاب للضحاك بن قيس الفهري وكان قصيراً وعندما (( ضربه الجلاد بسوط فجعل يتطاول لئلا يصيب السوط خاصرته فقال ذكوان :
تطاولَ لي الضّحّاكُ حتّى رددتّهُ
فَلَو شَهِدتْني مِنْ قُرَيشٍ عِصَابةٌ

 
إِلَى نسب فِي قومهِ متقاصرِ
قُرَيشِ البِطَاحِ لَا قُريشِ الظَّواهرِ)) ()

  إنَّ أهمية هذا التقسيم تكمن في تمثيله يُمثل الإطار الذي يُعبر عن منازل قريش وتحركاتهم في داخل مكة وخارجها ، ولكليهما أثر فاعل في تركيب قبيلة قريش وسكنهم ،لذا حينما (( حَازَتْ خُزَاعَةُ أَمْرَ مَكَّةَ وَصَارُوا أَهْلَهَا، جَاءَهُمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ كَانُوا اعْتَزَلُوا حَرْبَ جُرْهُمٍ وَخُزَاعَةَ، فَلَمْ يَدْخُلُوا  فِي ذَلِكَ، فَسَأَلُوهُمُ السُّكْنَى مَعَهُمْ وحَوْلَهُمْ، فَأَذِنُوا لَهُمْ ))()  ، وعلى وفق هذا الطرح المُتقدِّم فإنّ بني إسماعيل هنا في هذا النص هم( قريش ) ، وكانوا بيوت مُتفرقين في قومهم ، بعضهم نزل الشعب ( شِعب مكة ) أي بين أخشبي مكة، وبعضهم ظل يعيش خارج الشعب () .
  ولعلّ اعتماد قصي بن كلاب على هذا التقسيم بين الأباطح والظواهر (( جاء بما لاحظه وشاهده في بلاد الشام ايام حياته الأولى،  ولمس ما كان عليه أهل المدن من سكن في البيوت واستقرارهم فيها وتقدمهم الحضاري وحياتهم المتميزة عن حياة أهل البادية … فأراد أنْ يكون له ولبنيه من بعده مثل ذلك ، فنزل أبطح مكة وتمسك به وبنى الدور وانزل معه من قومه ما يعزّز ويدعم أمر ابنائه من بعده ويشد من أزرهم ويجعل  منهم عصبة قوية تحافظ على ما احرزه لهم من سيادة في مكة وإنْ من أنزلهم معه هم أقرب البطون من قريش اليه))() . 
  وبذلك فإنَّ الفضل يرجع (( لجمع قريش ، وجعلها قبيلة عزيزة الجانب ، عظيمة الشأن الى ذلك الرجل العظيم قُصي ، فقد جمع قريشاً من متفرقات مواضعهم من شبه الجزيرة العرب ، واستعان بمن أطاعه من أحياء العرب ، على حرب خُزاعة ، واجلائهم عن البيت ، وتسليمه الى قصي ، فكان بينهم قتال كثير ودماء غزيرة ، ثم تداعوا الى التحكيم ، فحكم بأن قصياً أولى بالبيت من خزاعة ، فولي البيت ، وجمع قومه من منازلهم الى مكة ، وتملك على قومه ، وأهل مكة ))() ، وقد استمر الحال على ما هو عليه حتى بعد وفاة قصي ولم تظهر عليه أي انقسامات إلاّ بعد أن (( ظهر التنافس بين أبنائه فأنقسم بطن بني قصي الى عدة أفخاذ ، وبذلك زادت تفرعات قريش فظهر بنو عبد مناف بن قصي ، وبنو عبد الدار بن قصي ، وبنو عبد العزى بن قصي، وبني عبد بن قصي ))() .
وبعد ظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم ازدادت الانقسامات بين آل قصي وتعددت منازلهم وعن ذلك قال أبن الكلبي (( تسمية قريش من انتهى إليه الشرف من قريش في الجاهلية فوصله بالإسلام ، عشرة رهط من عشرة ابطن وهم : هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم وعدي وجمح وسهم )) () وقد اعترف الجميع بتميّز فرع هاشم بن عبد مناف على بقية البطون في الفكر والقيم والشجاعة ، وكانت قبائل العرب والملوك يحترمونهم احتراماً خاصاً فحسدهم زعماء قريش وتحالفوا ضدّهم من زمن هاشم وعبد المطلب، ولا سيّما بني أمية إذ قيل للإمام علي ابن أبي طالب ( عليه السلام )(( أخبرنا عنكم وعن بني أمية : فقال بني أمية أنكر وأمكر وأفجر ، ونحن أصبح وأنصح وأسمح ))() .

شارك هذا الموضوع: