أين الأدب العربي القديم ؟
قراءة لمشكلة تلقّي الأدب العربي القديم في العصر الحديث
د. علي حاكم الكريطي
لقد أحس العلماء العربُ والنّقاد بضرورة وضع أحكام ، يهتدي بها الشعراءُ ، يعودون إليها إلى جانب ملكتهم الشعرية التي وهبهم إياها سبحانه وتعالى ، وقد جاءتْ هذه الأحكام نتيجة استقراء التراث الأدبي من قبل هؤلاء العلماء والنّقاد . وفي مكان ما من تلك القراءات وجدوا ثمة هوّة بين المتلقي والمبدع؛ إذ أخذ المبدعُ يجنحُ إلى مواضيع جديدة، فضلاً عن بناء جديد للقصيدة ، منها ما كان يتلاءم مع تغيّر الزمن ومنها ما كان مخلّاً بأدبية الأدب . وهنا وضَع النّقاد أحكامهم ليعينوا الأدباء على تجاوز مثل هذا الخلل. ومن جانب آخر فإنّ الخلل الذي يحصُل مع الأديب يحصلُ مثله لدى المتلقي؛ فجاء حديث النّقاد يخصُّ الأدباء تارة ، ويخصُّ المتلقين تارة أخرى .
ولتاريخ النقد الأدبي أهميّة كبيرة في بيان مواطن الخلل والضعف في الكشف عن العلاقة بين الأديب والمتلقي، فضلاً عمّا يقدمه لنا من توضيح الخصائص الفنّية والأسلوبية المتعلقة بالنصوص الأدبية ، ومدى اهتمام النّاس بهذه النصوص وابتعادهم عنّها. وقد أفدتُ من التراث الأدبي وما تطرق له النّقاد القدامى حول المشكلات التي وجدوها في الأدب القديم، والتي كان من أهمّها مشكلة القديم والحديث ؛ إذ اتّسعتْ هذه المشكلة في يومنا هذا حتى أصبحت الهوّة أوسع، فأخذتْ بالتوسّع حتى بدا الابتعاد عن أدبنا القديم جليّاً للعيان ، وبهذا اتّسعت الفجوة بين ثقافة اليوم وأدب الأمس، على الرّغم من أنّ التراث يمثل بناءً معرفيًّا شاملاً ، وجزءًا من منظومة الثقافة بصورة عامة . وترى الدكتورة يمنى العيد أنّ المشكلة الحقيقية التي تقفُ خلفَ العلوم الإنسانية هي أنّ العلوم الإنسانية غير ثابتة منهجيّاً ، إذا ما قورنت بمنهجية العلوم الطبيعية، ونحنُ نعلمُ أنّ الأدب صورة جليّة للعلوم الإنسانية ، ومشكلتنا اليوم مشكلة تواصل مع الأدب القديم ، هي في الحقيقة مشكلة منهج ثابت يستند إلى أصول منهجية ، تضعُ بين يدي القارئ الأدوات التي تُعينه على فهمِ النّصوص. وهنا سأتحدّث عن السّرقة ، بوصفها قضيّة كبيرة عند نقادنا القدامى ؛ إذ بدأوا بتكوين منهج ، يقفُ على آرائهم التي نتجتْ عن قراءاتهم الواعية للتراث ؛ ولأجل إحساسهم بما ستؤول إليه الثقافة فيما بعدُ تعصّبَ كثيرٌ من النّقاد القدامى إلى الشعر القديم ، ووقفوا موقفًا حازمًا من الشعر الحديث، ليس دفاعًا عن تعصّبهم للقديم ، بل لإدراكهم أنّ القديمَ بابُ الحديث.
ومن خلال النظر في المباحث المهمّة التي تطرّق لها النّقاد القدامى حول أهمية عودة الشاعر إلى التراث ؛ لُيصبح في قريض الشعر فحلاً ، فضلاً عن العودة إلى اللغة والنحو ومعرفة مناقب العرب ومثالبهم. ومن جهة أخرى أهمية تلك العودة بالنسبة للناقد ؛ ليكون قادراً على تلقي الشعر وفهمه ، وتحليله وتفسيره . والرجوع إلى كتب اللغة والنحو والصرف غير كافٍ ما لم يصاحبه رجوع إلى الأدب القديم ، الذي يمثّل مصداق هذه القواعد . وهذه مشكلة قد عاصرها من هو أقرب إلى ذلك الشعر ، فكيف بنا اليوم ؟ . وهذا البحثُ قراءة في نصوص النقاد الذين تنبّهوا إلى وجود مشكلة حقيقية في تلقي الأدب بصورة عامة ، والشعر بصورة خاصّة في زمانهم ، وعند النّظر إلى الجانب الذي تحدثوا عنه حينئذ نجده يتطابقُ – بوجوه عدّة – مع مشكلتنا اليوم في قراءة الأدب القديم .
وفي قضيّة السَّرقات ـــ مثَلًاـــ التي تطرّق لها النقّاد القدامى مثالًا يُعينُنا على معرفةِ أثرِ الأدبِ القديم بالحديث، وأنّ بابَ فهمَ الحديث ، مفتاحه القديم ، ويؤكّد ما نذهبُ إليه اختلاف النّظرة إلى قضيّة السّرقات أيام أبي تمام بين أنصار القديمِ والحديث، وصولاً إلى أيّام المتنبّي ، وما تلاه ، على الرّغم من اهتمام النّقاد منذ الأصمعي ( ت 216هـ) بهذه القضيّة بوصفها مفهوماً ، لا مصطلحاً قارّاً ، فتأتي أهمية هذه القضيّة من معرفة أصالة الأدباء ، ومدى اغراق نتاجهم في القِدَم . وهنا لا أريد تبيان الآراء التي قيلت في هذه القضية ، إلّا أنّ فكرة السّرقات نمَتْ وكبُرت مع أبي تمام ، أي حين أتَتْ الصورة الجديدة للقصيدة العربية ؛ إذ أحسّ النّقاد بضرورة الوقوف أمام هؤلاء المجددين محاولين بواسطة الوقوف على مواطن ضعفهم، من خلال اتّهامهم بالأخذ ، على الرّغم من دعوة النّقاد أنفسهم إلى ضرورة العودة إلى التراث والاستلهام من شاعرية القدامى ، والنّظم على إطار قصائدهم . وهنا أقول : إنّ قول النّقاد بالسّرقة إنّما يوحي بشكل أو بآخر إلى العودة إلى التراث ، وتبيّان مواطن السّرقة عند الشّاعر . وهنا لو قرأنا الأدب الحديث كما دعا القدامى ، سيتحتّمُ علينا العودة مع الأدب الحديث جيلاً قبل جيل لبيان مواطن الالتقاء بين الأدب الحديث ، وبين الأدب السابق له ، وصولاً إلى تراثٍ أقدم . وهذه القضيّة بابٌ نقدي أشار إليه النّقاد القدامى ، وهي بابٌ إذا ما دُخل إلى أدبنا اليوم منه ، يكون مفتاحاً لدعوة قراءة التراث ، والتواصل معه دون انقطاع . بابٌ لا يُراد منه الوقوف عند أخذِ الأدباء من بعضهم ، بل الوصول إلى الثقافة التي مكّنت القدامى من بيان مواطن السّرقة عند الأدباء .