الأسلوبُ والأسلوبيّة
بقلم ضياء ريحان السعيدي
يُعدُّ الأسلوب بالنسبة للباث التعبيري ومنجزه الأدبي أشبه بالهوية التي تميزه عن سائر أقرانه من المبدعين، إذْ تمنحه فرادة الإبداع التي يحوزها من خلال الكيفية في البناء التعبيري المغاير وتوليد دلالات غير مألوفة، تنماز بمعانٍ عميقة وجماليات فنية عالية.
والأسلوب لغة : ” السطر من النخيل : هو أسلوبٌ وكل طريقٍ ممتدٍ فهو أسلوب. والأسلوب الطريق والوجه والمذهب… والأسلوب الطريق تُؤخذ فيه. والأسلوب بالضم : الفنّ؛ يُقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه”.
وجاء في (أساس البلاغة) “وسلكتُ أُسلوبَ فلان: طريقته. وكلامه على أسالب حسنة”.
وفي المنظور الأدبي تستعمل كلمة أسلوب في كل ما يتعلق ببناء وتكوين منظومة النص الأدبي من إيقاعين داخلي وخارجي وأصوات وألفاظ وتراكيب ودلالات وصور بيانية وكل ما يسهم في اتمام المنجز الأدبي الإبداعي.
ويُعدُّ الأسلوب في المنظومة النقدية الأدبية “الطّريقة الّتي يعتمدها الأديب في تأليف كلامه للتّعبير عن المعاني الدّائرة في نفسه منذ إشراقها في الذّهن إلى صدورها ألفاظاً”.
فالأسلوب هو شكل النص الأدبي الذي يتسم بالمغايرة عن غيره من النصوص الأدبية أي أنه “حدث يمكن ملاحظته : إنه لساني لأن اللغة أداة بيانه. وهو نفسي لأن الأثر غاية حدوثه. وهو اجتماعي لأن الآخر ضرورة وجوده. وإذا كان هو كذلك فإنه يستلزم نوعاً من النشاط : الأوّل ويتعلق بالمرسل والثاني يتعلق بالمرسل إليه”، ونستشف أنَّ الأسلوب يشمل كل ما يشتمل عليه النص الأدبي فـ”هو الوظيفة المركزية المنظمة للخطاب هو يتولد من ترافق عمليتين متواليتين في الزمن متطابقتين في الوظيفة هما: “اختيار” المتكلم لأدواته التعبيرية من الرصيد المعجمي الذي للغة؛ ثم” تركيبها” تركيباً يقتضي بعضه قواعد النحو كما يسمح ببعضه الآخر التصرف في الاستعمال”.
والأسلوب “في نفسه دالٌّ يستند إلى نظامٍ إبلاغيّ متصل بعلم دلالات السياق أمّا مدلول ذلك الدّال فهو ما يحدث لدى القارئ من انفعالات جمالية تصحب إدراكه للرسالة”.
والأسلوب له علاقة بجميع الأفكار والأفعال التي يسلكها المنشئ في نصه الأدبي فهو “شأن خاص تضمره الذات المبدعة وتحتقبه خصوصية التجربة في كل عمل إبداعي غير تقليدي ليس هناك من عمل إبداعي لافت إلا ويجيء متصفاً بأسلوب : بأسلوبه الذي يمثله وحين نقول: فن أسلوب نقصد شكلاً في الأداء مائزاً وليس شكل الأداء”.
وتخضع نصوص الخطاب الأدبي بشقيه النثري والشعري إلى جماليات أنماطها التي تتباين فيما بينها في السمات الإبداعية وتنوع أساليبها، إذ تكمن جمالية الأسلوب بـ”قوّة الصورة التي تتجاوز معناها الحرفيَّ إلى معنى أو معانٍ أخرى مجازية كالتمثيل والكناية والاستعارة كما تتحقق بقوّة التركيب: ويتمُّ ذلك بتقديم الكلمة أو تأخيرها بالنسبة لموضوعها الطبيعيِّ واستخدام الطباق البديعيِّ في موضعه من الكلام إيثار الإيجاز في التعبير”.
هذا فيما يخصّ الأسلوب؛ أمّا الأسلوبية فهي فرع انطلق من حقل اللسانيات وأضحى من مناهج النقد الأدبي الذي يتجلى بوساطته عن جماليات النصوص الأدبية بعد أن مال النقّاد إلى تحليل مخرجات الخطاب الأدبي على وفق قواعد وأسس علمية وضوابط ممنهجة بعيداً عن المناهج الانطباعية التأثيرية، والأسلوبية هي “علِمٌ يهدفُ إلى الكشف عن العناصر المُميّزة التي بها يستطيعُ المؤلفُ الباثّ مُراقبة حرّية الإدراك لدى القارئ المتقبِّل”.
إذن فالأسلوبيّة هي منهج نقدي يحاول الكشف عن السمات الإبداعية التي ينماز بها الأثر الأدبي وتكمن وظيفتها الأدبية الاساسية في “الكشف عن الأسلوب الاستثنائي. فإن لم تكشف الأسلوبيّة عن أسلوب استثنائي، فهي قراءة أسلوبيّة توجيهية، لأنها تبحث عن غائب غير موجود في النص”.
وقد أفادت الأسلوبيّة من علوم ومعارف كثيرة كاللسانيات والبلاغة والنقد الأدبي وعلم الاجتماع وعلم النفس فهي “علم يدرس اللغة ضمن نظام الخطاب ولكنها -أيضاً- علم يدرس الخطاب موزعاً على مبدأ هوية الأجناس. ولذا كان موضوع هذا العلم متعدد المستويات مختلف المشارب والاهتمامات متنوع الأهداف والاتجاهات. وما دامت اللغة ليست حكراً على ميدان إيصالي دون آخر فإن موضوع علم الأسلوبيّة ليست حكراً -هو أيضاً- على ميدان تعبير دون آخر”، فضلاً عن ذلك فإن المنهج الأسلوبي يولي عناية فائقة للجانب “العاطفي للظاهرة اللغوية، إذ تسعى الأسلوبيّة إلى تتبع الكثافة الشعورية التي تُميِّز النص الأدبي”، ولعلَّ تفرد المنهج الأسلوبي عن المناهج النقدية الأخرى يكمن في الشمولية في التحليل وجعل المتلقي جزءاً من العملية الإبداعية فهي “منهجٌ نقديٌّ كغيرها من المناهج النقدية تحاول جاهدة أن تكتنه الظاهرة اللغوية والأدبية بالاحتكام إلى البعد اللغوي فتستلهم النظرية الألسنية في إضاءة النصّ وفحص مستوياته المتعددة بغية الوقوف على الظواهر والسمات الأسلوبيّة التي يتميز بها الخطاب الأدبي سواء أكان شعراً أم نثراً”.
وبلحاظ ما سبق آنفاً يمكن تلّمس الفرق بين مصطلح الأسلوب ومصطلح الأسلوبية “لأنّ علم الأسلوب يقف عند تحليل النص بناءً على مستويات التحليل وصولاً إلى علم بأساليبه في حين تجاوز الأسلوبيّة النص المحلل للمعلومة أساليبه إلى نقد تلك الأساليب بناء على منهج من مناهج النقد. ويمكن أن يقال أسلوبيّة وعلم أسلوبيّة كما يقال نقد وعلم النقد”.
وإذا كانت البلاغة تعمد إلى دراسة الأسلوب على وفق معايير نقدية كلاسيكية؛ فإن الأسلوبيّة تحاول أن ترتقي بنفسها من حيث الضوابط والانظمة للكشف الجمالي عن الوقائع والسمات الأسلوبيّة بتقريرية وتصنفها بطريقة موضوعية وممنهجة، وهذا ما جعل الأسلوب جزءاً من الأسلوبية.
فالتداخل بين الأسلوب والأسلوبية يعتمد تمييزه على ناقد له رسوخ قدم ووعي أسلوبي عالٍ “وإذا كان الأسلوب عند الكاتب سابقاً مضمراً في الماضي والأسلوبيّة حاضراً راهناً منفتحاً على المستقبل في خلال سياقات النص ومكوناته وبنياته؛ فإن الأسلوبيّة عند الناقد ستكون سابقة مضمرة هي الأخرى ولكن في سياقات النص ومكوناته البنائية وإذ تكون قراءة الناقد أسلوبيّة فذلك يعني أن تبحث في النص الإبداعي عن صفات أسلوبه الاستثنائي وكذلك عن صفات أسلوبه الإتباعي”.
فالأسلوب إنما هو نسق فني ذو منهج خاضع لثوابت ومعايير وهو فعل ماضٍ أي أن الأسلوب معدٌ وجاهزٌ، بخلاف الأسلوبيّة التي هي ثقافة وقراءة ذلك الأسلوب مما يجعلها حاضرة في الوقت الراهن والمستقبل، إذ تقوم بالكشف عن حيثيات النص ومكوناته وسماته الإبداعية التي تنماز بالفرادة الفنية لكونها ثقافة الكشف عن مزايا الأسلوب الإبداعية.
فمفهوم الأسلوب يقصد به مجموعة من الخصائص الفنية والسمات الإبداعية التي ينفرد بها مبدع ما وتصبح ملمحاً فنياً وسمة جلّية لمخرجه الإبداعي أو ما يميز عمله الفني من أساليب تعبيرية متنوعة تشكل ظواهراً أسلوبيّة مائزة في ذلك العمل الفني.
أمّا الأسلوبية فهي منهج نقدي يستقري ويحلّل نصوص الخطاب الأدبي بمقتضى أسس وأدوات معينة اعتماداً على جملة من الحقول العلمية التي تتضافر معها لتخلق الأبعاد الجمالية والدلالية كاللسانيات والبلاغة وعلم الإجتماع وعلم النفس.