مقالة بعنوان ( التخييل التاريخي في الرواية ) / بقلم م.م. أمينة ثعبان يوسف / كلية التربية للعلوم الإنسانية / قسم اللغة العربية .    
  الفن الروائي وتعامله مع التاريخ  تطور بمرور السنين ؛لتغيّر في الرؤية في التعامل مع المعطيات التأريخية ونجد انعكاس ذلك  في الرواية التاريخية التي تغيّرت بدورها منذ النصف الثاني من القرن العشرين .
         ذهب جورج لوكاش لتحديد نشوء الرواية التاريخية  في القرن التاسع عشر،لأن الروائي كان في هذا القرن يتعامل مع شخصيات الرواية بصورة تنتمي إلى الزمن الذي تمثله ،وهذا ماجعل لوكاش يضع روايات ولتر سكوت ضمن الروايات التاريخية ،وجعلها تتميز عن روايات العصور السابقة قبل القرن التاسع عشر  فكانت روايات شبه تاريخية فيقول:” ما يفتقد في ما يسمى بالرواية التاريخية قبل السير وولتر سكوت هو بالضبط ما هو تاريخي على وجه التخصيص أي اشتقاق الشخصية الفردية للشخوص من خصوصية عصرهم التاريخية “ ()   .
  كان التاريخ التقليدي يُنظر إليه بوصفه علما يقدّم الحقيقة والموضوعية ،ويجب أن  تطابق الأحداث المروية  الوقائع التاريخية ،فمهمة المؤرخ تكمن في ” الكشف عن هذه القصص وإعادة روايتها في سرد تكمن حقيقته في التطابق بين القصة المسرودة والقصة التي عاشها أشخاص حقيقيون في الماضي ” ().
    فاعتمد المؤرخون في القرن التاسع عشر بتدوين الحقيقة وتوثيقها فـ ” جعلوا التاريخ مهنتهم ونصبوا مفرزة موضوعية لتقييم الأدلة وتنزيه سرد الحقائق من أجل الصمود أمام الاختبار العلمي () .
  وكانت الرواية تستقي مادتها من التاريخ والاختلاف بينها وبين التاريخ من جهة الحقيقة والخيال ،فالتاريخ يسرد الحقائق وينقلها كما هي في الواقع أماالرواية تتعامل معه بتوظيفه في عالمها المتخيل وغايتها ليس السرد التاريخي ؛ لأن النصوص الإبداعية تعتمد على عنصر التخييل الذي يخلق واقعا جديدا مغايرا للحدث التاريخي ().
       فالرواية التاريخية حتى وإن استندت على المادة التاريخية لكن ليس من غايتها الحقيقة فهي” تقدم وفق قواعد الخطاب الروائي ( القائم على البعد التخييلي مهما كان واقعيا أو حقيقيا ) وهذا التخييل هو الذي يجعلها مختلفة عن الخطاب التاريخي ” () .
       وما نؤكده أن الرواية التاريخية وما تتناوله من التاريخ  يجعلها ” تكميلية للتاريخ  [ وقد أبقى ذلك ]  التاريخ  تصنيفا  سلطويا موثوقا به وغير   إشكالي ” () وتبقى الرواية التاريخية بحسب لوكاش ووسلنغ وفيريس ” بوصفها هجينة من التخييل والتاريخ وذات علاقة تكاملية مع التاريخ في المقام الأول ” ().
    ما إن ننفتح على ما بعد الحداثة في فترة الستينيات من القرن العشرين نجد أن النظرة إلى التاريخ، والرواية تغيّرت،فلم يعد يطلق عليها بالرواية التاريخية،وإنما ما وراء القص التاريخي ،فقد عاد الروائيون إلى التاريخ لاستكشافه،وحتى التاريخ فإنه  عند مؤرخي ما بعد الحداثة،ومنهم هايدن وايت، الذي يعد رائد فلاسفة التاريخ ما بعد الحداثيين وقد أكّدوا بأنه لا يمكن أن تكون الوقائع التاريخية موضوعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى ؛لأن الذات المؤرخة قد تكون خاضعة لسلطات وضغوطات عدة،ولذاتية الفرد المؤرخ فقد يكون مؤدلجا ،وذلك عندما  يريد أن يسرد حقيقة تاريخية مسيّسة،فهو  يسرد قصة هدفها إقناع المتلقي ،ولذلك سيجد ثغرات في القصة عليه أن يضع تفصيلات تسد هذه الثغرات ()،وعليه فإننا لا يمكن أن ننظر للتاريخ نظرة موضوعية كما كانت سائدة سابقا فالماضي يبنى على أساس النصوص الموجودة التي تدخّل المؤرخ بإيجادها وتأليفها،فهي خطاب سردي ونتاج لغة ()
    وعلى المؤرخ رواية قصص مقبولة،فيحاول أن يلجأ إلى سد الثغرات في الوقائع الممزقة والأحداث،التي يشوبها الكثير من الانقطاعات مما يجعلها غير واضحة ،فمهمة “المؤرخ هي رواية قصص مقبولة مصنوعة من خليط غير منظم من وقائع ممزقة وغير كاملة  هو يعالجها وهو الذي يضفي عليها معنى عبر توظيفها “ ().
    ونبّهت ما بعد الحداثة على أن التاريخ بسبب سيطرة الإيديولوجيا والسلطة اللذان يهيمنان عليه يمكن أن تحذف منه كثير من الحكايات التاريخية ، ويتم اختيار الزاوية الموجهة التي تعكس رؤية هذه السلطة والإيديولوجيا أي توظيف التاريخ في خدمة السلطة وبناء على ما تقدم ذكره  لا يمكن التسليم بصحة وقائع أو أحداث تاريخية ما  بل التشكيك فيها ().
وإن كان التاريخ في ما بعد الحداثة أصبح إشكاليا فكيف بالرواية ؟ 
   فالرواية تطورت وأصبحت تتعامل مع التاريخ بإعادة اكتشافه فتحاول رواية ما وراء القص التاريخي أن تتلاعب بالحقيقة المطلقة ؛ لأن غايتها ليست الحقيقة وإنما إعادة قراءة التاريخ وطرح وجهات نظر مغايرة عما سبق؛لأن الحاضر لا ينفصل عن الماضي فهذه الكتابات تفتح نفقا من أجل اكتشاف تاريخ المنسيين وتاريخ المقموعين وتستجوب الماضي ().
    و العودة إلى التاريخ يكون” بأشكال عدة،فقد تعود هذه الروايات للتاريخ بروح ساخرة،أو قد تعيد هذه الروايات تفسير الوقائع التاريخية الرسمية وطرح التساؤل بشأن حقيقة هذه الوقائع أو قد تطرح بحسب وجهة نظر معينة “().
   والتخييل نجده  في الرواية التاريخية،ورواية ما بعد الحداثة،ولكن التخييل الكلاسيكي يتجنب مساءلة التاريخ الرسمي أو التناقض معه على خلاف ذلك نجد التخييل في مرحلة ما بعد الحداثة يظهر التناقض الواضح مع التاريخ الرسمي،ويعمد إلى مراجعته وإعادة تفسيره ().
   والوعي بالنصوص التاريخية وإعادة قراءتها سيؤدي إلى التحويل عن الرؤية الراسخة في العقل الجمعي أو في النصوص التاريخية المكتوبة من لدن السلطة،وسيكون عبر التخييل الروائي الذي يحاول خلخلة الإدراك العادي وكسر المألوف لدى المتلقي. 
  مما تقدّم ذكره نتوصل إلى أن العلاقة بين الرواية والتاريخ علاقة وثيقة  فتعمل الرواية بما تمتلكه من حريّة التخييل على بناء عالم تقدم فيه صورا تنبه على ما هو سائد أوتحاول إضاءة الأماكن المعتمة من التاريخ لتعيد مساءلته والتشكيك في يقينياته لتقدم رؤى جديدة أو مغايرة لما هو سائد.
 

شارك هذا الموضوع: