مراعاة المقام في الخطاب البلاغي عند العرب :
يعد المقام عند البلاغيين العرب ركيزة أساسية في إنشاء الخطاب ؛ إذ عملوا على مراعاة حال المتلقي بتنوع الأساليب؛ لجذب السامع وتوخي الفهم والوضوح ؛ فأكدوا مراعاة مقتضى الحال إذ يذكر الجاحظ (ت 255 ه)عن بشر بن المعتمر في صواب المعنى وتقريره في ذهن السامع في قوله: “مدار الشرف على الصواب واحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال “ ، ويؤكد في مراعاة المقام وجعل لكل غرض بناء مناسب في قوله : ” فقد نستعمل الارجاز عند المتح وعند مجاثاة الخصم ، وساعة المشاولة ،وفي نفس المجادلة والمحاورة … “ فمراعاة الكلام وملاءمته للغرض والقصد واحوال السامعين أمر حرص عليه البلاغيون في خطاباتهم ،فنجد ابن وهب الكاتب قد فصّل القول في البيان ؛ فجعل وجوه البيان اربعة بيان الاشياء بذاتها ، والبيان في القلب والبيان في اللسان والبيان في الكتاب قائلاً “ينبغي للعاقل أن يكون بصيراً بترتيب قوله ، عالماً بمراتب المستمعين له في قبوله فلا يأتيهم منه بما ينافر طبائعهم ، ويكون سببا في إعراضهم ، ثم لايزال يلطف لهم في ذلك ويوفيهم من حال الى حال فيه حتى يبلغ بهم قصده ، فإن ذلك أصوب في الرأي وأولى بالقبول “ فعنايته واضحة بدور العقل في ترتيب الخطاب إذ عد ّ العقل مركز انتاج الكلام وتحليله ومن ثم الحكم عليه بالقبول او الرفض ، فابن وهب وقف على الالة الرئيسية في التأثير وهي العقل فوقف بشكل مباشر على ما يقوم به في الانتقال من المقدمات الى النتائج وفي البحث عن المضمر، ،ويرى ابن الاثير(ت 637 ه) أنّ : ” مخادعات الاقوال التي تقوم مقام مخادعات الافعال وإذا دقق النظر فيه علم أن مدار البلاغة كلها عليه ، لأنه انتفاع بإيراد الالفاظ المليحة الرائقة ، والمعاني اللطيفة الدقيقة “ ، وهذا ما اطلق عليه البلاغيون الاستدراج، فيقول حازم القرطاجني(ت 685ه) ” وإنما يصير القول الكاذب مقنعا ً وموهما ً أنه حق بتمويهات واستدراجات ترجع الى القول أو المقول له . والتمويهات تكون في مايرجع الى الأقوال والاستدراجات تكون بتهيؤ المتكلم بهيئة من يقبل قوله أو باستمالته المخاطب واستلطافه له بتزكيته وتقريضه “ .
البلاغة هي فن الخطاب لذلك أكد البلاغيون العرب مراعاة أحوال المتلقين في مخاطباتهم ،وتتبع خلجات النفس ،وخفايا العقل باختيار ادق الالفاظ وأفصحها للتعبيرعما في النفس والفهم والافهام .