التكرار.. ذلك الموت الخفي
التكرار إعَادةُ الشيءِ مرَّةً بعد مرَّةٍ ومعاودتهُ مراراً، ويُعدُّ من آليات الرغبة إذا ما أُعيدَ الشيء لمرةٍ أو مرَّتين فقط مثل تكرار مَقطوعةٍ موسيقيةٍ بزمنٍ معين، ولا يندرج التنَاظر ضِمن التكرار لأنَّ الأخيرَ محكومٌ بمُدة زمنية قياسية، فأشكال الورود وأجنحة الطيور وأعمِدةُ النور وأرصِفة الشوارع وغيرها لا تعدُّ تكراراً بل تشابهاً.
إنَّ شعور الإنسان بالملل يحدث من تكرار الحالات والمواقف في حياته اليومية، ويصف علماء النفس أنَّ المشاهد الصعبة التي تتكرَّر ست مرات تصبح حالاتٍ اعتيادية، وذلك لتعويد استقبال العقل على عدم الانفعال وعدم الإيعاز إلى الجسم بردود عكسية حسب درجة الشدَّة، ومن شواهد ذلك: عدم ظهور ملامح الخوف عند تكرار مشاهد فيلم الرعب لمرَّات متعدِّدة.
ومن الجدير بالذكر أنَّ أسلوب التكرار كان قد استُعمِلَ في الحرب العالمية الثانية لغرض اعتراف الجواسيس بمعلومات مخابراتية مهمَّة، واستعملتهُ ألمانيا طريقةً للإعدام وذلك بفتحِ صنبور الماء وجَعلِ قطرات الماء تتساقط قطرةً قطرة بزمنٍ قياسي متسلسِل، وكذلك استعملتهُ اليابان بحبسِ مجموعة من السجناء بغرفة طلاؤها أحمر اللون!
يمكن القول إنَّ معظم حالات الانتحار لدى البشر سببها التكرار وذلك لعدم انتقال شعور الإنسان اليومي من الشدَّة إلى اللين وبالعكس، ممَّا يؤدي إلى الملل والضجر ويدفعه إلى تجربة شيءٍ جديدٍ غير مكتَشفٍ وغير مأهول.
إنَّ التفكير البشري يميلُ بشكلٍ عام إلى تقسيم الأشياء على المستوى السيني(X,Y)، وبمعنى آخر فإنَّهُ يقيس الأمور بناءً على المنظور الثنائي فقط ولم يستطع لحد الآن إيجاد بُعدٍ ثالثٍ سوى الأبعاد التخيُّلية، ومن هذا ظهرت مفاهيم الثنائيات الضدِّية التي تمثِّل أساس التفكير مثل: الموجب-السالب و الأبيض-الأسود و السوي-المضطرب و العقل-الجنون و الشدَّة-اللِّين وتدريجاتها، ومن هذه الثنائيات الضدِّية اشتقَّ الإنسان تنظير فلسفاته وأديانه ونظراته ورؤاه فانبثقت مصطلحات كثيرة منها: الخير-الشر و الله-الشيطان و الجنة-النار وغيرها.
فالوقوف على أيَّة نقطة من تدريجات هذه الثنائيات الضدِّية وتكرارها يبعث الملل لدى الإنسان ثم يتطوَّر إلى البؤس والشقاء، فلا يشترط الملل أن يكون من تكرار الحزن فقط بل يمكن أن يكون تكرار الفرح يدعو إلى الملل، ومثال ذلكَ بسيط جدَّاً: جرِّب أن تأكل الحلوى قطعة بعدَ قطعة فإنَّك ستضطر إلى شُربِ الشاي مُرَّاً.
ومِن هذا يمكن استيعاب عدم توقُّف طموحات الإنسان بين السعادة والألم والترح والمرح والإقدام والإحجام، ويعتبر أن ما وصل إليه (في قرارة نفسه)تافهاً فيسعى للتغيير عبر الانطلاق بتجربةٍ جديدة ويحاول نوالها.
ويقاس هذا الأمر على حالات الخيانة الزوجية التي تعدُّ عدم الاهتمام هي الذريعة الأساسية لحصولها، إذ أنَّ عدم الاهتمام أو الملل ينشأ من تكرار التصرفات اليومية التي تحدث بين الزوجين مما يدعو إلى الرتابة من دون تغيير المشاهد والأحداث كالخروج إلى نزهةٍ ما أو عمل حَدثٍ مُختلف.
ويمكن الإشارة إلى أنَّ أغلب نظريات علم النفس تعتمد الحرمان والتوفير، ويرى التربويون أنَّ توفير جميع احتياجات الطفل يساعد على فساد أخلاقه وتنشئته وتشجيعه على عدم الإشباع والأنانية، فالإنسان أحياناً بحاجة إلى البكاء النسبي مثل احتياجه إلى الضحك النسبي، ومن هذا يمكن القول إنَّ التكرار هو ذلك الموت البطيء للشعور الانساني المتغيِّر .