بين التحرُّر والانحلال – قراءة في التأثير والتأثر
منذُ أربعيناتِ وخَمسيناتِ القَرنِ المَاضي ودُعاةُ التحرُّرِ منَ القيودِ المجتمعيَّةِ يتزايدونَ على صَعيدِ البلدان العربيَّة، وقد برزَ منهم الكثير من الأُدباءِ والمشاهِير مثل: مَي زيادة، مصطفى لطفي المنفلوطي، د. طه حسين، د. محمد كُرد علي، نجيب محفوظ، جرجي زيدان، د.نازك الملائكة، غادة السمَّان، رجاء النقَّاش، د. نوال السعداوي ود.علي الوردي ود. حسين محفوظ وغيرهم ممَّن كانَ لهم أثرٌ عظيمٌ في تغيُّر الوعي المجتمعيِّ العربي.
لقد كانت الموضوعات التي تطرَّقوا إليها مهمَّةً إلى حدٍّ كبير مثل: تعليم المرأة، وحقوق مساواتها مع الرجل في مجالاتِ الحياة كافَّة ونقد المجتمع، فأصبحَ العنصر النسوي يدخل في كثير من الأعمال التي كانت محصورة بيد العنصر الرجولي، فهي الآن طبيبةٌ ومُدرِّسةٌ ومُهندِسةٌ وعاملةٌ، على الرغم بعض العوائل والبيوتات المنغلقة على نفسها، ولكن بشكلٍ عامٍ أصبحت الجهود المَبذولة في سبيلِ التحرُّر مثمرةً وواضحةً للعيان.
في الآونة الأخيرة – بعد سقوط الطاغية صدام حسين- والتي زَامنتْ الصراعات السياسيَّة والتَّداعيات الثقافيَّة برزتْ ظاهرةً مُلفتةً للانتباهِ لدى الفئة الشبابيَّة تَدعو إلى نبذ القيمِ الفطريَّة للإنسان بدواعي التحرُّر والتثاقُف : كالابتذال والاختلاس والاحتيال تحت مسمَّيات الذكاء والفهلوة والنباهة ((اللُّواتة باللهجة العراقية)) ، وكذلك الخِيانة والمُخادعة والخِلاعة تحت مسمَّى الانطلاق والتحرُّر…إلخ
إنَّ نداءاتِ التحرُّر النافعة التي نَادى بها المُتنوِّرون منذُ ما يقاربُ القرن إلى الآن تعني : التخلُّص من القيود المفروضة على الأفراد تحت عناوين شرعية ومجتمعية: كالتطرُّف الديني، والتقاليد، والأعراف التي كانت تُبطِئ عجلة التطوُّر المجتمعي، ولكنَّ التحرُّر لا يعني الابتذال الأخلاقي والانحلال القِيمي والانحراف السلوكي للإنسان ؛ فتَخلُّصِكَ من أصفاد العادات الثقيلة لا تُبيح لكَ أن تأخذ ما ليس لك، أو تخادعَ الآخرين وتحتالُ عليهم، أو يكون جسدكِ معروضاً للجميع، فمفهوم الحريَّة ليست فوضى وعبثاً لأنَّ حريَّتكَ تقف أمام حريات الآخرين وعدم ايذاءهم في الذوق العام فلكلِّ مجتمعٍ معايير يتشبَّث مها للحفاظ على تماسكه.
ينبغي الإشارة إلى انَّ أفكار الانحلال والابتذال الاخلاقي نادتْ بها مجاميع نشأتْ مع نشوء الأديان منذ القِدَم، وهي لا تقلُّ تطرُّفاً عن متطرِّفي الأديان ، لأنها تنفي كلَّ ما جاء به الأخير وتعمل على النقيض منه، فإذا كانت تعاليم الأديان تدعو إلى نبذ الابتذال (بشكلٍ عام) دعتْ هذه المجاميع إلى الجنوح نحو السرقة واغتصاب حقوق الآخرين بحجَّة أنَّ كلَّ شيءٍ مُباح، وذلك لأنَّ الشرَّ هو الأصل في طبائع الإنسان !!!!
فمنذُ بدءِ الأزمان والإنسان في حالة صراعٍ مستمرٍّ بين مفهومي (الخير والشَّر) بعدما أصبحَ داخل عائلةٍ ثمَّ مَعشرٍ ثمَّ مُجتمع، ومع ازدياد الأعداد البشريَّة ظهرت القوانين التي تحدُّ من الانفلات والانحدار نحو مبدأ الغاب والبقاء للأقوى الذي نجا منهُ بفضلِ تجمُّعه، فسنُّ القوانين والقيم الذاتية يتناسبُ طرديَّاً مع المجتمعات، ومن ذلك القيم الأخلاقية التي يُنمِّيها منذ الطفولة وينشطها لأنَّها فطريَّة البذرة، فشرَّع القوانين وأنشأها لنقلِ الرقابة الذَّاتية على السلوكيات من الفردية إلى الجماعية للسيطرة على هذين المفهومين ((الخير والشَّر)).
ومنذُ ذلك الحين انقسمتْ الأفكار على نصفين: نصفٌ يرى أنَّ مفهوم الشَّر هو الأصل : وقد تبنَّت هذه الأفكار مجموعات بشرية قليلة ،وهي تدَّعي أنَّ الخير هو مجرَّدُ تعاليمٍ خارجية لتحجيم الشَّر وتقليصِ قوَّته ؛ فالنور شيءٌ طارئٌ زمكانيٌ في الظلام لأن الظلام هو الأعمُّ، وجعلتْ هذه المجموعات لتلك الأفكار إلهاً بمسمَّياتٍ متعدِّدة : (( شيفا ، الشيطان ، طاووس)) ومن دعاتها : المدرسة التَّحليليَّة لرائدها سيجموند فرويد إذْ أن طبيعة الإنسان شرِّيرةُ الأصل: ويلحظُ في ذلك سلوك العدوان لدى الصبيان والاطفال الصغار، كما أكَّدت كارل هورني على العلاقات الاجتماعية من أنَّ تصرفات وسلوكيات الفرد تنقسم على ثلاثة أقسام: التحرك نحو الناس (اجتماعي) ، والتحرك ضد الناس (سايكوباثي)، والتحرك بعيدا عن الناس (انعزالي).
وقد ظهرت في المجال الأدبي كثير من النصوص التي دعت إلى تمجيد الشَّر بموصفه الأسمى والأقوى، ومن ذلك قصائد جماعة الأيمو والأغاني المعكوسة في نصوصها كما يظهر جليها في أغاني المطربة إيفانسينز وريهانا، ناهيك عن القصيدة المنسوبة إلى الأديب العربي طه حسين (كنت أعبد الشيطان).
والنصفُ الآخر (وهو الأكثر انتشاراً بسبب الأديان السماوية) يرى أنَّ مفهوم الخير هو الفطرة الطبيعية التي فطرَ عليها الإنسان، وأنَّ الشَّرَ هو مُكتسبٌ من المحيط الخارجي، فالخير هو صفاتٌ وراثيَّة تتناقلها الأجيال، وجعلوا لمفهوم الخير إلهاً أيضاً بمسمَّيات أخرى : (فشنو ، برهما، الله ))، ومن دعاتها جيمس فرانكل وجان جاك روسو صاحب (العقد الاجتماعي).
ولو استقرأنا تاريخَ الانسان في الدراسات الانثروبولوجيَّة منذ عصر تكوينه وفجر السلالات وبحثنا في مواطن الخير والشَّر سنجدُ أنَّ الخير هو المفهومُ الطاغي في السُّلوك البَشريِّ على الرغمِ من ويلاتِ الشَّر وكوارثه، وإلَّا لكان الانقراض هو مصير الإنسان شأنهُ شأن الكثير من الكائنات الحيَّة التي انقرضتْ أو ما زالتْ تَرزحُ تحت وطأة قانون الطَّبيعة ومبدأ الغاب، لأنَّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خرجَ وتفوَّق على هذا القانون البِدائيِّ، لذا فالدعوةُ إلى الخيرِ وإبرازهُ يعدُّ أعظم انتصارات الإنسان منذ ظهورهِ على الأرض.
ومن هذا المنطلق فإنَّ آليَّاتِ الشَّر ومُفرداتهُ حتَّى إذا كانتْ تحتَ أسماءٍ جديدةٍ وبرَّاقةٍ فهي تنبعُ وتصبُّ في الشَّر نفسه والصراع الأزلي بين البشرية قائم الى النهاية فغريزة الصراع لا يمكن القضاء عليها، وأنَّ الدين يمثل أصول الأخلاق التي كان لها التأثير الأعظم في تغيُّر النصوص الكتابية، لذا فالخروج من قضبان التطرُّف لا يعني الدخول في أفواه مبدأ الغاب المتوحش الذي بدأ يكشِّر عن أنيابه عبر التيارات الشبابية وتحوُّلات النصوص من التحرُّر إلى الابتذال، ولأنَّنا نعتقدُ أنَّ مهمَّتنا الأساسيَّة هي الحفاظ على مسارات الخير وتنميتِها بجميع مسمَّياتهِ ودوافعهِ فعلينا البقاء تحت المنظومة المجتمعية بدءاً من الروابط الذاتيَّة والأواصر الأسريَّة وعدم الانجراف إلى قوانين الطبيعة وشريعة الغاب التي مدَّتْ أذرعَها تحت الانحلال الأخلاقي والابتذال السلوكي بأسماء جديدة مثل الفردانية في التعامل والوقاحة تحت مسمَّى الصراحة وشيوع النصوص المبتذلة في مجالات الثقافة المجتمعية.

شارك هذا الموضوع: