مفردةُ النِّفْطِ واستعمالاتها في الشعر القديم 
أ.د حازم علاوي عبيد
كلية التربية للعلوم الإنسانيةــــــ جامعة كربلاء
     يأتي هذا المقال ليدل القارئ على أهمية الشعر العربي القديم في توثيق تفاصيل الحياة، ونقل كل صغيرة وكبيرة جرت هناك، وعملية التأثر والتأثير بين الشاعر وبيئتهِ، وانتقال الألفاظ والمصطلحات على مختلف مستوياتها إلى معجم الشاعر واستعمالها الحقيقي والمجازي لديه، فلم يقتصرْ معجم الشعراء على المفردات الأدبية التي استعملها في عرض أفكارهِ، فقد عوّل الشاعر على مفردات الطب والهندسة والفيزياء والفلسفة والمنطق وغيرها نتيجة للاختلاط بين الثقافات في العصر العباسي، ومن هذه المفردات مفردة (النِّفْطِ) التي شغلت العالم الحديث.
   يلتقي المعنى اللغوي مع الاصطلاحي في تعريف هذه المفردة، فقد عرّفها ابن منظور بقولهِ 
((النِّفْطُ والنَّفْطُ: دُهن، والكسر أفصح، وقال ابن سيده: النِّفْطُ والنَّفْطُ الذي تُطْلى به الإبل للجرب والدَّبر والقردان وهو دون الكُحيل، وقال أبو عبيدة: النِّفط عامة القَطِرانِ، والنَّفَّاطَة والنَّفَاطة: الموضع الذي يستخرج منه النفط  والنَّفَاطاتُ والنَّفَّاطاتُ : ضَرْب من السُّرُج يُرْمى بها بالنِّفط …)) وهي بذلك تعني تلك المادة المستخرجة من باطن الأرض في عصرنا الحديث، علمًا أنَّ هناك معانٍ أخرى ذكرتها المعاجم لكنهم اتفقوا على المعنى الذي ذكرناه، وقد استعملها الشعراء بمعانٍ عدّة حقيقية ومجازية، وفي أغراض مختلفة منها الهجاء والغزل والوصف وغيرها، وسنعرض بعض الشواهد في هذا المجال، فمنها ما جاء في الحديث عن معالجة بعض الأمراض كقول جرير هاجيًا الفرزدق:
          وَداوَيْتُ مِنْ عَرِّ الفَرَزْدَقِ نُقْبَةً                بنِفْطٍ فأمْستْ لا يُخافُ نُشُورُهَا  
     والنقبة موضع الجرب، وقد استعارها الشاعر هنا لهجاء الفرزدق وتشير في الحقيقة لاستعمال النِّفط في علاج بعض الأمراض.
  ومنها ما جاء في وصف دعبل الخزاعي لجماعة من الهنود يسميهم (الزُطَّ) وقد شبههم بالنفط لبيان لونهم الأسود كما في قولهِ:          لمْ أرَ صَفًّا مثلَ صفِّ الزُّطِّ
                                             تسعين مِنْهُمْ صُلِبُوا في خَطِّ 
                                             كأنَّما غمَّستَهمْ فــــــــي نَفْطِ  
ومن الاستعمالات ما بيّن كراهة المجتمع لهذهِ المادة آنذاك، فقد وصف ابن الرومي رائحتها الكريهة ولونها الأسود، وطريقة حفظها كما في قوله هاجيًا: 
      ما مُشْتهٍ قُربَك المكروهَ ذا رَشَدٍ              يا قِرْبةَ النفطِ لا قُدِّستَ في القِربِ 
      وأيُّ نفطٍ كرشْحٍ أنت راشحُهُ                 سوادَ لونٍ، ونَتْنًا غــــــيرَ مكتسَبِ   
ويذهب الشاعر عبد الصمد بن المعذل إلى أبعد من ذلك، إذْ يبين في هجائه لأحدهم، أنَّ هناك أماكن يُستخرج منها النفط وقد عيّنوا من يديرها، لكنّه عدَّ هذا العمل مكروهًا ولا يقارن بالأعمال الأخرى وعلى صاحبه عدم التكبر كما في قوله:
        لحفظ عيون النفط أحدثت نخوةً           فكيف به لو كان مسكا وعنبرا
        دعْ الكبرَ واستبق التواضع إنّه            قبيح بوالي النفطِ أنْ يتكبـــــرا
       ومن جهةٍ أخرى فقد استعملتْ هذه المفردة في معناها المجازي، ومن أهم من استعملها في هذا المجال الشاعر العباسي بشّار بن برد ليدل من خلالها على حرارة الشوق كقولهِ متغزلا:
لِعَبدَةَ دارٌ ما تُكَلِّمُنا الدارُ                  تَلوحُ مَغانيها كَما لاحَ أَسطارُ
أُسائِلُ أَحجاراً وَنُؤياً مُهَدَّماً                   وَكيفَ يُجيبُ القَولَ نُؤيٌ وَأَحجارُ
         فَما كَلَّمتَني دارُها إِذ سَأَلتُها                  وَفي كَبِدي كَالنِفطِ شُبَّت لَهُ النارُ
نجد إنَّ الشاعر قد صوَّرَ قوة حرارة الشوق التي نشبت في كبده بالنار التي تنشب عند احتراق النفط وهذا دليل على أنَّ المتلقي لديه الثقافة الكافية بهذهِ المادة وسرعة اشتعالها وما تولده من حرارة عند الاشتعال مما جعل الشاعر يعبّر عن فكرتهِ بها، ومن جانب آخر فإنَّ استعمال اشتعال النفط عند بشّار الأعمى دليل آخر على شهرة هذهِ المادة واستعمالاتها الكثيرة في المجتمع.
 وتشترك هذهِ المفردة في الوصف أيضًا ومن أمثلتها في هذا الغرض قول الشاعر ظافر الحداد واصفًا امتعاض النساء من الشيب كقولهِ: 
        خلـوتُ بليلـى ذاتَ يـومٍ وبيننـا                حديثٌ كما انْهَلَّ الفَريدُ من السِّمْطِ
          وقـد أُولعَـتْ بالمسك تُلِقى مُذَابَهُ           علـى مثلـه مـن عـارضٍ حالكٍ سَبْط
          وثَنَّتــه بالتَّسـْريح حـتى تَعلَّقـتْ              لهـا شـَعْرةٌ بيضاءُ في سِنَّة المشط   
        فلاحَ بهــا منهــا علــىَّ تَغيُّــرٌ                 إذا ضـبطتْهُ جَـلَّ قَـدْرا عن الضبط  
      ودام لهـا فـي الحـال فَرْطُ تَنهُّدٍ                وتكـرارُ أنفـاسٍ أحـــــــرَّ مـن النِّفْط 
 يصف الشاعر هنا معاناة محبوبته عندما وجدت شعرة بيضاء أثناء استعمال المشط لتسريح شعرها، وأراد من خلال هذهِ الصورة وصف شدة تنهدها وامتعاضها وتذمرها، فشبَّهَ أنفاسها الحارة بحرارة اشتعال النفط للدلالة على شدتها.
ومن جانب آخر فقد وردت هذه المفردة في وصف الحروب في العصر العباسي كونها أداة فعّالة في المواجهات ومن هذا ما ذكره الخريمي في رثاء بغداد بعد الفتنة التي حدثت بين الأمين والمأمون كما في قوله: 
                   والخيلُ تستنُّ في أزقّتها                 بالتُركِ مسنونةٌ خَناجُرها
                 والنِّفطُ والنارُ في طرائقِها                وهابيًا للدخانِ عامرها
فضلا عن الأوصاف المباشرة الكثيرة الأخرى ومنها ما خصَّ قارورة النفط وشكلها وخلط المادة مع الماء واشتعالها من دونه وتصوير اللهب الناتج عن الاشتعال وغيرها.
 إنَّ ما ذكرناه مجرد شواهد مختارة عن هذهِ المفردة وهناك كثير من الشواهد عن هذهِ المفردة في الشعر القديم، هذهِ الكثرة تنم عن حرص الشعراء على تسجيل تفاصيل حياتهم البيئية وعملية التأثر والتأثير الكبيرة بينهم وبين مجتمعهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. 
 
 
 
       
  
 

شارك هذا الموضوع: