الشعر الهندسي
إبداعٌ وتجديد
أ.د حازم علاوي عبيد
كلية التربية للعلوم الإنسانيةــــــ جامعة كربلاء
يبدو هذا النوع من الشعرغريبًا بالنظرِ إلى تسميته، وهو بالفعل إذا ما بحثنا في مظانّهِ، فهو نادرٌ وفريدٌ من نوعهِ، يحاول فيه الشاعر إبراز قدرتهِ وإبداعهِ وقابلياتهِ في عصرٍ اتُّهِمَ بالانحطاط والتدني.
وقد سُمّيَ بهذا الاسم لارتباطه بالأشكال الهندسية، ومن أبرز من كتب عنه الدكتور بكري شيخ أمين في كتابهِ مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني الذي طبعته دار العلم للملايين، وقد حصلتُ على الطبعة الرابعة المطبوعة سنة 1986م، إذْ أفرد المؤلف فصلًا للشعر الهندسي ، فضلا عن البحث الموسوم بــجمالية القصيدة الهندسية بين الواقع والطموح ــ دراسة استقرائية وتطبيقية والمنشور في جامعة الموصل ــ مجلة كلية العلوم الإسلامية في مجلدها السادس العدد الثاني عشر لسنة 2012م للباحث فاضل يونس حسين، وأطروحة الدكتوراه الموسومة بالتشكيل البصري في الشعر منذ 656هـ دراسة تأويلية للباحث عيسى محمد صالح.
ومن خلال القراءة والتدقيق تبيّنَ أنَّ بحث (جمالية القصيدة الهندسية بين الواقع والطموح) قد اعتمد بشكلٍ كبير على كتاب مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني، إلّا أنَّ الدكتور بكري شيخ أمين قد خصَّ تسمية الشعر الهندسي بالشعر الذي بُنيَ على الأشكال الهندسية، في حين جمع الباحث فاضل يونس حسين كل الأنواع ضمن القصيدة الهندسية وقسّمها إلى الشعر الهندسي والمشبّه بالهندسي.
أمَّا الباحث عيسى محمد صالح فقد اعتمد أيضًا على كتاب الدكتور بكري شيخ أمين في طرحهِ، ونرى إنَّ أمين يمثل الأصالة في هذا الأمر كونه الوحيد الذي أشار لهذا الشعر المبتكر.
إنَّ نشأة هذا النوع من الشعر غامضة ولم يحددْ المؤلفون في هذا النوع تاريخًا للنشأة ويبدو أنّه اشتهرفي العصر المملوكي والعثماني، ولم يسمِّهِ أحد بهذا الاسم، وقد أُطلِقَ عليه هذا الاسم نسبةً إلى أشكالهِ الهندسية، لكنه يعد من الأنواع الجديدة التي خرجت عن الشكل المألوف.
الشكل: ينظم الشاعر أبياته على أشكالٍ هندسية مثل المثلث والمربع والمعين والدائرة البسيطة والمركبة وغيرها من الأشكال، على أنْ يكون لكلِّ شكلٍ من هذه الأشكال مركزًا ينطلق منه كل بيت وينتهي إليه، على سبيل المثال إذا كان مركز المثلث حرف (الدال)، سيبدأ كل بيت بحرف الدال وينتهي بهِ وبذلك تكون كل الأبيات قد بدأت بالدال وانتهت به كونه مركزًا، هذا ينطبق على كل الأشكال الهندسية التي ذكرناها.
المضمون: تضمّنت المقطوعات والقصائد الهندسية موضوعات مختلفة ولكنّها ركّزت على الزهديات ووصف الأنبياء وآل البيت (عليهم السلام)، وهي في بعض الأحيان بسيطة في نظمها، سهلة ألفاظها، غايتها الإبداع الهندسي والموسيقي.
عدد الأبيات: لا يستطيع الشاعر الإكثار في مثل هذا النوع من النظم لأنّه ألزمَ نفسه بأشكالٍ هندسية لا يمكن الخروج عن عدد أضلاعها كالمثلث والمربع وحتى الدوائر وإنْ كانت مركبة أو معقدة فهي تُلزمهُ بعدد محدد من الأبيات.
نتائج حتمية: عندما يلتزم الشاعر بأشكالٍ هندسية فالنتائج ستكون كالهندسية ثابتة لا تحتمل التغيير، ومن هذه النتائج التي تنتج من التزام القصيدة أو المقطوعة بالمركز:
1ــ كلّ بيت يبتدئ بحرف الدال مثلا سينتهي به.
٢. نهاية كلّ بيت معكوسة في مطلع الذي بعده.
٣. عكس بداية البيت الأول تتّفق وقافية الأخير.
شواهد شعرية:
هذا الشكل يفكك إلى:
دمعُ عيني سائل في حبّ مَن إنْ رأته العينُ لم تخشَ رمد
دمّر الله أناسًا قد طغوا وبغوا ما لم ينالوا من رشد
دشر العصيان ثم اتبع رضا رافع السبع الشدادِ بْلا عمد
وهذا يفكك إلى:
عشق المسكين هذا ذنبه قصّة الشكوى إليـكم قد رفع
عفّر المسكين خدّا في الثرى يرتجي وصلاً وباللطف قنع
عنق المحبوب غيري ولثم صاح لما بارق الثغر فرع
عرف الهجر حبيبي عامدًا وتثنى عند ما دل قشع
وهناك أمثلة كثيرة للدوائر البسيطة والمركبة والمعين وغيرها من الأشكال الأخرى من الممكن مراجعتها في كتاب الدكتور بكري شيخ أمين.
إذن هذا النوع من الشعر رغم قلته مثّلَ مرحلة متميزة من الشعر العربي كونه قدّمَ شكلا جديدًا خرجَ عن الإطار المألوف حاول من خلاله العرب موازاة الإبداع الذي جاء بهِ كبار الشعراء العباسيين في العصور التي سبقتهم.