الأستاذ الدكتور: نجاح فاهم صابر العبيدي
الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى عند ابن جنّي
من أبواب ابن جنّي في الخصائص باب أسماه “باب في الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى”() وكرّر مضمونه في باب آخر أسماه “باب في التفسير على المعنى دون اللفظ”() وقد أراد منه أن يمنع المشتغل في النحو من أنْ يقع في إفساد الصنعة، وذلك في قوله ((هذا الموضع كثيرًا ما يستهوي من يضعف نظرُه إلى أنْ يقوده إلى إفساد الصنعة))() وقال في موضع آخر ((اعلم أنّ هذا موضع أتعب كثيرًا من الناس واستهواهم، ودعاهم من سوء الرأي، وفساد الاعتقاد إلى ما مذِلوا به، وتتايعوا فيه))() وابن جنّي أراد في هذا الباب أن يضع حدًّا فاصلًا بين الصنعة والمعنى، فالصنعة ــــ عنده ــــ ممّا لا يستهان به، وعلى المشتغل بها أنْ يحفظ حدودها، ولا يجاوزها إلى ما يؤدّي إلى العبث فيها؛ لذلك فهو يستعيذ بالله من مخالفتها، وذلك في قوله ((ومن ذلك قولهم: أنت ظالم إنْ فعلت، ألا تراهم يقولون في معناه: إنْ فعلت فأنت ظالم، فهذا ربما أوهم أنّ “أنت ظالم” جواب مقدّم، ومعاذ الله أن يقدّم جواب الشرط عليه، وإنّما قوله: أنت ظالم دالّ على الجواب وسادّ مسدّه، فأمّا أنْ يكون هو الجواب فلا))() وكذلك قوله ((ومن ذلك قولهم في عليك زيدًا: إنّ معناه خذ زيدًا، وهو ــــ لعمري ـــــ كذلك، إلّا أنّ زيدًا الآن إنّما هو منصوب بنفس “عليك” من حيث كان اسمًا لفعلٍ متعدٍّ، لا أنّه منصوب بـ “خذ”))() فـ “زيدٌ” منصوب بعليك، وإن كان في المعنى منصوبًا بـ “خذ” ولو تسامحنا في سبب النصب، وأجريناه على ما كان في المعنى، فإنّ هذا يؤدّي إلى إفساد الصنعة ويفضي إلى التسامح في كثير من أبواب النحو، فيفتح باب التأوّل في الصناعة، واتّباع الهوى في إحكام العبارات، فيؤدي إلى إفساد المعنى كذلك، وسيمرّ بنا في فصول هذه الأطروحة ما قد يوهم القارئ، ويرشد المطّلع إلى أنّنا نقلّل من شأن القاعدة، ونذهل عنها من تمسّك بها، وليس كذلك، بل الحقّ أنّنا نميز الصنعة من غيرها، على أنّ من اختصّ بالصنعة حكيم في وضعه، فطنٌ في صياغته، إذ لم يغادرها سيبويه، وليس في ذلك من شكّ، وإلى هذا أشار ابن جنّي، وأراد أن يفرّق بين المعنى وبين الصنعة عند المتقدّمين وذلك في قوله ((ولا تستصغر هذا الموضع؛ فإنّ العرب أيضًا قد مرّت به، وشمّت روايحه، وراعته))()
لقد أراد ابن جنّي أنْ يبيّن الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى، وحذّر من الاسترسال في ذلك، بعد أنْ وضع حدوده، وأسهب فيه، وأشار إليه في مواطن كثيرة في خصائصه، وكذلك أشار إلى أنّه وقع فيه أصحاب الصنعة وأصحاب الصياغة، وفيه يقول ((ألا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى، فإذا مرّ بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه، ولا تسترسل إليه، فإن أمكنك أنْ يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه، وإن كان تقدير الإعراب مخالفًا لتفسير المعنى تقبّلت تفسير المعنى على ما هو عليه، وصحّحت طريق تقدير الإعراب، حتّى لا يشذّ شيء منها عليك، وإيّاك أنْ تسترسل فتفسد ما تُؤثِر إصلاحه))()
وممّا ذكره ابن جنّي من مثال في هذا الباب قوله ((ومن ذلك قول العرب: كلّ رجل وصنعتُه، وأنت وشأنُك، معناه أنت مع شأنِك، وكلّ رجل مع صنعته، فهذا يوهم مِن أمَمٍ أنّ الثاني خبرٌ عن الأوّل، كما أنّه إذا قال: أنت مع شأنك، فإنّ قوله: مع شأنك، خبر عن أنت، وليس الأمر كذلك، بل لعمري إنّ المعنى عليه، غير أنّ تقدير الإعراب على غيره، وإنّما شأنك معطوف على أنت، والخبر محذوف للحمل على المعنى فكأنّه قال: كلّ رجل وصنعته مقرونان))() وهذا الذي حذّر منه ابن جنّي وقع فيه ابن عصفور الأشبيليّ في شرح الإيضاح، إذ يرى في “كلّ رجل وضيعته” أنّه كلام تام لا يحتاج إلى تقدير() وهذا نبّه عليه سيبويه في أنّه تفسير معنى لا تقدير إعراب وذلك عند عرضه رأيًا للخليل في جواز: بعت الشاءَ شاةٌ ودرهم، وقال فيه ((إنّما يريد شاةً بِدرهمٍ، ويجعل بدرهمٍ خبرًا للشاة، وصارت الواو بمنزلة الباء في المعنى، كما كانت في قولك: كلّ رجلٍ وضيعتُه، في معنى مع))() و شرحه السيرافي بقوله ((والتقديرُ شاةٌ منه ودرهمٌ مقرونانِ، كما يقال: كلّ رجلٍ وضيعتُه بمعنى مع ضيعتِه، وكذلك شاة منه مع درهم؛ لأنّ الواو في معنى مع، فصحّ معنى الكلام بذلك، فلمّا رفع الدرهم وعطف على الشاة قدّر خبرًا))() وقد استشهد ابن جنّي بقول الشاعر():
أغارَ على معزاي لم يدرِ أنّني وصفراءَ منها عبلة الصفوات
على العطف بالنصب مع أنّ.
ومن أبواب ابن جنّي القريبة من هذا الباب كذلك “باب في تجاذب المعاني والإعراب” قال فيه ((هذا موضع كان أبو عليّ – رحمه الله – يعتاده، ويلمّ كثيرًا به، ويبعث على المراجعة له، وإلطاف النظر فيه، وذلك أنّك تجد في كثير من المنثور والمنظوم الإعرابَ والمعنى متجاذبين، هذا يدعوك إلى أمرٍ، وهذا يمنعك منه، فمتى اعتورا كلامًا ما أمسكت بعروة المعنى وارتحت لتصحيح الإعراب، فمن ذلك قول الله تعالى ﵟإِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجۡعِهِۦ لَقَادِرٞ يَوۡمَ تُبۡلَى ٱلسَّرَآئِرُﵞ() فمعنى هذا، أنّه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر، فإنْ حملته في الإعراب على هذا كان خطأ؛ لفصلك بين الظرف الذي هو “يوم تبلى” وبين ما هو معلّق به من المصدر الذي هو الرجع، والظرف من صلته، والفصل بين الصلة والموصول الأجنبي أمرٌ لا يجوز))() ومجمل القول: أنّ ابن جنّي حذّر من تداخل الإعراب مع المعنى، وأنّه إنْ حصل يفضي إلى إفساد الصنعة.