صورة المرأة الفلسطينية في المسرح الشعري العربي
مثلت القضية الفلسطينية مدار اهتمام الأدباء منذ أن اتضحت معالمها وتحددت محاورها ، فقد ” هيمنت على المشهد السياسي والاجتماعي في معظم البلاد العربية والإسلامية ” (1) ، ووجد فيها الأدباء منقذا لهم من الانغلاق الفكري الذي كاد أن يصيبهم لجمود الحياة العربية عن الإتيان بجديد فكانت القضية الفلسطينية ملهمة لهم وكتاب المسرح بوجه خاص وجدوا في المقاومة منهلا لا ينضب واخذوا ينوعون في المجالات التي يبدعون فيها(2) ، ولم يكن المسرح الشعري بعيدا عن هذا ، فشكلت مصدرا ثريا اتجه له الشعراء – ولاسيما ذوي الأصول الفلسطينية منهم – متخذين من تفاصيلها الكثيرة وشخصياتها الغنية بالصفات الدرامية مصادرا صاغوا منها مسرحياتهم .
والمرأة الفلسطينية ذات معاناة خاصة ، فهي ” تعاني اضطهادا مركبا بوصفها امرأة ، وتعاني اضطهادا مكثفا بوصفها فلسطينية ، حيث المعاناة المشتركة مع الرجل في مواجهة المحتل الذي يشكل وجوده تغريبا للإنسان الفلسطيني في وطنه ، بالإضافة إلى اغترابها الخاص بوصفها امرأة عن كثير من القيم والمفاهيم التي تكبلها “(3) ، ولما انتبه الأدباء إلى هذه المعاناة وجدوا فيها مجالا واسعا لتمثيل هذه المرأة بصور عدة ، إذ وجد بعضا منهم إن ” تحرير المرأة هو السبيل الوحيد إلى تحرير الوطن قبل التفاوض مع اليهود “(4) ، فضلا عن رغبة الأديب في معالجة القضية الفلسطينية بحد ذاتها ، ولما اختلف ” وضع المرأة في فلسطين عن باقي الدول العربية وذلك بسبب وضعها الفريد من الناحيتين السياسية والجغرافية , فبرغم من المعاناة المستمرة من السياسة الفاشية والقمع والإرهاب المسلط عليها قامت المرأة الفلسطينية بواجبها في المشاركة مع الرجل في المقاومة والكفاح ضد الصهيونية وآلتها العسكرية إسرائيل” (5) ، فضلا عن واقعها الذي” فرض عليها أدوارا سياسية وجذرية تجمع ما بين الحاجة إلى التعامل والتأقلم مع ازدواجية عالمية لا أخلاقية تغطي الجرائم المستمرة والقمع من جهة , وحاجتها من جهة أخرى إلى تحدي هذا الواقع “(6) ، فقد أتاحت المرأة الفلسطينية بذاتها للأدباء أن يستلهموا من وجودها الفاعل مادتهم الأدبية .
صور الشاعر (عبد الرحمن الشرقاوي) في مسرحيته (وطني عكا) المرأة الفلسطينية اللاجئة بتمثلاتها العمرية كافة فهناك الطفلة والشابة والعجوز اللائي يعانين مشاق الحياة في المخيم الذي نفين إليه ، واهتم بهذه الصورة بما يعنيه النفي من نبذ شكل في تاريخ الإنسانية أقسى أنواع العقوبات فهو فصل عن الماضي وحرمان من الحاضر وإيهام بانعدام المستقبل(7) ، وهذا النموذج تشكل في مخيال المؤلف من خلال الأحداث التي عاصرها والانشغال العربي بالقضية الفلسطينية ، وخصوصا إن (الشرقاوي) ” كان صاحب مشروع فكري من أهم مميزاته الثورة والتمرد على الواقع والرغبة في تغيير الأنظمة الفاسدة “(8) ، وفي مقدمة هذه الأنظمة بطبيعة الحال النظام الصهيوني المحتل للأراضي الفلسطينية .
والمسرحية في كل مشاهدها لا تخرج عن تصوير الواقع الفلسطيني وما يحيط به ، فهي تدور حول اللاجئين في احد المخيمات بغزة ، وفي حكايتهم ينقل الشاعر جوانب عدة من هذه القضية فمنها ؛ الصراع الذي وقع به الشاب الفلسطيني متمثلا بـ (ماجد ) الذي وجد في سفره منجى له من الفاقة وذل المعونات لكنه يعيش أزمة الانتماء ولوم أهله على تركهم(9) ، أو أن يبقى في أسوار المخيم يترصد الفرص للمشاركة في مقاومة المحتل مخاطرا بإمكانية سجنه واغتياله وحين ذاك يحظى باحترام مواطنيه مثلما فعل (رشيد )(10) ، والمرأة في هذا الحال تعيش الأزمة نفسها ، فهي التي تعاني في المخيم من ملاحقة العدو للأب والابن والزوج وغيابهم في حال الأسر ، وكذلك المصاعب الحياتية الناجمة من الفقر والظروف المعيشية الصعبة ، فضلا عن معاناتها من قهر الاحتلال وذل التشرد(11).
فـ(الشرقاوي) عاد في تصويره للمرأة الفلسطينية إلى المعاناة الإنسانية التي تتعلق بالحياة المشتركة للمنظومة الإنسانية لأي مجتمع وهو يتعرض إلى التشريد والمعاناة اليومية الناجمة من الضغوط الأمنية والاقتصادية والاجتماعية .
وبالرغم من رجوع الشاعر (معين بسيسو) وهو الفلسطيني الأصل إلى التراث وبالخصوص العهد القديم ليأخذ منه عنوان وفكرة مسرحيته ( شمشون ودليلة ) ، إلا انه اسقط كل الحكاية التوراتية على الواقع الفلسطيني المعاصر ، وشكل تمثلات المرأة فيها من هذا الواقع ، فان ” هاجسه الأول والوحيد في إبداعه الشعري والمسرحي كان القضية الفلسطينية والمقاومة من اجل تحرير الأرض “(12) ، لذا ارتأى البحث أن يدرج مصدر صورة المرأة في هذه المسرحية ضمن المصادر المعاصرة والمنتجة من مخيلة الشاعر للتغيير المفصلي في تمثيل هذه الصورة .
فقد روى العهد حكاية (شمشون) البطل الإسرائيلي الموحِد الذي وهبه الله (عز وجل) قوة استثنائية قهر بها أعداء قومه الفلسطينيين (الوثنيين) ، فعمد الفلسطينيون إلى الاحتيال للإيقاع به ، فاختاروا من نسائهم (دليلة) التي سخرت ذكائها وفتنتها لتقنعه بحبها له وليعترف لها بسر قوته ، فلما علمت بان الله حذره من قص شعره شرطا للحفاظ على الهبة ، أفشت السر إلى قومها فقصوا شعره وتمكنوا من أسره ، فلما عاد شعره للنمو واعترف نادما بفعله ، غفر الله له وأعاد له قوته ، وفي الوقت ذاته تندم (دليلة) على ما فعلته به بعد أن أدركت إنها أحبته ، فتقرر خيانة قومها وتساعده على بلوغ العمود الذي يرتكز عليه معبد الفلسطينيين ، وخلال اجتماعهم يهدمه عليهم(13).
وإلى هذه التفاصيل ، يشير (بسيسو) في مسرحيته ، فـ(شمشون) جندي اسرائيلي يدخل إلى المشهد بزيه الحديث وجدائله المتدلية على كتفيه ، يخاطب الفلسطينيين:
” ماذا تنتظرون … ؟
هل تنتظرون دليله … ؟
تكشف سري …
وتجز ضفائر شعري …
*
*
*
عبثا تنتظرون دليله …”(14)
والعبارة الأخيرة تؤكد ما يذهب البحث إليه من أن تتبع مصدر صورة المرأة في هذه المسرحية يحيل إلى الزمن المعاصر أكثر من الرجوع إلى منابع الحكاية الموروثة ، فإنه يلاحظ إن (دليلة) التوراتية مثلت الجانب الشرير في الحكاية ، وصورت المرأة فيها على إنها الفاتنة الخائنة ، أما (دليلة) في المسرحية موضع البحث فأنها تمثل الجانب المعاكس ، بل إنها تمثل المرأة الفلسطينية المعاصرة ذات القيم الخيرة والنفس المعذبة .
فأول ظهور نسائي في المسرحية يسميها الشاعر بـ (المرأة) ، ويصفها بأنها “محلولة الضفائر زائغة العينين ملفوفة القدمين بالأربطة البيضاء … تضم دمية إلى صدرها ، كأنها ترضعها ” (15) ، وهذه الأوصاف تمثل الشكل الذي ارتسم بمخيلة الفلسطينيين عن الأم المنكوبة ، وهي تقول ذلك :
” فانا امرأة من يافا …
مثل جميع نسائك … يا يافا … ” (16)
وبهذا الجمع فإنه يجمل تصوره عن المرأة الفلسطينية المعاصرة التي سيمثل أنماطها لاحقا في النص .
أما الشاعر (علي كنعان) فإن صورة المرأة الفلسطينية التي اجتذبته حين عالج هذه القضية في مسرحيته (السيل) كانت اقل حركية فهي اقتصرت على ما يراه من ضعفها الإنساني وهي تودع الرجال الراحلين قسرا سواء بالهجرة أو التقتيل وتبقى تستعطف الأقدار حتى لا يجرفها السيل الذي رمز به الشاعر إلى الاحتلال الذي دمر البلاد(17) ، ومن ثم تنادي في ختام المسرحية مطالبة بالمنقذين من الرجال كي لا يرث الأطفال القادمون تبعات السيل أو سيول جديدة ، وهذه التي تنطق بهذا الاعتراض تمثلها شخصية (ليلى) الشابة العشرينية (18) ، و كأن الشاعر يرى في ما يعاصره من شابات فلسطينيات أملا أن يغيرن في الواقع الفلسطيني أكثر مما يراه من النساء اللائي عاصرن جيل الهزيمة .
الهوامش:
() مدينة الارامل – المرأة العراقية في مسيرة التحرير : 39
(2)ينظر : العنقاء الجديدة – صراع الاجيال في الادب المعاصر : 220
(3) نماذج المرأة / البطل في الرواية الفلسطينية : 74
(4) صورة المرأة في روايات سحر خليفة : 140
(5) النظام الابوي واشكالية الجنس عند العرب : 333
(6) توطين المعرفة النسوية – الفكر النسوي الفلسطيني بين فيزياء القوى العلمية وثيولوجيا “الامن” العنصرية (مقال) : 309
(7)ينظر : المثقف والسلطة :92
(8) الشرقاوي ومشروع المسرح الشعري (مقال) : 7
(9)ينظر : وطني عكا : 7
(10)ينظر : م.ن. : 14
(11)ينظر : ن. : 16
(12)المسرح الشعري العربي في القرن العشرين (مقال) : 1185
(13)ينظر : العهد القديم : سفر القضاة 12/13 -13/7
(14) شمشون ودليلة : 23
(15) م.ن. : 17
(16) ن. : 19
(17)ينظر : السيل : 49
(18)ينظر : م.ن. : 115