المرأة منتجة النص / قائلة المثل – قراءة في كتاب الأمثال للميداني
المرأة منتجة النص / قائلة المثل – قراءة في كتاب الأمثال للميداني
أول وجود للمرأة يطالعنا في مجمع الأمثال – على الرغم من نسبته العددية القليلة بالنظر إلى العدد الكلي للأمثال في المجمع (80/4761) ، هي المرأة المنتجة للثقافة ، فالنقد النسوي اهتم بموضوع غياب المرأة عن التدوين لأن “باحتكار الرجل لمجال الكتابة غداهو منتج المعرفة ومستهلكها . وظلت المرأة على هامش الثقافة , وخارج دائرة الفعل . حيث أنفرد الرجل بتدوين المسيرة الإنسانية وتسجيل الوقائع والأحداث , وصناعة التاريخ ، فطغى حضوره , واستولى على كامل رقعة التاريخ , في حين أقصيت المرأة وهمش دورها , وطمر تاريخها إذ غابت عن كتابة التاريخ وصناعة الثقافة” (1).
وقد اقتصر البحث في هذا المطلب على دراسة الأمثال قبل عهد المولدين كون الميداني لم ينقل الحكايات المصاحبة لأمثالهم – أي أمثال المولدين- ولا يمكن حينئذ معرفة جنس قائل المثل ، وتأتي المرويات على لسان المرأة في هذه النصوص المبكرة بدرجة عالية من الاهمية لأسباب منها :
كونها تمثل كسرا للقاعدة التي جعلت الرجل منفردا في رسم الصورة النهائية عنها فـ ” بقدر ارتباط اللغة بالمؤسسات الثقافية التي تحقق مصالح متسيديها بقدر محاولتها تكريس ثقافة صمت النساء بإسقاطهن من اللغة ومن الرابطة الاجتماعية وتعليقهن في فضاء المفعولية /مفعولية القول لا انتاجيته “(2)، وتلك اللمحات التي باحت بها عن نفسها – وان كان الناقل لها هو الآخر الرجل حين قام لاحقا بانتخاب هذه الأمثال حصرا وتدوينها – تعبر إلى حد ما عنها هي كذات فاعلة بدل ان تكون موضوعا لغويا فقط ” مكممة الصوت ولا دليل عليها سوى ما توصف به كغياب ومضمر أو ما يقال على لسانها “(3) ، وللإنصاف فحتى إن كان يوجد في هذه الأمثال المروية عنها ما ينسجم مع التنميط الذكوري فهذا يستحق الدرس ، إذ إن ” الصورة المستقرة للمرأة في قاع ذاكرة الوجدان الجماعي صورة المرأة من وجهة نظر الرجل أو التي أسهم الرجل وحده في إنتاجها,وإنما نعني بذلك أيضا الصورة القابعة في ذهن المرأة عن ذاتها والتي شاركت هي نفسها في استقرارها , أما بالاستسلام للشروط السلطوية التي أنتجها او بعدم التدخل لصياغة صورة بديلة أو الإعلان على الأقل عن الاختلاف عنها أو معها”(4).
ففي حكاية المرأة التي لم تجد من يعينها بعد ولادتها واعداد الطعام المخصص للنفساء (المخرس) ، فهي تخاطب نفسها “تخرسي يا نفس لا مخرس لك” (5) ، فهذه الكلمات ما كانت لتحمل هذا الصدق المعنوي على لسان أي رجل غيرها وهي تمر بحالة لا يمكن ادراكها الا من مرت بها .
وفي حكاية المثل “عيّ أبأس من شلل” (6) ، إن امرأة تقدم للزواج منها رجلان ، أحدهما عيّ كثير المال والآخر أشلّ لا مال له، فاختارت الثاني ، وفي قولها الذي صار مثلا ، دلالة أن المرأة تريد شريكا عقليا فهي تفضله ناطقا وان كان به عيب خلقي بلا مال .
وحكاية الفتيات اللواتي تذكر كل واحدة منهن في أبيها ما تراه من صفات تميز الرجل عن غيره ، فان واحدة منهن تقرر قبل فرويد بقرون إن “كل فتاة بابيها معجبة ” (7) ، وفي هذا المثل فان المرأة نقلت لنا ما تفكر به النساء في مجلسهن الخاص واي الصفات الرجالية التي تسترعي انتباهها ، ولو روي هذا الحكم على لسان رجل لقيل ان صورة المرأة المعجبة بابيها صورة من وجهة نظر الآخر الأبوي .
هذه الأمثال بما فيها من حكمة وتوثيق عن الحياة عامة يعد انتاجا مبكرا لها على صعيد التكوين الثقافي ، وهنا الأهمية الاكبر حين يٌنظر للمرأة كونها صانعة للثقافة العامة التي تحكم الجنسين معا ، وهنا تجيب عن سؤال الدكتور عبد الله الغذامي حين اثار اشكالية “انه لو تيسر للمرأة ان تكتب تاريخ الزمان والاحداث وتولت بنفسها صياغة التاريخ ولم يك ذلك حكرا على الرجل وحده ، اذن لكنا قرأنا تاريخا مختلفا عن فاعلات ومؤثرات وصانعات للاحداث ، وهنا ستكون الانوثة قيمة ايجابية مثل الفحولة تماما “(8) ، وما استطاع الوجود النسوي تمريره على الرغم من الحصار الذكوري للمدون العربي امكن الاقرار بانه “كلما توغل النقد في دراساته الجندرية اكتشفنا ان نتاج المرأة الفني والفكري والثقافي كان ذا شأن مهم لكن الرجل همشه واغفله قصدا وفقا للسياسات الجندرية التي تنطوي على افتراضات الرجل الناقد القبلية وطرق تعليله وتحيزه الى جنس الذكر تحيزا كاملا”(9).
اذ حين يُروى عن الفرزدق وقد ذكر امامه شعر لشاعرة قوله :” اذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتذبح” (10) ، اشارة منه لرفض اشراك المرأة في مهمة الرجل حصرا ، وهي مهمة (القول) وتشكيل الثقافة العامة ، مع ان الثقافة الذكورية قررت “ان تكون المرأة شاعرة فهذا اهون على الفحولة من ان تكون منظرة وناقدة وصاحبة رأي وفكر ونظرية” (11) ، والأمثال من ضمن التنظير الثقافي الذي اخذ دورا في تشكيل الحضارة.
في هذه الأمثال محاولة معكوسة من المرأة لتنمط صورة الاخر / الرجل ، وقد استهجن النقد العربي ان يكون الرجل على الصورة التي تريدها النساء له ، وحاول ان يظهر ان الصورة التي ترسمها النساء للرجل محصورة في المظهر الخارجي مما يجعل هذا الرأي النقدي بدوره تصوير للمرأة في كونها سطحية ، فعند قدامة ” يقال ان الانسان غزل اذا كان متشكلا بالصورة التي تليق بالنساء ، وتجانس موافقاتهن لحاجته إلى الوجه الذي يجذبهن إلى أن يملن إليه ، والذي يميلهن إليه هو الشمائل الحلوة ، والمعاطف الظريفة والحركات اللطيفة والكلام المستعذب والمزاح المستغرب”(12) .
وهذا الرأي نقضته امثال عدة ذكرها الميداني منها ما كان على لسان المرأة نفسها وهي تقيم الرجل بغير ما ذكر قدامة ، فالفتاة التي اشتهر جمالها فتسابق الخطاب للزواج منها واخذ كل منهم يستعرض امامها مهارته ، تنصحها اختها بالمثل : “ترى الفتيان كالنخل ، وما يدريك ما الدخل”(13) ، منبهة الى ان الرجل قد يعجب ظاهره الا ان ما يحمل من صفات معنوية هي الاهم .
ومثل قول ملكة سبأ وقد خطبها رجل ” لا عتاب على الجندل “(14) ، ففي حكاية المثل إن الخاطبين يصفون ما يمتازون به من مثل عليا وهي تفاضل بينهم من دون ذكر للغزل الذي أشار إليه قدامة .
ويلاحظ إنها عمدت إلى إسلوب السخرية من صفات الرجل التي لا تلاقي رضاها ، مؤشرة الى إنها قادرة على الانتقاص منه حين تجد فيه ما يعيب وليس هذا الأمر حكرا على الرجل ، ففي حكاية الزوج البخيل الذي كان لا يشتري اللحم لبيته وقد دخل فوجد عند زوجته لحما تأكله ، فاقبل يأكل معها وهو يجمع قطعتين قطعتين في تناوله ، فقالت تسخر منه ” ابرما قرونا” (15) ، وفي موضع آخر ” ألام من البرم القرون “(16) .
وكذلك حكاية الزوج الذي دخل بيته فخبروه بولادة طفل له ، فلم يبال بل طلب الطعام بسرعة فلما قدم إليه وشبع سأل عن المولود والوالدة ، فقالت من حضرت الموقف : “غرثان فأربكوا له”(17) ، هازئة من اهتمام الرجل بطعامه إلى هذا الحد ، ومثل هذا المعنى قالته اخرى “ببطنه يعدو الذكر”(18).
والرجل الذي هرب من قتال العدو مختبئا ببيته ، فرأى زوجته تنظر إلى القتال فضربها غيرة ، فالزوجة لم تصمت وإنما عيرته بما سار مثلا ” أغيرة وجبنا ” (19).
وتكررت في كتاب (مجمع الأمثال) حالة المرأة التي تتزوج مرة أخرى بعد فراق لموت أو طلاق ، وهي تقارن بين الزوجين علنا وتقدم الأفضل بينهما بما ترى انه يمتاز به مما يستفز الزوج الذي يكون حاضرا يسمعها ، وهذا في حكاية المثل “حق لفرس بعطر وأنس ” (20)، فهي بعد أن ذكرت زوجها الراحل (فرس) وقد مرت على قبره بأنه كان أفضل من زوجها الحالي دفعها زوجها فسقطت وبيدها عطرها على القبر فانسكب عليه ، فلم تترك الموقف إلا وهي تزيد للزوج الراحل المدح والتنكيل بمن لا تهواه فتقول استحق العطر وان تكون هي أُنسه.
سجلت لنا الأمثال نماذج من الشواعر اللائي قلن أبياتا يتيمة فيها من الحكمة ما جعلها تدور على الألسن وتضرب أمثلة ، مما يدفع للبحث بالقول إن المنتجة لهذا الشعر لم تقله ابتداء ولم تقله وتصمت ، فضلا عن انه وبحسب الحكايات المصاحبة لمناسبة قول المثل فإنها تقوله ارتجالا ، وهذا يؤكد انه لابد أن تكون هذه الأشعار مسبوقة ومتبوعة بشعر اقل ما يقال عنه انه ناضج ، كما يؤكد تعمد إغفال رواية وتداول ومن ثم تدوين أشعار النساء لأسباب اهتم بها النقد النسوي .
ينقل الميداني حكاية مثل لامرأة أنجبت ثلاث بنات فهجرها الزوج حتى مر قرب بيتها فأسمعته أبياتا وهي تلاعب ابنتها تقول فيها :
ما لأبي الذلفاء لا يأتينا
وهو في البيت الذي يلينا
يغضب ان لم نلد البنينا
و انما نعطي الذي اعطينا(21)
وهنا يمكن تسجيل صوت مطالب بحقوقها والدفاع عن بنات جنسها التي لم تدون في التاريخ البشري الا بعد قرون من وقت هذا القول .
وقالت عجوز ما ذهب مثلا :
ليت حظي من أبي كرب
أن يسد عني خيره خبله (22)
وحكايته إن شدة نزلت بقوم فبشروا عجوزا عمياء فيهم بقرب ابو كرب وهو تبع من تبابعة اليمن فأنشدت بيت الشعر المذكور ، وفيه رؤيا سياسية عميقة تقارب ما رواه الله سبحانه وتعالى عن بلقيس ملكة مأرب وقد قرب سليمان – عليه السلام- بجيشه من دولتها فقالت ” ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون “(23).
وفي حكاية خذام بنت الريان ، إن قوم أبيها اقتتلوا مع آخرين ، فلما غلب أعداؤهم فروا ليلا حتى عسكروا في ارض بلاقع ، فتبعهم القوم فاثأروا القطا فتنبهت خذام لذلك فقالت ما اشتهر عنها مثلا :
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا
فلو ترك القطا ليلا لناما (24)
والفتاة التي رأتها أمها تحثو التراب على راكب فسألتها فقالت :