تطور مفهوم الذكاء عبر العصور: من الفلسفة إلى علم النفس
تطور مفهوم الذكاء عبر العصور: من الفلسفة إلى علم النفس
ملخص:
يُعدّ الذكاء من المفاهيم العريقة التي حظيت باهتمام بالغ من قِبل علماء النفس، لما له من أهمية قصوى في حياة الأفراد. وعلى الرغم من ذلك، لم يتمكن العلماء من التوصّل إلى تعريف جامع مانع له، وذلك بسبب اختلاف وجهات النظر وتنوّع التفسيرات. ومن بين التعاريف المطروحة، يُعرف الذكاء بأنه القدرة على أداء نشاط عقلي يتسم بالصعوبة والتعقيد والتجريد والسرعة والاقتصاد. وهذا يشير بوضوح إلى أن الذكاء يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتحصيل الدراسي، وحل المشكلات، واستخدام الاستدلال، وغيرها من المهارات العقلية المعقدة وعالية المستوى. ونتيجة لذلك، ظهرت العديد من النظريات التي حاولت تفسير الذكاء من وجهات نظر مختلفة، ومن أبرز هذه النظريات: نظرية سبيرمان، ونظرية ثيرستون، ونظرية ثورندايك، ونظرية جيلفورد، وغيرها. وقد توصلت كل نظرية إلى وجود صورة واحدة أو عدة صور للذكاء الإنساني، حتى وصل الأمر بنظرية جاردنر إلى الإقرار بوجود ثمانية أنواع من الذكاء، ثم أضاف إليها نوعًا آخر ليصبح تسعة أنواع. كما توصل العلماء إلى طرق لتقييم الذكاء باستخدام مقاييس محددة، تعتمد على معادلة الذكاء التي تقسم العمر الزمني على العمر العقلي. وبناءً على نسبة الذكاء، تم تحديد فئات مختلفة للأفراد، منها العبقري، والذكي، ومتوسط الذكاء، والمتخلف، وغيرها من الفئات التي حددها العلماء. إضافة إلى ذلك، لم يتفق العلماء على العامل الأكثر تأثيرًا في ذكاء الفرد، هل هو الوراثة أم البيئة وعواملها المختلفة. وقد أُجريت العديد من الدراسات التي حاولت إثبات دور أحد العاملين على الآخر، ولكن في نهاية المطاف، تم التوصل إلى أن كلًا من الوراثة والبيئة يؤثران في نسبة ذكاء الفرد.
تشير الدراسات النفسية إلى أن مفهوم الذكاء أقدم نشأةً من علم النفس وأبحاثه التجريبية، فقد ظهر في إطار الفلسفة القديمة التي اهتمت بدراسة العلوم البيولوجية والفسيولوجية العصبية، وانعكس هذا الاهتمام على النشاط العقلي. فقد قسّم أفلاطون النفس الإنسانية إلى ثلاث قوى: العقل، والشهوة، والغضب، بينما اختصرها أرسطو إلى قوتين فقط، إحداهما عقلية والأخرى انفعالية. وهذا يدل على أن الفلسفة اليونانية كانت تؤكد على الجانب الإدراكي للنشاط العقلي للفرد. ومن الجدير بالذكر أن كلمة “الذكاء” ظهرت لأول مرة على يد الفيلسوف الروماني “شيشرون”، ثم شاعت في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وتعني لغويًا الذهن أو الفهم أو الحكمة، وقد تُرجمت إلى العربية بمصطلح “الذكاء”، ويعني الفطنة والتوقد، ويدل على زيادة القوى العقلية للإدراك. وكان الاعتقاد السائد لدى الأغلب هو أن الحواس هي مفتاح العقل، وأنه عن طريقها تصل المعلومات. وكانت محاولة قياس النشاط العقلي ككل في العمليات العقلية هي بداية الفتح في قياس الذكاء بالاختبارات الحديثة. واليوم، وبرغم معالجة موضوعات الذكاء في ميدانه السيكولوجي الصحيح الذي يدرسه علم النفس كمظهر عقلي من مظاهر السلوك الذي يخضع للقياس العلمي، ومع تطور معانيه نتيجة لنجاح وسائل القياس وحداثة مفاهيمه، إلا أن آثار الماضي الطويل لا تزال تلقي بظلالها عليه، ولا سيما في تحديد بعض المعاني الشائعة عن مفهوم الذكاء.
مفهوم الذكاء:
على الرغم من الاستخدام الواسع لكلمة “الذكاء”، فإن علماء النفس لم يتفقوا على تعريف واحد له. ومع ذلك، يتفق عدد كبير منهم على أن جميع الموضوعات التي يطلق عليها اسم أشكال أو صور للمعرفة من المرتبة العليا، مثل تكوين المفاهيم، أو الاستدلال، أو حل المشكلات، أو الإبداع، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالذكاء الإنساني. يصف بعض الخبراء الذكاء بأنه مهارة حل المشكلات، بينما يصفه آخرون بأنه القدرة على التكيف مع خبرات الحياة اليومية والتعلم منها. وعند مزج هذه الأفكار، يمكن تعريف الذكاء بأنه مهارة حل المشكلات والقدرة على التعلم من الخبرات اليومية في الحياة والتكيف معها. ويرى العديد من علماء النفس أن القدرات المعرفية مرادفة للذكاء، ومنهم على سبيل المثال (هنت)، الذي يشير إلى أن الذكاء يُستخدم كمصطلح جامع للفروق الفردية المثبتة في الكفاءة العقلية. بينما لا يقوم علماء نفس آخرون بهذه المساواة، ولكن يتفق معظمهم على أن الأفراد يتباينون بالفعل في قدراتهم العقلية. ولا يتفق علماء النفس بشأن ما إذا كانت الطريقة الأفضل لوصف هذا التباين تكون من حيث قدرة عقلية عامة واحدة تُدعى الذكاء، أم من حيث قدرات عقلية متباينة متعددة. وحتى بين علماء النفس الذين يتقبلون فكرة القدرة العقلية العامة التي تُدعى الذكاء، هناك جدل حول ماهيتها.
طبيعة الذكاء:
يمكن إرجاع الذكاء حسب طبيعته وتكوينه إلى ثلاثة أسس رئيسية هي:
الأساس الفسيولوجي للذكاء:
يشير بعض علماء الفسيولوجيا والبيولوجيا المهتمين بدراسة طبيعة الذكاء إلى أن ذكاء الفرد يحدده عدد كبير من المورثات، وهي حاملات العامل الوراثي في الصبغيات. ويرى الكثير منهم أن الذكاء يتعلق بكبر سطح الدماغ، وعمق تعاريجه، وكمية الدم التي تغذيه. وضمن هذا التصور، يرى البعض من علماء النفس، مثل هربرت سبنسر، ومن ثم لويد مورجان ومكدوجل، أن الذكاء بطبيعته قدرة موروثة وعامة في نشوء الأنواع وتطور الأفراد، ويتميز بصورة اضطرارية أو ينمو من خلال التكيف. وقد ميز سبنسر بين جانبين للحياة العقلية، هما الجانب المعرفي والوجداني، وحدد وظيفة الجانب المعرفي فيها بمساعدة الكائن العضوي على التكيف بطريقة أكثر فاعلية لبيئة متشابكة معقدة ومتغيرة. ويسير ثورندايك في نفس الاتجاه، ويفسر الذكاء بيولوجيًا بمعنى أن الذكاء تحدده إمكانيات كامنة في التكون الجسمي للكائن الحي موروثة وليست مكتسبة. إلا أن هناك العديد من الصعوبات الجمة التي اعترضت هذا المفهوم القائم على أساس دراسة علوم الحياة وعلم وظائف الأعضاء، منها أن اختبارات الذكاء لا تحاول قياس التكيف أو قابلية التعلم.
الأساس النفسي في الذكاء:
الواقع أن مشكلة الذكاء النفسية تكمن في أنه ليس مجرد وظيفة بسيطة من وظائف النفس، بل هو عملية معقدة تتعلق بارتباطه بهذه الوظائف التي لا يمكن عزلها، فهو قوة التآزر والربط بين الوظائف العقلية المختلفة. وتبدو هذه الفعالية في القدرة على حل المشكلات عن طريق إدراك العلاقات المختلفة. غير أن هذه القدرة قد تكون موجهة إلى ناحية معينة، ولهذا يمكن اعتبار الذكاء أكثر من مجرد عامل عام ينجم عن التحليل الإحصائي لمجموعة من الإنجازات الفكرية، فهو قدرة تساعد على مواجهة المشكلات المتباينة التي تكون على مستويات متفاوتة من التعقيد. وبالرغم من التعددية النفسية، إلا أن هنا مظهرًا عامًا للذكاء يتمثل في القدرة على حل كل المشاكل على السواء بنفس الفعالية والتفوق.
الأساس الاجتماعي في الذكاء:
لا شك أن للذكاء علاقة رئيسية بمدى نجاح الفرد في حياته الاجتماعية، وذلك لأن الفرد لا يحيا في فراغ، وإنما يعيش في مجتمع يتفاعل معه ويؤثر ويتأثر فيه. لذا، فإن بعض العلماء يميلون في تحديدهم لطبيعة الذكاء إلى هذه الناحية الاجتماعية، على اعتبار أن هناك عوامل اجتماعية ناتجة من التفاعل الاجتماعي، كمعرفة اللغة السائدة في الثقافة، والمفاهيم المختلفة التي تتعلق بالزمان والمكان والقوانين وما شابه ذلك. وهناك معيار للحكم على وجود الذكاء أو عدم وجوده، وهو معيار اجتماعي، لأن الذكي هو الذي يستطيع حل ما يصادفه من مشكلات اجتماعية. كما أن الذكاء الاجتماعي يتغير تبعًا للسن أو الجنس أو المكانة الاجتماعية، فبعض الناس يحسنون التعامل مع الراشدين، بينما لا يستطيعون التعامل مع الأفراد، والبعض يفضل دور القيادة، بينما آخرون يفضلون الانصياع والخضوع.