الذكاء الروحي مفتاح جودة الحياة
اعداد
م./ ندى رحيم سلطان
نال مفهوم الذكاء الروحي بوصفه احد انواع الذكاءات المتعددة قدرا كبيرا من الاهمية بين علماء النفس ، إذ حاولوا التعرف عليه وكشف خصائصه وربطه بابحاث الدماغ والصحة النفسية ، ومعرفة ما مدى تأثيره على الشخصية ، والمؤشرات السلوكية للمنافع البعيدة المدى ، والحساسية الروحية والانفعالية .
فعلى سبيل المثال هناك بعض الشواهد حول علاقة الذكاء الروحي بالدماغ ، إذ يقول رجل الدين الصوفي عمانؤيل سوادنبيرغ (مؤسس كنيسة سوادنبيرغ في القرن الثامن عشر) الذي كان يتمتع بقدرة على التنبؤ بالمستقبل : بعدما تعرضت للجلطة الدماغية التي ادت الى اصابتي بالشلل النصفي ، فقدت قدرتي على الاستبصار وكشف المستقبل visionary capacity (Wulff, 1991) ، كذلك أيدت الدراسات التجريبية الحديثة العلاقة الايجابية بين بعض المعتقدات والممارسات الروحية وشعور الفرد بالصحة النفسية والجسمية (Richards, 1999) وكشفت الدراسات عن وجود علاقة ايجابية بين الذكاء الروحي وتماثل الفرد للشفاء (Dossey, 1993) فضلا عن ذلك تحرى الباحثون عن تأثير المعتقدات الروحية على عمليات الاحتضار dying process (Gallup, 1997) ومدى مساهمة التطبيقات العملية الروحية (للطب والطب البديل) بالشفاء من الامراض (Boyle, 1999) .
– تعريف الذكاء الروحي :
اعتمادا على خبرتي لسنوات عديدة من العمل في ايجاد العلاقة بين علم النفس والجانب الروحي ، اود ان اعرض بعض المنظورات التي اعتقد انها يجب ان تكون ضمن تعريف الذكاء الروحي spiritual intelligence ، إذ يرتبط هذا الذكاء بالحياة الداخلية للعقل والروح والوجود في العالم ، والذي يشير الى امكانية الفهم العميق للأسئلة الوجودية (كيف خلق الكون؟ ، ومن أين جاءت الكائنات الحية الاخرى؟، وكيف خلق الانسان؟ ..الخ) ، والوعي الروحي بما هو موجود من حياة كالشعور بالنباتات والحيوانات والوجود البشري ، والوعي العميق بالقضايا الفكرية والمادية والحياتية ووجود الاشياء كجسم وعقل وروح ، لذا فان الذكاء الروحي اكثر من مجرد قدرة عقلية ، ويظهر كاتصال شخصي بين ذات الفرد والناس والحياة والكون ، وبذلك يذهب الذكاء الروحي الى ما بعد التطور النفسي التقليدي ووعي الفرد بذاته ، لأن الذكاء الروحي يدل على الوعي بعلاقتنا مع بعضنا البعض وسمونا فوق هذه العلاقات ، ووعينا بما هو موجود على الارض ، وجميع الكائنات ، وبذلك فاني كمختص في العلاج النفسي اجد ان الذكاء الروحي يفتح القلب وينير العقل ويلهم الروح ، ويصل النفس الانسانية بما هو موجود حولها ؛ ويمكن ان يتطور الذكاء الروحي من خلال الممارسة ليساعد الفرد على تمييز الواقع عن الوهم ، ويطور من قدرة الافراد على الحب والمساعدة واكتساب الحكمة بغض النظر عن الثقافة التي ينشأ فيها الفرد.
وبما ان الذكاء الروحي يرتبط بالذكاء الانفعالي فان الممارسة الروحية spiritual practice تتضمن تطوير الحساسية الانفعالية لدى الافراد وعلاقاتهم بالاخرين والعكس صحيح ، إذ ان توجيه الانتباه الى الافكار والمشاعر والتعاطف (الذكاء الانفعالي) يزيد من وعينا بحياتنا الروحية ، وبهذا يساعد الذكاء الروحي على اكتشاف المنابع الخفية للحب والبهجة وسط ضغوط واضطراب الحياة اليومية.
– النضج الروحي :
يمكن ان يتطور الذكاء الروحي لدى أي فرد من خلال الممارسات المتنوعة والتدريب على الانتباه للذات وتحويل الانفعالات السلبية الى ايجابية وغرس السلوك الاخلاقي في الذات ، وعلى الرغم من ان الذكاء الروحي يرتبط بالنمو الاخلاقي والمعرفي والانفعالي إلا انه لا يظهر بشكل مراحل تطورية متسلسلة ومنظمة خلال مراحل حياة الانسان ، إذ ان الذكاء الروحي يمكن ان يتطور بنسب متفاوتة لدى الافراد كالذكاءات الاخرى (مثل تفوق الفرد في الذكاء اللغوي اكثر من الذكاء الفني) ، وقد يتوقف نمو الذكاء الروحي لدى أي فرد عندما يواجه صعوبات تعرقل تطوره الاخلاقي والانفعالي ، إذ ان هذان النوعان من النمو (الخلقي والانفعالي) يرتبطان بمؤشرات النضج الروحي التي تدل على حسن التصرف والحكمة والوقار والشفقة عند التعامل مع الاخرين بغض النظر عن جنسهم او عمرهم او مذهبهم الديني او اصلهم العرقي ، فضلا عن احترام جميع اشكال الحياة ، وبهذا نجد ان النضج الروحي عبارة عن الاحساس الشخصي بالبصيرة وفهم القضايا الروحية اعتمادا على التمييز بين الاوهام والمسائل الروحية الحقيقية وتقبل مفاهيم الحرية والفناء الوجودي existential freedom and mortality ، ولا سيما ان النضج الروحي يدل على عمق وسعة الرؤية الداخلية التي تشمل على مجموعة واسعة من وجهات النظر والانواع المتعددة من المعرفة ، فهو عبارة عن ربط الحياة الداخلية للعقل والروح مع الحياة الخارجية التي تتضمن العمل وخدمة العالم.
وبما ان النضج الروحي يتطلب من الافراد ان يكونوا واعين بذاتهم ، فأنهم عندما يوجهون انتباههم نحو الداخل (داخل الذات) يبدؤون بمحاولة الاهتمام بأحاسيسهم ومشاعرهم وافكارهم الشخصية ، ويكونون منشغلين تماما بقضاياهم الشخصية ، وغير قادرين على اسكات العقل حتى لمدة دقيقة ، إذ يبدو ان لعقل الفرد عقل خاص به ايضا، الذي يكون منشغلا بصورة مستمرة في مراجعة الماضي او تخيل الخطط للمستقبل ، وبهذا فان سعي الفرد الى تركيز انتباهه على الداخل سيؤدي الى ان تكون لديه خيارات واعية ، وسيستطيع القيام بعمليات توقف العادات القديمة للتفكير والانماط السلوكية غير المرغوبة بها ، وسيتمتع بدرجة كاملة من الانتباه والفهم ، وستكون لديه قدرة على شفاء الجروح القديمة او شفاء روحه من الألم ، إذ عندما الفرد يمارس تأملات عميقة من خلال الاندفاع نحو الكمال والرغبة في الفهم فان الروح ستفتح طريقا يؤدي بشكل تدريجي الى النضج الروحي ، وعندما يصل الفرد الى هذا المستوى من النضج فانه سيتسم بالحب والرحمة والامانة والتسامح وانفتاح العقل والسلام الداخلي والاصالة في مواجهة تحديات الحياة الوجودية.
– الطريق الروحي :
ان الطريق الروحي عبارة عن استعارة لتطور النوعيات الروحية التي يتضمنها الذكاء الروحي ، ويتمثل هذا الطريق بالطاعة والالتزام والسلامة الذي يوصل الافراد من عبودية اللاشعور الى الحرية الوجودية ، ومن الخوف الى التمسك بالحب والرحمة ، ومن التجاهل والارباك الى الحكمة والفهم (Vaughan, 1995) . ويمكن وصف هدف هذا الطريق من خلال عدة مفاهيم مثل التنوير enlightenment ، واليقظة awakening ، والسلام الداخلي inner peace ، والادراك الذاتي self-realization ، ومهما كان الهدف فان هذه العملية تتضمن تحويل وتطوير وعي الفرد الروحي من خلال الممارسات الروحية (كالصلاة والتعبد واليوغا والصبر..الخ) ، إذ يمكن للممارسة الروحية ان تعمق من امكانيتنا على الحب والرحمة والحكمة والسمو ومساعدة الناس ، وبذلك يزودنا الذكاء الروحي بالإمكانية على إدراك قيم هذه النوعيات في الذات والاخرين ، والارتقاء الى مستويات عليا من الوعي والسمو الذاتي او النزول الى الطبيعة المشتركة والوعي الجسدي (Wilber, 1995)
وبهذا الصدد يجب القول انه لا يوجد اتفاق بين الباحثين والروحانيين حول الطريق الروحي الذي يوصل الفرد الى الحرية والحكمة ، فنجد ان الشري أوروبندو Sri Aurobindo (فيلسوف هندي معاصر له كتاب عن اليوغا( يرى ان الطريق الروحي يوصلنا الى بلوغ الحرية والسمو من خلال الممارسات الروحية ولكن بشرط ان يكون الارتقاء الى المقدس الخطوة الاولى لهذا الطريق ، لأنه المسار الى الوعي الجديد وارتقاء العالم ، في حين يختلف هذا الطريق عن رحلة الروح في المسيحية ، ومراحل الذات لدى الصوفيين Sufism ، في حين يرى عالم النفس ويذر Wither ان هناك مراحل للطريق الروحي ، تتمثل بـ
-المرحلة الاولى (الفردية) : التمركز حول الذات self-centered ، يمارس الفرد طقوسه الدينية والروحية في الاوقات التي يبحث فيها عن العزاء والالم والمعاناة او يصلي من اجل الحصول على المساعدة عند مواجهة الازمات واليأس .
-المرحلة الثانية (التقليدية) : يتوسع الاهتمام من الذات الى مصلحة الجماعة مثل مشاركة الفرد لطقوسه الدينية مع العائلة او المجتمع او الجماعة الدينية المذهبية والاثنية ، وترتبط الحياة الروحية في هذا المستوى مع الجماعة كحضور الجامع والكنيسة او المعبد واحياء الطقوس والعطل الدينية مثل التعميد والزواج والجنازة كاهتمام رئيسي للحياة الدينية ، لذا فان الفرد يتبع العادات الدينية الاجتماعية .
-المرحلة الثالثة (ما بعد التقليدية) : تدعى بالمرحلة التطورية لما بعد احياء الطقوس الدينية الاجتماعية ، وفيها يمتد الطريق الروحي الى متطلبات الوعي الذاتي والالمام بالطرق المتنوعة للحقيقة الروحية المدركة ، ، وهذا الوعي يمكن ان يتكامل في مرحلة الرشد ليصل الى النضج الروحي الذي يتضمن التعاطف والشعور بالقضايا والقوى الغيبية والالمام بالخرائط الرمزية المتنوعة للشعور (Wither, 1997)
وبهذا الصدد تختلف طرائق الناس الروحية في جميع الثقافات ، وذلك وفقا لما يعتنقونه من ممارسات روحية ، إذ نجد ان بعض الافراد يتمسكون بتعاليم روحية معينة في حين يتبنى البعض الاخر تعاليم روحية متنوعة لأكثر من تقليد ديني واحد (على سبيل المثال نجد ان الكثير من المسيحين يتبعون التقاليد الروحية والدينية البوذية) (Wuthnow, 1998) وقد تتضمن الممارسات طقوس معقدة او بسيطة مثل تهدئة الذات او الاستماع الى الصوت الموجود في داخل الجسم او الاستماع الى العقل عند توجيه التفكير والتأمل بالذات والاصغاء الى الاشياء والقضايا الروحية (Johnson, 1998) وبهذا يمكن القول ان الطريق الروحي هو ذلك المسار الذي يؤدي الى الحب والحرية والرفاهية بدءا من الشخص ككل الى العائلة والكوكب والشبكة الواسعة للحياة