وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الإنسانية
قسم العلوم التربوية والنفسية
التربية البيئية – المفهوم والممارسة
اعداد م.م كاظمية عبدالهادي الربيعي
أصبحت قضية البيئة والمحافظة عليها من أهم القضايا التي تشغل المجتمع العالمي في الوقت الراهن، لما تمثله المشاكل البيئية من خطر على الحياة البشرية والتنمية الاقتصادية على المدى القصير والطويل، مما ادى الى جعل عملية الحفاظ على البيئة وحمايتها بعدا استراتيجيا للإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية وشرطاً أساسياً لتحقيق التنمية المستدامة فالتأهيل البيئي يستلزم التقليل من المشاكل البيئية والتي تنتج من جراء تفاعل الفرد والمؤسسة مع البيئة من خلال السياسة البيئية للدولة من جهة وتوفر الثقافة البيئية للفرد والمجتمع من جهة أخرى وبالتالي فان الجهود التي تبدل للتأهيل البيئي للمؤسسات لا ترتكز فقط على تبني الدولة للسياسة البيئية وإنما ترتكز بالدرجة الأولى على ارتباطه ببيئته فينتشر الوعي البيئي بين الأفراد والمؤسسات ويتم عندها اكتساب الاتجاهات البيئية والمهارات الأساسية لمواجهة مشاكلها والمحافظة عليها وتتيح للمؤسسات الاستمرارية والتفاعل الايجابي مع البيئة وتحقيق التوازن فيها من خلال تشارك وتكامل جهود الدولة والمجتمع معا . وإن حماية البيئة لا يمكن أن تعتبر فقط كسياسة من سياسات الدولة يقتصر محتواها على توجيهات وقوانين ذات بعد قصير المدى بل يجب أن ترتقي إلى بعد استراتيجي تتكامل فيه مجهودات الدولة من خلال سياستها البيئية – مع الثقافة البيئية والتربية البيئية والوعي البيئي للفرد والمؤسسة والمجتمع ككل لتطبيق هذا البعد الاستراتيجي وتحسين التنمية المستدامة. ولقد مرت علاقة الأنسان بالبيئة كما هو معروف بمراحل عديدة عكست على اثرها ظهور المشكلات البيئية ولعل أبرز مرحلة في هذا الشأن هي مرحلة استغلال الأنسان للموارد الطبيعية عشوائيا وبشكل جائر على حساب التوازن البيئي ودون الاهتمام لاحتياجات الأجيال التالية وللكائنات الأخرى للبقاء مما ادى الى بروز ظواهر تنذر بأخطار كبيرة وتحولت اجزاء واسعة من الكرة الأرضية الى بيئة ملوثة وحتى معدمة، بلغت في مناطق عديدة عدم صلاحيتها لحياة الكائنات الحية. وقد نسي الأنسان بدوافع عديدة أغلبها غير مشروع أن يخرب ويدمر الأطار الذي يحيا فيه ويحصل منه على غذائه وكسائه ويمارس فيه علاقته الاجتماعية مع أقرانه من بني البشر. وبذلك ظهرت حركة مناوئة للأعمال المخربة للبيئة واليوم لا تقتصر مشكلة البيئة فقط على التلوث بل تتعداه حيث تشمل باقي المشكلات البيئية كالمرور والأسكان واستنزاف الموارد، ونقص الغذاء، وتدهور التربة، والتصحر وزيادة السكان، وغيرها من المشاكل البيئية الأخرى. من هنا برزت وتبرز أهمية التربية البيئية والتوعية البيئية والوعي البيئي المطلوب لمواجهة المشكلات التي نتجت عن ممارسات الأنسان الخاطئة الناجمة عن انعدام أو نقص الوعي البيئي لديه. وتفاقمت المشكلات البيئية طرديا مع مواصلته استغلال الموارد البيئية عشوائيا لحد استنزافها وقيامه بوعي او دون وعي بتدمير الأنظمة البيئية حتى هددت حياته. وبذلك برزت الحاجة لتوعية الأنسان وافهامه كي يدرك مخاطر سلوكياته الخاطئة تجاه بيئته . وحتم ذلك ضرورة ان يربي الأنسان منذ نشأته تربية بيئية صحيحة تبدأها الأم مع رضيعها حتى يصل الى سن المدرسة بمشاركة الأسرة بدءا من رياض الأطفال حتى المرحلة الجامعية . لخلق وعي بيئي وأسس تربوية تجاه البيئة لكي يفهم حقيقة البيئة ويتعامل مع المكونات الحية وغير الحية بشكل صحيح .
ونتيجة لذلك فقد تزايدت في عصرنا الحاضر الدعوات من جانب المهتمين بالقضايا البيئية والمتخصصين في علم النفس إلى مزيد من البرامج الإرشادية والمناهج الدراسية والمشاركة المجتمعية بهدف تنمية تربية بيئية فعالة بين أفراد المجتمع، بحيث تؤدي في النهاية إلى سلوك إيجابي نحو البيئة، على أن تلك الدعوات قد ترجمت إلى خطوات عملية على أكثر من مستوى من خلال التربية البيئية ووسائل الإرشاد باعتبارهما من وسائل تنمية الاتجاهات الإيجابية نحو البيئة.
ومن وسائل تنمية السلوك الايجابي والاتجاهات الايجابية نحو البيئة لحماية البيئة والمحافظة عليها هي ما يأتي:
التربية البيئية:.
يقصد بالتربية البيئية عملية اعداد الانسان للتفاعل الناجح مع بيئته بما تشتمل عليه من موارد مختلفة ، فهي العملية الاساسية التي تعنى بأعداد المواطنين الواعين بالبيئة وما يرتبط بها من مشكلات والذين لديهم المعرفة والمهارة والرغبة والالتزام بالعمل على حل المشكلات الراهنة والمستقبلية، أو هي ذلك الجانب من التربية الذي يساعد الناس على العيش بنجاح على كوكب الأرض، وهو ما يعرف بالمنحى البيئي للتربية.
وتعتبر التربية البيئية بأنها تعلم كيفية ادارة وتحسين العلاقات بين الأنسان وبيئته بشمولية وتعزيز، كما تعني التربية البيئية كذلك تعلم كيفية استخدام التقنيات الحديثة وزيادة انتاجيتها وتجنب المخاطر البيئية وازالة العطب البيئي القائم واتخاذ القرارات البيئية العقلانية ، ويمكن ان تعرف أنها مجموعة من المعارف والاتجاهات والقيم اللازمة لفهم العلاقة المتبادلة بين المتعلم وبيئته التي يعيش فيها ، تحكم سلوكه أزاءها وتثير ميوله واهتماماته فيحرص على المحافظة عليها وصيانتها، من أجل نفسه ومن أجل مجتمعه، وقد عرفت كذلك على أنها عملية تكوين القيم والأتجاهات والمهارات والمدركات اللازمة لفهم وتقدير العلاقات المعقدة التي تربط الأنسان وحضارته بمحيطه الحيوي والتدليل على حتمية المحافظة على المصادر البيئية الطبيعية، وضرورة استغلالها الرشيد لصالح الأنسان حفاظاً على حياته الكريمة ورفقاً لمستوى معيشته . أي أنها عملية إعداد الأنسان للتفاعل الناجح مع بيئته لما تشمله من موارد مختلفة، ويتطلب هذا الأعداد أكسابه المعرفة البيئية التي تساعده على فهم العلاقات المتبادلة بين الأنسان وعناصر بيئية من جهة، وبين هذه العناصر وبعضها مع البعض من جهة أخرى، كما يتطلب تنمية مهارات الأنسان التي تمكنه من المساهمة في تطوير ظروف هذه البيئة على نحو أفضل. وتستلزم التربية البيئية أيضاً تنمية القيم التي تحكم سلوك الأنسان أزاء بيئته، وأثارة ميوله واهتماماته نحو هذه البيئة، واكتساب أوجه التقدير لأهمية العمل على صيانتها والمحافظة عليها وتنمية مواردها .
التطور التاريخي للتربية البيئية
ليست التربية البيئية حديثة العهد، فلها جذورها القديمة في مختلف ثقافات الشعوب والاديان السماوية، فالأديان السماوية لعبت دورا كبيرا في تحسين علاقة الانسان بما يحيط به، فالأخلاقيات المسيحية تدعوا الى الرحمة في التعامل مع الطبيعة وحسن استغلالها بحكمة، وفي الاسلام فان استخلاف الانسان على الأرض يقتضي الرحمة وينهي عن التخريب والفساد .
ومنذ أكثر من (2500) سنة كتب علماء الاغريق عن العلاقة بين الانسان والبيئة المحيطة به، وكيف ان الانسان بسلوكه وافعاله يمكن ان يؤثر سلبا او ايجابا في هذه البيئة. ففي حدود عام 350 قبل الميلاد أعلن افلاطون مخاطبا عشيرته ان معظم العلل الاجتماعية والبيئية التي تعانون منها هي تحت سيطرتكم، على أن تكون لديكم العزيمة والشجاعة لكي تغيروها . وكان افلاطون اول من نادى بان الذي يحدث تدهورا في البيئة، عليه ان يتحمل نفقات اعادة تاهيلها . فذكر في كتاب (القوانين) (ان الماء من الممكن تلويثه بسهولة، ومن يقوم بتلويث الماء بقصد، عليه ان ينظف البئر او الجدول، بالإضافة الى تعويض المتضررين من هذا التلوث). وتجدر الاشارة هنا الى ان المبدأ هو اساس ما يعرف اليوم بمبدأ ( من يلوث عليه ان يتحمل نفقات ازالة التلوث).
تعد العلاقة بين البيئة والتربية ، علاقة قديمة مرت بمراحل متميزة. حيث كانت البيئة هي المصدر الاساس للتربية ، يكتسب منها الانسان خبرات تفاعله مع مكوناتها المختلفة وعندما تطورت الحياة البشرية واتسعت الخبرات الانسانية برزت المدارس كمؤسسات اجتماعية تقوم بِتَزَوِّيد الخبرات الانسانية المتنوعة في صورة مواد دراسية، واصبح دور المتعلمين هو الالمام بهذه الخبرات خلال التعليم العام.
ان الوعي بالبيئة ومشكلاتها ليس بالموضوع الجديد بل هو قديم، قدم الانسانية ذاتها . وعندما انتبه الانسان منذ زمن بعيد الى البيئة التي يعيش فيها وانها ليست دائمة بل هي معرضة للتهديد والفناء ، و خصوصا في عناصرها الرئيسية الماء، والتربة)، لذلك كان الانسان كثير التنقل والترحال بحثا عن الامان أو الغذاء، أو الماء على وجه الخصوص الذي كان من اهم اسباب معظم حالات التنقل والترحال التي قام بها الانسان عبر التاريخ. وتطور هذا الاهتمام بعد ذلك وخصوصا بعد منتصف القرن الثامن عشر ولا سيما بعد قيام الثورة الصناعية في اوربا، وما نتج عنها من انتشار المصانع على قطاع واسع، وقيام حركة الاستعمار التي دفعت الانسان الى البحث عن الموارد الأولية الداخلة في الصناعة، والتي بدأت تعاني الاستنزاف في المجتمعات الصناعية نتيجة لسوء الاستغلال، ثم تطور هذا الاهتمام مع التقدم العلمي والصناعي الذي اخذ يشهده العالم في جميع المجالات. ولا سيما في المجال الصناعي الذي تسببت المنافسة فيه الى الاستغلال السيء للبيئة ومواردها من قبل الانسان مما انتج ذلك الاستغلال اشكالاً من التلوث البيئي، وظهور الكثير من الامراض المستعصية، كالسرطان، وامراض القلب والاوعية |الدموية. وقد تنبه الانسان الى هذه المخاطر، وما تسبب به من مخاطر لنفسه ولبيئته، حيث اصبحت حياته مهددة في كل لحظة، مما دفعه ذلك الى العمل على حماية البيئة وحماية نفسه، وذلك بالمحافظة على مواردها وصيانتها من الاستنزاف، وكانت الوسيلة الافضل لتحقيق غاياته هذه، أن يجعل من البيئة موضوعا للتربية والتعليم البيئي في داخل المدرسة وخارجها . ولهذا تعد التربية البيئية جزءا من العملية التربوية، وموضوعا للتربية والممارسات السلوكية لدى الافراد (المتعلمين) والمجتمعات البشرية سواء بسواء . وهكذا بدء الانسان المعاصر يهتم بالتربية البيئية اهتماما حقيقيا، وبخاصة بعد أن تسبب الانسان في افساد الكثير من مجالات الحياة ومقوماتها في البر والبحر والجو . ولقد تكاثر الانسان اليوم بشكل لم يسبق له مثيل، وازدادت احتياجاته الغذائية والسكنية والمائية، مما ادى الى انخفاض الموارد الطبيعية واستنزافها، وزادت الفضلات الانسانية. والحيوانية والصناعية و تلوثت البيئة الرئيسية بالملوثات المختلفة واختل توازنها . ودق ناقوس الخطر البيئي في البيئات الرئيسية الثلاث الارضية المائية، الهوائية وارتفعت صيحات الازمة والايكولوجية البيئية عالميا واقليميا ومحليا . وهكذا فقد اصحبت التربية البيئية بعدا من ابعاد التربية، وموضع اهتمام متزايد من قبل المجتمع الانساني، رغم انها بعيدة الاصول والجذور، على المستويات العالمية . والاقليمية والمحلية. فقد أدى هذا الاهتمام الى ظهور دراسات وبحوث وخبرات بيئية عديدة حاولت الهيئات والمنظمات الدولية جمعها وتنظيمها وتطويرها لتكون في متناول الدول المختلفة من جهة، وتسهيل تبادل الخبرات البيئية فيما بينها وتيسيرها من جهة أخرى.
خاتمة:
خلاصة القول ان التربية البيئية تعد من الوسائل التي تحقق أهداف حماية البيئة وصيانتها، وهي تشكل بعداً هاماً من أبعاد التربية الشاملة والمستديمة لتعديل سلوك الأنسان وتنميته إيجابيا لأعداده للحياة وتكيفه معها ، وتطبيعه اجتماعياً مع وسطه الذي يعيش فيه مع بيئته الطبيعية جنباً الى جنب.