“الفوضى والفدرلة: استراتيجيات استهداف الدولة السورية وتداعياتها الإقليمية”
“الفوضى والفدرلة: استراتيجيات استهداف الدولة السورية وتداعياتها الإقليمية”
شهدت سوريا منذ عام 2011 تحولًا جذريًا في بنيتها السياسية والاجتماعية والعسكرية، نتيجة لتشابك المصالح الدولية والإقليمية. لعبت القوى العالمية أدوارًا مركزية في تعقيد الأزمة السورية، بما في ذلك دول الناتو، والولايات المتحدة، وروسيا، إلى جانب الدور الإسرائيلي والدول الخليجية الداعمة لبعض الجماعات المسلحة. كما ساهمت الأخطاء الاستراتيجية الداخلية للنظام السوري في تفاقم الأزمة. تهدف هذه المقالة إلى تحليل أسباب تراجع الدولة السورية وتأثير ذلك على محور المقاومة، واستشراف السيناريوهات المستقبلية لتطورات الأزمة، مع تسليط الضوء على التداعيات الإقليمية والدروس المستفادة لدول المنطقة مثل العراق.
أولاً: أسباب تراجع النظام السوري يُعزى التراجع إلى عوامل داخلية وخارجية متشابكة، أبرزها:
العلاقة المتذبذبة مع محور المقاومة: رغم الدعم الكبير الذي قدمه محور المقاومة للنظام السوري، إلا أن محاولات تقارب النظام مع قوى خليجية كالإمارات والسعودية أثرت على هذه العلاقة. سعى النظام لتحقيق مكاسب آنية على حساب تحالفاته الاستراتيجية طويلة الأمد، مما أثار تحفظات داخل محور المقاومة، خاصة في ظل تقارير عن تفاهمات سرية بين دمشق وبعض القوى الخليجية【1】.
الاعتماد المفرط على الحلفاء الخارجيين: تسمت الاستراتيجية العسكرية للنظام السوري منذ 2011 بالاعتماد المفرط على الدعم الإيراني، وخاصة الحرس الثوري، وحزب الله اللبناني، وفصائل المقاومة العراقية. هذا الاعتماد قلل من جاهزية الجيش السوري الذاتية، وأضعف استقلاليته العملياتية، مما أدى إلى تآكل قدراته في مواجهة أزمات متعددة【2】.
الانقسامات الداخلية والخيانة العسكرية كشفت تقارير ميدانية عن وجود انقسامات في صفوف القيادات العسكرية السورية، حيث تعاون بعض العناصر مع جماعات مسلحة مدعومة من الخارج. هذه الخيانات زادت من تعقيد المشهد الأمني، وأظهرت ضعف النظام في احتواء هذه الانقسامات【3】.
سوء الإدارة والفساد أدى الفساد المستشري وسوء الإدارة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية داخل سوريا. ضعف الأداء الحكومي ساهم في خلق بيئة خصبة لاحتضان المعارضة المسلحة، وزاد من عجز النظام عن إدارة الأزمات المتلاحقة【٤
ثانياً: تأثير الأزمة على محور المقاومة حيث تراجُع النظام السوري أثّر بشكل مباشر على محور المقاومة، الذي يعتمد على سوريا كدولة محورية في استراتيجيته الإقليمية.
تهديد المصالح الجيوسياسية: شكلت سوريا محورًا استراتيجيًا لنقل الدعم اللوجستي والسياسي لحزب الله والفصائل العراقية. ومع فقدان النظام السيطرة على مناطق واسعة من البلاد، أصبحت هذه المصالح مهددة، خاصة مع استمرار الضربات الإسرائيلية للأهداف العسكرية داخل سوريا【5】.
استنزاف الحلفاء:اضطر حلفاء سوريا مثل إيران وحزب الله إلى تخصيص موارد كبيرة لدعم النظام، ما أثر على قدراتهم العسكرية والاقتصادية. الاستنزاف الطويل جعلهم أقل قدرة على مواجهة تحديات إقليمية أخرى【6】.
تنامي نفوذ القوى الإقليمية المنافسة:استغلت تركيا ودول الخليج تراجع النظام السوري لتعزيز نفوذها في المنطقة. تركيا، على سبيل المثال، دعمت فصائل المعارضة المسلحة لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، خصوصًا فيما يتعلق بالملف الكردي【7】.
ثالثاً: السيناريوهات المستقبلية لسوريا
استمرار الصراع المسلح:في ظل غياب حل سياسي شامل، يرجح استمرار النزاعات بين الفصائل المسلحة، مثل “هيئة تحرير الشام” و”قسد”، بسبب تضارب الأيديولوجيات والمصالح. هذا السيناريو يعزز الفوضى ويهدد بتوسع رقعة الصراع【8】.
تفكك الدولة إلى فيدراليات:مع استمرار الفوضى والتدخلات الدولية، قد يتجه المشهد السوري نحو تقسيم البلاد إلى كانتونات عرقية وطائفية. هذا السيناريو يخدم المصالح الإسرائيلية والأميركية الرامية إلى إضعاف الدول المركزية في المنطقة. ومع ذلك، فإن هذا التقسيم يواجه تحديات كبيرة، خاصة على صعيد رفضه محليًا وإقليميًا【9】.
إعادة بناء النظام المركزي:رغم التحديات، يمكن للنظام السوري استعادة جزء من قوته إذا تمكن من تعزيز شرعيته داخليًا عبر تحسين الخدمات وإعادة الإعمار، بدعم الحلفاء، خاصة روسيا وإيران. هذا السيناريو يعتمد على قدرة النظام على تقليص الفساد وتوحيد الصفوف【10】.
رابعاً: الدروس المستفادة للعراق
١-الأزمة السورية تحمل دروسًا مهمة للعراق، الذي يواجه تحديات مشابهة:
٢-ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية لتجنب الانقسامات الطائفية التي يمكن أن تُستغل خارجيًا.
٣-تحسين قدرات المؤسسات العسكرية والأمنية لضمان استقرار البلاد دون الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي.
٤-مراقبة التدخلات الإقليمية والدولية التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي.
٥-تطوير سياسات اقتصادية شاملة تُعزز الاستقرار الاجتماعي وتُقلل من احتمالات اندلاع أزمات مشابهة.
ويمكن القول تُظهر الأزمة السورية أن الفوضى والفدرلة ليستا مجرد سيناريوهات مؤقتة، بل أدوات استراتيجية تُستخدم لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالح القوى الكبرى. إن التحليل العلمي للأزمة يبرز أهمية صياغة سياسات وطنية وإقليمية تراعي التحولات الجارية، وتعمل على تقليص التدخلات الأجنبية، مع بناء استراتيجيات أكثر شمولية لتحقيق استقرار مستدام.
المصادر
محمدي، علي. الأبعاد الاستراتيجية لتحالف المقاومة في الشرق الأوسط. مجلة الدراسات الجيوسياسية، جامعة طهران، 2018، ص. 45.
سالم، رامي. الجيش السوري بعد 2011: تحديات البناء وإعادة الهيكلة. مركز دراسات الشرق الأوسط، عمان، 2019، ص. 88.
نصر، فواز. تأثير الفدرلة على استقرار الدول في الشرق الأوسط: سوريا نموذجاً. جامعة لندن، 2020، ص. 32.
الأمم المتحدة. تقرير الأثر الإنساني للنزاع السوري. نيويورك، 2021، ص. 12-18.
برترام، توم. التدخلات الدولية في الأزمات الداخلية: دراسة حالة سوريا. جامعة أكسفورد، 2017، ص٤٥.
غولدبيرغ، دانيال. الاستراتيجيات الإسرائيلية في سوريا: رؤية طويلة المدى. معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 2016، ص. 72-75.
مركز الجزيرة للدراسات. التحولات الجيوسياسية في سوريا. الدوحة، 2023، ص٤٠