التجارة حرفة قديمة، عني بـها العرب في شبه جزيرتـهم منذ زمن بعيد، وأسهموا فيها بقدر كبير، وخاصة أهل اليمـن الذين كان لهم دور ريادي في التجارة العالمية حيث اشتغل بـها الملوك والأقيال ورجال الدين والحاضـر والبـاد ممـا حدا ببعض الباحثيـن إلى الاعتقـاد بأن الحضارة اليمنية قامت على التجـارة مع البلـدان الأخـرى، وكانت سلع البخـور في نظرهم هي عماد هذه التجار.
وتختلف تجارة اليمن عن مثيلاتـها في أقاليم شبه الجزيرة العربية التي تعتمد في اقتصادها على تجارة المرور (الترانزيت)، إذ توفرت في بلاد اليمن المقومـات الأساسية التي تقوم عليها التجارة وتنشط بتوفرها وتزدهر، ونعني بذلك السلع التجاريـة المحلية، ووسائل النقل المختلفة، وطرق التجارة وخبرة الارتياد الجغرافي، في الوقت الذي أولـع فيه أهـل اليمن بالعمل التجاري وورثوه عن آبائهم وأجدادهم.
بدأت الحضارة العربية تنمو في بلاد اليمن في الأجزاء الجنوبية الغربية للجزيرة العربية، حيث عرفت هذه البلاد مساحات ممتدة من الأراضي الخصبة وقدراً كافياً ومنتظماً من الأمطار الموسمية تكفي لتأمين زراعة الأرض زراعة منتظمة، ولهذا تكسو أوديتها خضرة دائمة تمتد إلى نحو مائتي ميل على الساحل الجنوبي من شرقه إلى غربه.
ومع أن الزراعة أثرت تأثيراً مهماً في حياة أهل اليمن وتحضرهم، إذ لازم التطور الزراعي تطوراً في مرافق الحياة الأخرى، إلا أن هنالك مورداً طبيعيا فاق الزراعة من حيث الأهمية الاقتصادية تمثل في نباتات الطيوب والتوابل، ويأتي في مقدمتها البخور. والذي كان ينمو على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، ولا تـزال تنتجه بعض مناطق هذا الساحل بشكل طبيعي وزراع. وقد احتل البخور موقعاً مهماً في تجارة اليمن إذ كان أبرز السلع الحضارية في تجارتـهم، وقد عرف أهل اليمن قبل غيرهم أهميته واستخداماتـه المتعددة، وخاصة في المراسم الدينية. ثم انتقلت أهميته واستخداماته، إلى العالم القديم، وأخذ أهل اليمن على عاتقهم إمداد مراكز الحضارات القديمة بـما يحتاجونه من البخور، ولذا جذبت هذه النباتات أنظار العالم القديم وأثرت فيه، وبلغت من ذيوع الصيت ما جعل الكتاب اليونان والرومان يكتبـون عنها بإعجاب وانبهار، كما كانت هذه النباتـات السبب الحقيقي الذي يكمن وراء اهتمام هؤلاء الكتاب بالجزيـرة العربية وسكانـها .
وذكر هؤلاء الكتاب أن أشجار البخور وغيرها من الأشجار العطرية كانت تنمو على الساحل الجنوبي لبلاد اليمن، وفي الأقاليـم الداخليـة وسط غابـات كثيـفة ولذا كان أريـج الطيوب والعطور يفوح في طول البـلاد وعرضها. وأن العرب تاجروا بـها مع البلـدان الأخـرى، وبسبب هذه التجارة أصبح السبئيون من أكثر القبائل ثراء.
ونحـوه: تدخن بـه. وهو في معظمـه من صموغ الأشجار. ومن أنواعه:- الآلوه، والأفاقيا، والإيدع، والبلسم، والحذق، ودم الأخوين (القاطر المكي ـ العندم)، والرند، والصبر، والصندليه، والضرو (الكمكم)، والظفر، والعود، والقسط البحري، والكسا، واللادن، والمقل، والند، والمر، واللبان . إلا أن أشهر أنواع البخور هو بخور اللبان، والمر والصبر .
1 ـ اللبان: كان اللبان أكثر أنواع البخور جذباً للانتباه؛ نظراً لاستخداماته المتعددة ، ولذلك أصبح يطلق عليه اسم البخور المقدس. وهو عبارة عن سائل صمغي (لزج) عُرِف باسم اللبان عند العرب واسمه باليونانية (Libanos)، وبالهندية والفارسية (كُندر)، تضاف إليه نعوت كثيرة حسب طبيعته أو مكان إنتاجه، مثل لبان ذكر، لبان شحري، لبان مستكا.
ويستخرج اللبان من شجر يعرف بشجر اللبان واسم هذه الشجرة العام في علم النبات . ويذكر موللر أن المعروف منها خمسة عشر نوعا. فيما ذكر آخر أن المعروف منها خمسة وعشرون نوعاً كلها تنمو في حضرموت.
وشجرة اللبان من النباتات البرية قادرة على تحمل الجفاف والتي تنبت وتنمو من دون الحاجة إلى جهد الإنسان، وتوصف بأنـها شجيرة شوكية لا تنمو أكثر من ذراعين ، إلا أن الدراسات الحديثة أكدت أن طول الشجرة قد يصل إلى بضعة أمتار.
ويقوم الملاك باستخراج اللبان من أشجاره في فصل الصيف عن طريق فصد لحاء جذع الشجـرة وأغصانـها في عدة مواضع تتراوح بين عشرة إلى ثلاثين موضعاً حسب حجم الشجرة بأداة صغيرة تسمى المنقف. فينضح منها سائل لزج على شكل حبيبات متصلة لونـها أصفر شاحب إلى أصفر بني تترك نحو خمسة عشر.
2 ـ الـمر: سمي بـهذا الاسم لمرارته. وهو عبارة عن صمغ زيتي أغمق من صمغ اللبان، يتم الحصول عليه من أشجار شائكة لا تتجاوز في ارتفاعها ستة أقدام، لها أوراق صغيرة بيضاوية الشكل تتساقط في فصل الخريف. ويتم الحصول عليه عن طريق فصد لحاء شجر المر فيسيل منها صمغ الشجرة الذي يترك حوالي شهر من الزمن كي يتصلب.
وقد اشتهر عند الكتاب اليونان والرومان باسم (المر المعيني)، وهو في الحقيقة من منتجات أرض قتبان وحضرموت ،وكان المر من المواد الثمينة والغالية التي تباع داخل البلاد العربية وخارجها لاستخدامه في البخور والعطور والتحنيط، وقد أقبل العبرانيون والمصريون على استيراده وشرائه لاستعماله في الأغراض الدينية، ولشدة حاجة بلاد وادي النيل إليه أرسلت الملكة حتشبسوت بعثة مصرية إلى بلاد المر لجلب أشجار المر إلى مصر وزراعتها إلا أن تلك الجهود باءت بالفشل نظراً لظروف المناخ، وكان المصريون يستخدمون المر في الطقوس الدينية، وفي التحنيط، إذ أنه بعد أن يتم تنظيف المومياء وغسلها يملأ التجويف بخليط من المر والمواد العطرية الأخرى. كما استعمله العبرانيون في الدهن المقدس وعلاجاً لبعض الأمراض.
ثانياً:- وسائل النقل
بدأ تصدير البخور من جنوب الجزيرة العربية ومعه بدأ نشاط العرب التجاري الموغل في القدم، ولـهذا ارتبطت تجارة البخور في أذهان سكان العالم القديم في حوض البحر الأبيض المتوسط بالعرب عامة، وبأهل اليمن وفي مقدمتهم المعينيون خاصة بوصفهم أول من مارس تجارة البخور وأكثر من تاجر بـها حتى نسب البخور إليهم وعرف بالبخور المعيني.
وإذا ما كان اسم المعينيين قد ارتبط بالبخور، فإن تجارة قوافل البخور قد ارتبطت بالسبئيين، إذ أشارت الموارد إلى قوافل سبأ ، سادة طرق القوافل الكبيرة في الجزيرة العربية .
ويبدو أن السبئيين كانوا يشكلون محور تجارة البخور وإن لمع اسم المعينيين في حوض البحر المتوسط، والجرهائيين في الخليج العربي، وإذا ما كان توافر اللبان والمر في جنوب الجزيرة العربية بوصفها المنطقة الرئيسة لإنتاجه من أهم العوامل التي مهدت لنشوء وتطور طريق البخور التجاري فإن وسائل النقل كذلك تعد من أهم العوامل المهمة لتطور هذا الطريق وازدهاره بوصفها الوسيلة التي جعلت هذا الطريق محجة وطريقاً مجدودة بالوطئ .
لطفي عبد الوهاب يحيى، العرب في العصور القديمة
طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة
نزار عبد اللطيف الحديثي، محاضرات في التاريخ العربي
منذر عبد الكريم البكر، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام