موقف  الحوزة العلمية من الثورة الدستورية الايرانية
أ.د. عدي حاتم عبد الزهرة المفرجي
قسم التاريخ – كلية التربية للعلوم الانسانية  – جامعة كربلاء
                  تعد المشروطة (الثورة الدستورية الإيرانية) من الإحداث السياسية التي انعكست أثارها على الساحة الفكرية في  الحوزة العلمية ،وهو الأمر الذي يدفع بالسؤال عن الاسباب وقوف علماء الدين من هذا الحدث ،ومن قاد ذلك التحرك ،وهل وصل الى مستوى مراجع دينية عليا ،وبالتالي الإفتاء، وما اثر هذا الحدث الفكري على المدن العراقية ،وما هي العبرة التي استخلصت من ذلك الموقف . لقد سيطر الدين الاسلامي بسماته الروحية على الكثير من الشعوب الاسلامية ، وأصبح تأثيره واضح المعالم بإثارة تلك الشعوب ضد حكوماتها ، ونظراً لقدسية  الحوزة العلمية، ومكانتها الروحية أصبحت واحدة من أهم المراكز ذات الشعور الديني السياسي بالنسبة للعراق أو غيره من الدول الإسلامية الأخرى كالهند وافغانستان ولبنان وايران وغيرها . فعلى سبيل المثال وجدت الثورة الدستورية الايرانية(المشروطة)الاستشارة القانونية الدينية لنشاطها في  الحوزة العلمية عن طريق رجال مؤمنين بالنشاط الاسلامي الحركي، والمفاهيم الدستورية التي لا تتقاطع مع قيم الدين الإسلامي وبالرغم من ان جذور الثورة الدستورية الإيرانية ترجع الى عام 1905 تخص ايران وتعنيها ، الا ان لهذا الحدث دور في تاريخ نمو الوعي الفكري السياسي لدى أبناء الحوزة العلمية ، حينما فوضت هذه الثورة مسائل ( الحرية ، الديمقراطية ، والدستور ) لرجال مؤمنين بهذه المفاهيم . وهم المراجع الدينية ،السيد (محمد كاظم اليزدي) الذي كان مؤيد اول الامر ، والشيخيين (محمد كاظم الخراساني وحسين الخليلي) ورجال دين دون المراجع ،وهم السادة ( محمد علي الحسيني الملقب بهبة الدين الشهرستاني ومحمدعلي بحر العلوم) والشيوخ (محمد الحسين كاشف الغطاء ومحمد رضا الشبيبي وعلي الشرقي )وصلت رسائل الاستفتاء  الى  الحوزة العلمية عام 1906 من إيران طالبو فيها المشورة الدينية السياسية في مسائل ” ضرورة إيجاد مجلس مقيد بدستور أو لم يكن ، وكيف يكون ” وهل ” بوجود الملك ورئيس الوزراء وبقية أجهزة الدولة السابقة(الحكم القاجاري) ” ، ووصلت الرسالة الحائرة الأولى الى  الحوزة العلمية التي نصت : ” الى حضرات المجتهدين حفظة الحكمة الالهية : لابد وانكم سمعتم بمجلس الشورى الشعبي وانتم تعرفون جيدا ان هذا المجلس الذي يعمل على حفظ القوانين المستمدة من الدين لمحو الظالمين والخائنين ونشر العدل … الخ ” واستقبلها المراجع ( محمد كاظم الخرساني ، وحسين الخليلي ، وكاظم اليزدي ) الذين اجابوهم بنصيحة جواز إنشاء النظم الدستورية ، واكدوا ان من الضروري تنفيذها . اذ جاء في جوابهم : ” بسمه تعالى وبه نستعين … … ان قوانين المجلس المذكور على الشكل الذي ذكرتموه هي قوانين مقدسة ومحترمة وهي فرض على جميع المسلمين ان يقبلوا هذه القوانين وينفذوها . وعليه نكرر قولنا : ان الاقدام على مقاومة المجلس العالي بمنزلة الإقدام على مقاومة إحكام الدين الحنيف . فواجب المسلمين إن يقفوا دون أي حركة ضد المجلس ” كان لهذه المحاورات الدينية السياسية دورها في تفجر الوعي الفكري في الحوزة العلمية حيث قال السيد محمد علي الحسيني عنها : ” وآنذاك صار كل انسان يحمل فكرا نقيا وثقافة واسعة وعقلا ناضجا ينظم الى هذه الحلقة الذهنية التي قلبت تاريخا واسعا وخلقت تاريخا جديدا ، وصار الرجال الابطال واعلام الدين والمصلحون يهتفون بالحرية … الخ “وحينما تولى محمد علي شاه القاجاري ،منصب الملكية على ايران في 8 / كانون الثاني / 1907 ، وتوج في التاسع من الشهر نفسه ، ارسل المرجع الشيخ كاظم الخرساني وصايا عشر كأساس لنظام دستوري. الا ان الشاه الجديد  لم يلتزم بها ولا بمنجزات ومفاهيم الثورة الدستورية الايرانية . بل قام بتصفية المبادئ الدستورية فقام بالتحالف مع النظام القيصري الروسي ، و من رجال الدين ” فضل الله نوري ” لضرب منجزات الدستور في ايران ، لكنه يفهم ان مصدر رياح الدستورية التي تلهب ايران قادمة من  الحوزة العلمية في العراق من قبل اصلاحيين ، فقام باجراءات لتضييق الخناق عليهم منها ضرب الجالية الفارسية الموجودة في المدن المقدسة لانهم حلقة الوصل بين النخب العلمائية الفكرية والسياسية مع احرار ايران ، والطريقة لضربهم عن طريق تحريض الدولة العثمانية التي قامت بالفعل بمطلع عام 1907 بفرض ضرائب باهضة وثقيلة عليهم . فالتجأ افراد الجالية الى رجال الدين المؤيدين للثورة الدستورية اولئك الحركيون الذين وقعوا في حيرة وعجز كامل عن مساعدتهم فهم لا يستطيعون مساعدتهم لانهم لا يريدون ان يقعوا مع الحكومة العثمانية بمشاكل التي نجح الشاه محمد علي القاجاري في اثارتها . اذ اكد الحسيني هذا النجاح بقوله : ” وصدرت الاوامر من استنبول بوضع الرصد عليهم وحجرهم بصورة غير مباشرة ، وحجب الصحف عنهم وهذا الحال اوجب ان ينشق بين صفوف الاحرار … الخ ” . ووجه السيد محمد علي الحسيني اصبع الاتهام الى الشاه محمد علي القاجاري بخلق هذه الاجواء اذ قال : ” وهذه المصادمة لا استبعد كما سبق انها نتيجة توجيه الحكومة الايرانية للحكومة التركية ، وافهامها مغبة المصير فيما اذا قويت شوكة علماء الدين المصلحين “حاول الشاه محمد علي القاجاري ضرب الحوزة العلمية بنفوذ دولة اخرى مستبدة متهما سياسيها من رجال الدين كونهم مصدري المفاهيم الدستورية الحرة ، وكان هذه المرة النفوذ الروسي الذي وصف تدخلها محمد علي الحسيني بالقول : ” غير ان الروس اتصلوا بالشاه محمد علي وعملوا على تأسيس قنصلية مشاغبة بطهران وأسست في النجف قنصلية ( مشاغبة ) وقنصلا فخريا هو ابو القاسم الشيرواني ” .واشتدت إجراءات الشاه محمد علي القاجاري بتهديم البرلمان ، ومطاردة الدستوريين الذين استنجدوا مرة اخرى بالاسلاميين الحركيين الذين بدورهم ارسلوا فتوى مفادها : ” ان هذا المجلس يساعد على محو الاستبداد وازالة العادات الرذيلة ونشر القانون في البلاد . والخلاصة إن المسلمين ملزمين ان يتبعوا الاصول الجديدة في الحكم … الخ ” ولكن الشاه محمد علي القاجاري لم يتوانَ عن مواصلة استبداده حيث اصدر بيانا ملكيا قال منه : ” ان افتتاح المجلس وتحقير الاسلام شيء واحد “
وهو دليل على تطور الامر الى صراع دولي بين طرفين احدهما يريد النظم الدستورية الحديثة التي لا تعارض قيم الاسلام وشرائعه ويمثل هذا الطرف  الحوزة العلمية بقيادة علمائه،والاخر هم الانظمة الاستبدادية التي ترفض تلك النظم والتمسك بعروشها الملكية المستبدة وهي (الروسية والعثمانية والحكومة القاجارية) وعند محاولة الشاه محمد علي القاجاري الارتداد عن منجزات ما وصلت اليه المشروطة في ايران قامت قيامة النخب العلمائية في الحوزة العلمية في العراق والذين كتبوا اليه رسالة تدل على المعاني السياسية  والنضوج الدستوري وفي الوقت نفسه نمو افكار رجال الدين الحركيين إذ جاء منها : “… ونحن بحسب اطلاعنا على البلاد التي يطبق فيها الدساتير الملكية المقيدة بدستور نعلم انها تدار وفق قوانين عادلة ، ونحن نقول بكل صراحة ليس في المشروطة ما يخالف الدين الاسلامي…الخ “اضطر الشاه محمد علي القاجاري بعد ادراكه قوة نشاط النخب العلمائية في الحوزة العلمية في العراق  بأنه مخلوع عن السلطة فتوجه الى أحضان روسيا القيصرية بغية التدخل هذه المرة عسكريا في شمال ايران والقضاء على ما وصلت اليه المشروطة في ايران. وهذا الإجراء اجبر رجال الوعي السياسي في  الحوزة العلمية ارسال فتوى باسم المرجع الديني الشيخ محمد كاظم الخرساني الى جميع الدول الاسلامية عن طريق القناصل الدبلوماسية الموجودة في العراق ونص الفتوى ” استنهضوا فيها الاسلام للدفاع عن الشريعة المحمدية والذب والمحاماة عن الجامعة الاسلامية … الخ “بل تحول الامر الى مسألة قضية دينية حملها العراقيون بأسم الجهاد الديني السياسي وبغية تحقيق اهدافهم قاموا بتدعيم وحدة الصفوف بين القوى الدينية في  الحوزة العلمية ،والاعلان عن تأييد المفاهيم الدستورية الايرانية والدفاع عنها وكان لهذا الحراك السياسي بفضل الثورة الدستورية الايرانية (المشروطة) كسب تعاطف الفئة المثقفة الواعية العراقية مع حركة الاصلاح الدستوري التي تبنتها  الحوزة العلمية ، وشكل هذا التفاعل في محصلته النهائية رافدا مهما من روافد بلورة وعيهم السياسي وانضاج المفاهيم الديمقراطية والدستورية المبكرة. حيث سعى عدد من مثقفي العراق الى تنظيم أنشطتهم السياسية بتأسيس المنظمات والجمعيات السياسية ومنها ” جمعية المساواة في كربلاء ” و ” جمعية الإخوة في بغداد (  الكاظمية ).
ظهر من هذه الدراسة جملة من الاستنتاجات :-
1- احتواء  الحوزة العلمية (في تلك المدة )على مؤهلات فكرية سياسية ،تسمح لها ان تشارك بالإحداث السياسية التي لا تتعارض مع القيم الإسلامية .
2- عدم وجود صراع فكري سياسي بين النخب العلمائية في الأيام ألأولى من حدث المشروطة(الثورة الدستورية الايرانية) بسبب عدم السماح بالدول المستبدة (الروسية والعثمانية) بالتدخل في شؤون  الحوزة العلمية. 
3- كان رد الشيخ (محمد كاظم الخرساني) على الشاه محمد علي القاجاري،وفتواه بالدفاع عن ايران ضد الاحتلال الروسي ،يدل على قيادة ووعي جيد ومدرك للواقع الاجتماعي والسياسي .







شارك هذا الموضوع: