الأستاذ الدكتورة : كريمة نوماس محمد المدني
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الإنسانية
شعرية المفارقة
يعد مصطلح المفارقة من المصطلحات والمفاهيم النقدية التي برزت في ساحة النقد العربي المعاصر وقد لامست البحث البلاغي القديم تحت مسميات كثيرة .
وهي تعد واحدة من الإمكانات الأسلوبية التي يقدمها الخطاب اللغوي والذي يكتسب بفضلها سمة الأدبية بأبعادها الجمالية ، وبهذا يكون النص ممارسة دلالية ذات نظام خاص يعيد للكلام طاقته الفاعلة ضمن حيز الفضاء الذي يتصل فيه مبدع النص ومتلقيه ، فالمفارقة لا تخرج عن كونها أسلوبا أو نمطا بلاغيا يوظفها المبدع ليقول قولا أو يتصرف تصرفا يحمل معنيين أحدهما ظاهري والآخر باطني ، بمعنى آخر تظهر بمصاحبة البنية السطحية والبنية العميقة ، وهي في ذلك تعني انزياحا داخليا تتأسس قاعدته المعيارية على هيأة نسق مميز يتلاشى النسق ليظهر نسق آخر يفارقه في خصائصه الصوتية والتركيبية والدلالية . وقد عرفت المفارقة بتعريفات كثيرة متشابكة مع بعضها, ولعل من أبرزها ما ذهب إليه أحد الباحثين من أنها ((عبارة عن لعبة لغوية ماهرة وذكية بين الطرفين صانع المفارقة وقارئها على نحو يقدم فيها صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ وتدعوه إلى رفض معناه الحرفي وذلك لصالح المعنى الخفي الذي غالبا مايكون المعنى الضد وهوبذلك يجعل اللغة يرتطم بعضها ببعض ))
ويمكن ان تعد المفارقة فعل تواصلي يتكون من جملة واحدة أو من جمل عدة ،والفعل التواصلي يحتاج الى متلق مركزي داخل النص مؤثر وفاعل أو متأثر ومشارك , ومتلق غير مركزي هو القارئ أو الجمهور.
والشعرية هي انتهاك لغوي لأنساق لغوية تجاوزية في مدها الشعوري وتركيزها الدلالي فأن المعنى يبقى مفتوحا (لانهائيا )وهذا يعني ان الموضوع المتمثل او المعنى في الموضوع الجمالي لا يكون متعلقا ,لأنه ليس معنى منطقي يقبل الترجمة إلى لغة النثر الواضحة المحددة وبالتالي فأنه لايمكن استنفاده،ورغم انه لا يستنفد فانه يكون مباطنا برمته في المحسوس , لان المحسوس هو عينه الذي يجعله غير قابل لان يستنفد حيث انه يمده بخصوبة لا تنضب وبذلك تقوم عليه بنية الموضوع الجمالي .
ومن ابرز أنواع المفارقة التي رصدها البحث في شعر أديب كمال الدين هي :
أولا : المفارقة التصويرية
وتقوم المفارقة التصويرية على الإثارة الحركية التي تحققها بنية الصورة عبر التضاد اللغوي بين طرفي التشبيه أو عناصر الصورة المجسدة ليعبر عن حدة التكثيف الدلالي الذي يحرك الدلالات ويحفز مداليليها وحركتها النصية .فتتأتي الصور متلاحقة الدفعات تقصر وتطول سريعة الالتفات , كثيرة التحول وكأنها تتساءل عن سرها وعن وصفها وعن هيأتها .ومن ذلك مارصدناه عند الشاعر
أديب كمال الدين :
اختفى الحرف في الرمال
وربما في البحر
لكنه ترك لي نقطة غريبة
نقطة تنظر إلي بعينين مليئتين بالألم
:::
المرأة ذات المرآة
طارت فوق الغيمات
والمرأة ذات السرير
سقطت في المستنقع
والمرأة ذات النون
تاهت في الممرات الطويلة
والمرأة ذات النار
ضاعت في جمر الهذيان
أما المرأة ذات الشعر الطويل
فقد حملتني بشعرها الطويل
حتى باب الحرف
ثم ألقتني في بئر النسيان
نرى الشاعر أديب كمال الدين يجمع الصور اللغوية ليجعل منها صورا استعارية مكثفة لخلق كينونة مجازية تستهوي القارئ عبر خلق تلك الاستعارات التي يضفيها للحرف , فهو يربط بين الحرف والمرأة يجعل كل حرف ذا صفة خاصة بها فهو وصف مثير يصنعه الشاعر ليمزج بين هذه الصفات والحروف .
ونراه يصور مشهدا آخر في قصيدة له بعنوان : (القصيدة لم تنته بعد )
في بيت الساحر
كانت عظام الموتى تصرخ من الجوع
فيما كان العظم الكبير يقرأ
قصيدة الكراهية
هل كان عظم جلاد
أم شاعر زنديق ؟
كان حلم البارحة مثيرا جدا :
بدأ بمشهد الموتى وهم يقفزون
من نافذة القطار
وانتهى بمشهد اللصوص
وهم يهمشون تمثال كلكامش الكبير
::::
القصيدة لم تنته بعد :
فالعظم الكبير لم يزل
يقرأ قصيدة الكراهية .
والموتى أعادوا فرحين
إن الصور الشعرية التي رسمها الشاعر في هذه القصيدة ((تعكس ما يحس به الشاعر من امتزاج بين الفكرة التي يريد التعبير عنها , والعاطفة التي تضيف إلى الواقع ما تضيفه ))فالصور المستعارة كلها بينت فضاء القصيدة عند الشاعر التي امتدت لتشمل انزياحية مليئة بالشعرية في نسبة الصراخ والحقد والكراهية للعظام ومشهد اللصوص والقطار فتنوعت صورها استجابة لتنوع الموضوع , فكان مستوى التأثير في القارئ عاليا عبر تلك الصور الاستعارية غير مألوفة .
وثمة حرفية نسقية ينماز بها شاعرنا في تصويره تلك اللقطات المغايرة في قوله :
تؤلمني الأغنية
وهي تشير بأصابع مبتورة
إلى النجمة المعلقة في الأعالي
فأتذكر نبضي الذي مات في الشارع
لا يؤدي إلا إلى الخمر والدمع
وأتذكر ساعة أن يسمع رأسي
همهمة الريح ,
وانظر إلى البدر قاسيا
في جمال عجيب
والى الناس أشباحا يتقافزون
من حائط الذاكرة
تؤلمني الأغنية